الذي أنقذ “كركوك” من مجزرتها (تموز/1959) هو الفوج الأول-اللواء الأول… وليس كتيبة مدرعات “العقيد عبدالرحمن عارف”
قنبلة جديدة يفجرها الفريق الركن طارق محمود شكري
حقيقة كون كتيبة مدرعات بقيادة “العقيد عبدالرحمن محمد عارف” وقد تحركت سراعاً بأمر “الزعيم عبدالكريم قاسم” من “جلولاء” وأخمدت المجزرة القائمة بحق التركمان في مدينة “كركوك” خلال الأيام (14-16/تموز/1959) وأعادت سيطرة الدولة على ربوعها يوم (17/تموز) هي ما كانت مترسّخة في أذهان معظم التركمان العراقيين من جيلـَي الخمسينيات والستينيات.
ولكن السيد “الفريق الركن طارق محمود شكري” -والذي أعتزّ به معلماً وموجّهاً من حيث عملي تحت إمرته في وزارة الدفاع وقائداً للفرقة الثانية، وهو أحد بيارق الجيش العراقي والمفتش العام للقوات المسلحة خلال الثمانينيات وصاحب العديد من المؤلفات والكتب والتراجم الرصينة، والمعروف بمتابعاته المشهودة في العلوم العسكرية والإستراتيجية والتأريخ- وفور إطلاعه على مجلات تركمانية نشرت مقالاتي المتتابعات عن مجزرة كركوك/1959، فقد شَخـّصَ في متونها نقاطاً ومفارقات ومغالطات غير مقبولة -حسب رؤاه-.
أسرعتُ لأتشرف بزيارته في مسكنه مساء (الثلاثاء-18/ت1/2014) فارشاً أمام ناظريه صفحات مقالاتي تلك، قبل أن يبادرني بالحديث:-
الفريق الركن طارق:- لا ملحوظات لدي حيال ما سطّرتَه أنتَ من حقائق مؤلمة وسواها في مقالاتك المطوَّلة الثلاث، والتي سردتَ فيهما أوضاع مدينة “كركوك” ما قبل المجزرة ومشاهداتك في أيامها الثلاثة بأحداثها الدموية، فتلك خصوصياتك وأنت مسؤول عن مصداقيتها… إلاّ أن المعلومات عمَّن أعلم “عبدالكريم قاسم” بأخبار المجزرة تحتوي أموراً وقفت عندها ولا بد من إيضاحها.
أنـا:- سيدي الفريق… أنا أتشرف لمجرد إهتمامك بمقالاتي ومتابعتك لها، وجاهز لتقبّل ملاحظاتك أزاءها وتنبيهي نحو أخطائي وهفواتي بكل رحابة صدر وسرور.
السيد الفريق:- حسناً… قبل الخوض في التفاصيل أود الإيضاح بأن الضباط الأقربون من “الزعيم عبدالكريم قاسم” والذين عملوا معه منذ (تموز/1958) وما تلاه، هم:-
المرافق العسكري الأقدم:- “العقيد وصفي طاهر”.
السكرتير الشخصي:- الرئيس أول الركن (الرائد) الركن “جاسم كاظم العزاوي”… وليس “قاسم العزاوي” كما أوردتَ إسمه في مقالتك ولم يشغل منصب مُرافق.
المُرافق العسكري:- الرئيس أول/الرائد “قاسم الجنابي”.
المرافق الثاني:- الرئيس/النقيب “حافظ علوان” مرافق كذلك.
أنـا:- شكراً سيدي على التصحيح، ويبدو أن كلمة “قاسم” قد إختلطت عليَّ أو ربما على سواي مع الإسم “جاسم”، كما أننا لم نكن نسمع في حينه سوى بـ”العقيد وصفي طاهر” مرافقاً عسكرياً لـ”الزعيم عبدالكريم قاسم”.
السيد الفريق:- نعم، ولكن الواجب يملي عليكَ وعلى كل من يدوّن شيئاً من التأريخ، أن يكون في غاية الدقة حتى في أبسط الأمور، لأنه إن أخطأ ولو في مجرد إسم شخص أو منطقة أو تأريخ أو ساعة أو يوم، وإتضح بعدئذ العكس أو عدم الدقة، فإن المتابع قد يفقد ثقته أو تتضاءل، فعنئذ يشكّك في جميع ما أورده الباحث ولا يصدّقه، وقد ينفر من كتاباته.
أنـا:- صحيح يا سيدي… لكني لا أحاول الدفاع عن نفسي، فقد نقلتُ إسم ذلك المرافق أو السكرتير عن أفواه السادة الذين تحدثوا عن تلك المجزرة وذيولها، فقد كنت عام (1959) تلميذاً في الثالث المتوسط.
السيد الفريق:- حسناً… والآن دعني أن أخوض في صلب الموضوع وأسألك تحديداً:- ((هل شاهدتَ بعينك المدرعات التي تطرقتَ إليها وسط سردك أحداث اليوم الثالث من المجزرة؟؟ وكم كان عددها؟؟ ولمن تعود؟؟))
أنـا:- نعم شاهدتُها بالقرب من “مستشفى كركوك الجمهوري” في قلب المدينة عصر يوم (17/تموز/1959)، ورأيتُ بأم عيني (أربع) مدرعات تسير على جانبي الطريق بشكل متفرق آتيةً من إتجاه “محطة قطار كركوك”، وقد تقرّبتُ من إحداها بعض الشيء على سبيل الفضول… ولكن من الطبيعي في ذلك الوقت أن لا أُشخّص لمن تعود.
السيد الفريق:- نعم… فهنا بيت القصيد، فأكبر ظني أنها من مدرعات سرية الإنضباط العسكري للفرقة/2، والذي صدر أمر فوري بإناطة آمريته إلى “الرئيس (النقيب) رشيد العبدلي” ليحلّ محلّ “الرئيس (النقيب) فوزي نشأت” -المتهم بكونه أحد قياديي منفّذي المجزرة- وليست مدرعات تابعة لكتيبة مدرعات الفرقة/3 بقيادة “العقيد عبدالرحمن عارف”، والتي يُزعَم أنها أتت من “جلولاء” لنجدة “كركوك” حسبما كتبتَ أنتَ، لأن هذه الكتيبة لو وصلت إلى “كركوك” لإتصلنا بعضاً ببعض من أجل التنسيق لعملية إعادة الأمن لهذه المدينة الكبيرة، وبالأخص لكوننا خارج نظام معركة الفرقة/2 وقد أتينا للمهمة ذاتها.
أنـا:- يا سيدي، ليس الشخصيات الثلاثة ((العميد عبدالله عبدالرحمن، اللواء الركن نايف حمودي، واللواء الطبيب ناجي أحمد حمدي)) -رحمة الله على أرواحهم- قد ذكروا لوحدهم مجيء تلك الكتيبة لتطهير “كركوك” فحسب، بل أن أي مواطن في مدينتنا، وبالأخص من تعايش مع أوزار المجزرة أو كان قريباً منها، لديه قناعة راسخة حتى يومنا هذا بأن كتيبة مدرعات بقيادة “العقيد عبدالرحمن محمد عارف” هي التي أستعادت سطوة الدولة على مدينتهم المنكوبة.
السيد الفريق:- لهم الحق أن يعتقدوا ما يشاؤون، ولكن قدر علمي ومعايشتي للأحداث والمشاركة في أتونها والتعرض لنيرانها فإني لم أتلَمَّس شيئاً من ذلك… والآن دعني أبين لك بعض الأمور التي تتعلق بحركتنا من “الموصل” إلى “كركوك”:-
كنتُ بمنصب “نائب المساعد” بمقر فوج المشاة الأول/اللواء الأول تحت إمرة “العقيد عبدالقادر أحمد أديب”، وقتما تحركنا من معسكرنا الدائم في “الـمُسَيَّـب” منذ شهر (آذار/1959) إلى مدينة “الموصل” لفرض الأمن في ربوعها إثر أحداث “حركة العقيد الركن عبدالوهاب الشواف” وذيولها.
كنا ما زلنا نُعَسكِر في البعض من أبنية “مطار الموصل العسكري” حتى أواسط (تموز/1959)، وقتما حل يوم 14منه، فأقمنا إستعراضاً عسكرياً في شوارع المدينة بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لقلب نظام الحكم الملكي، ومُنِحنا على إثرها إستراحة في اليوم التالي.
بحدود الساعة الواحدة ظهر يوم (15/تموز/1959) وردتنا رسالة (سرية وفورية) من مديرية الحركات العسكرية بوزارة الدفاع معنونة إلى فوجنا مباشرة تقضي بحركتنا (فوراً) وبمرحلة واحدة دون توقّف نحو مدينة “كركوك” لحدوث مشكلات فيها.
أصدرنا أمراً إنذارياً بالتأهب للحركة وأسرعنا لجمع الضباط والمراتب المتمتعين بالراحة، سواء أكانوا بالمعسكر أو في المدينة، للمباشرة بإستحضارات التنقل وتهيئة الأسلحة والأعتدة والعجلات والمتطلبات الأخرى.
تحركنا بالساعة السابعة مساءً على طريق “أربيل” بمرحلة واحدة دون توقف حتى بلغنا ضواحي “كركوك” الشمالية بالساعة الرابعة من فجر (16/تموز) لنتخذ موقعاً بالقرب من معمل المشروبات الغازية (بيبسي كولا) مقراً لفوجنا، فيما إنتشرت سرايانا بتلك المنطقة.
هاتف آمر فوجنا السيد وكيل قائد الفرقة/2 “العقيد محمود عبدالرزاق”، فقال له بالحرف الواحد:-((أسرعوا لفك الحصار عنا))!!! فقد كان هذا القائد وجميع ضباط قيادة الفرقة ((غير الشيوعيين)) وسط “كركوك” محاصَرين في مكاتبهم بالثكنة الحجرية لا حول لهم ولا قوة ليومين متتاليين منذ مساء (14/تموز).
بعد هذه المكالمة دفعنا سرية مشاة واحدة نحو قلب المدينة بمهمة فك الحصار عن مقر الفرقة/2، ولكن الشوارع الخالية من الأهلين والمؤدّية إليه لم تكن سالكة ومفروشة بالزهور، بل بوابل نيران غزيرة تنهمر من دور وبنايات على جانبي الشارع العام من فوّهات رشاشات وبنادق لا يُعرَف من يطلقها.
وقد علمنا فيما بعد أنهم جنود ومدنيون مسلحون وأفراد من المقاومة الشعبية ((الشيوعية))، والذين تمترسوا مستميتين على الأخص في مبنى إحدى دور السينما القريبة من تلك القيادة، حتى تم القضاء عليهم وأجبَرنا العديد منهم على تسليم أنفسهم وأسلحتهم قبل التوجه لإنهاء الحصار المفروض على مقر الفرقة بحدود الساعة الواحدة بعد الظهر، فتمركزت فصائل هذه السرية حواليه في مباني دائرة الإنضباط ومستشفى “كركوك” العسكري.
أما السرايا الأخرى فقد وجّهناها منذ صبيحة اليوم ذاته لضبط الطرق الخارجة من المدينة للحيلولة دون هروب العابثين، ناهيك عن ضرورات الإنتشار في عدد من الساحات ومفارق الطرق ومسك الجسور والحفاظ على الدوائر العسكرية والمدنية والمستشفيات، حتى إستتبت الأوضاع في أنحاء “كركوك” شيئاً فشيئاً.
وممّا لم أنسَهُ قط طيلة حياتي -رغم كونها حبلى بدماء المعارك والحروب- فقد كنتُ شاهدَ عيان لمنظر بشع عند إخراجنا (إحدى وأربعين) جثة مغدوراً بأصحابها، كان المجرمون قد قتلوهم وسحلوهم ومثلوا بجثامينهم وتركوهم تحت قساوة الشمس وحَـرّ تموز اللاهب على أسطح الشوارع المبلطة الحارقة قبل أن يقذفوا بهم وسط مَكـَبّ للنفايات قرب “نهر خاصة”… إلاّ أن قـَدَر إثنين منهم شاء أن يبقَيا في رمقهما الأخير حتى أسرعنا بنقلهما إلى المستشفى لتـُكـتـَبَ لهما الحياة مجدداً بمشيئة الله تعالى.
صدرت الأوامر المشدّدة بالعودة الفورية لضباط ومراتب فوج المشاة/2-اللواء/4 المنتشرين في شوارع “كركوك” ومحيطها إلى معسكرهم، وألقينا القبض على أعداد من المراتب والمدنيين المسلحين الذين قاومونا بالسلاح، فإعتقلناهم وأودعناهم سجنَ سرية الإنضباط العسكري للفرقة/2 في قلب المدينة مشددين عليهم الحراسة خشية هروبهم بمعاونة البعض في ظل تلك الأوضاع الهشة.
كل تلكم الإجراءات الإحترازية إتخذناها قبل أن يحضر إلى كركوك “مجلس تحقيقي عسكري” عالي المستوى برئاسة مدير الحركات العسكرية بوزارة الدفاع “العقيد الركن عبدالرحمن عبدالستار” وعضوية ضباط وقضاة مدنيين كان “عبدالكريم قاسم” قد أمر بتشكليه بصفته وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للقوات المسلحة ورئيساً لمجلس الوزراء.
وقد أتى ذلك “المجلس” من “بغداد” على عجالة وعقد جلساته المتتابعة بمقر الفرقة/2 إياماً عديدة متعمّقاً في تفاصيل التخطيط للمجزرة وتنفيذها، حتى توصّل إلى توجيه تـُهَم القتل العَمد مع سبق الإصرار والترصد بحق (ثلاثة وعشرين) شخصاً من الموقوفين… أولئك الذين تطرق إليهم “عبدالكريم قاسم” في خطابه بكنيسة “مار يوسف” في “بغداد” (19/تموز/1959)، وتحدث عما إقترفوه من جرائم وحشية يَندى لها جبين الإنسانية.
أما الحدث الآخر الذي يهزّ الوجدان ويثير المشاعر الإنسانية فقد كان إحضار إبن أحد الشهيدين الشقيقين (((إمّا الرائد عطا خيرالله أو المقدم الطبيب إحسان خيرالله))) لتشخيص قَتـَلَة أبيه من بين عشرات العُتاة، وقتما أرعبه المشهد وهو ما زال صَبيّاً غضاً مُرهَفاً لم يبلغ العاشرة… فما أن تـَطـَلـَّعَ إلى وجوههم حتى إسترجع لحظات قتل أبيه أمام ناظرَيه، فأشار إلى أحدهم حتى صرخ عالياً وذرف دموعاً ساخنة، فكاد أن يُغمى عليه لرؤية تلك الوجوه المتجهمة التي فقدت آدَمِيّتها وتَنَمّرَت متوحشة كالضواري.
وبعد ذلك كلـّفني آمر الفوج “العقيد عبدالقادر أحمد أديب” بمهمة نقل أولئك المتهمين إلى “بغداد”، فإتخذتُ إحدى عربات الدرجة/3 من القطار النهاري المتوجه إلى “بغداد” وتحت حراسة مشددة، واضعاً أمام ناظريّ أسوأ الإحتمالات أن يتعرض القطار لهجوم شرس قد تقدِم عليه مجاميع مسلحة يحتمل أن تتواجد على خط سكة الحديد بغية إيقافه عنوةً لتخليصهم من بين أيدينا، لذلك ربطتُ أيدي كل إثنين بجامعة يد واحدة وثبّـتـُّها بمقعد القطار حتى بلوغنا “بغداد” في عصر اليوم نفسه بسلام، لنجد بإستقبالنا في محطة قطار “الباب المعظم” عجلات مسلحة محمّلة بمراتب ومدرعات الإنضباط العسكري لغرض نقلهم إلى السجن رقم (1) الحصين في معسكر الرشيد.
أنــا:- ولكن -يا سيدي العزيز- ربما يظل ببالي سؤال يتيم يشغلني، فهل يجوز أن كتيبة مدرعات الفرقة/3 قد تحركت إلى “كركوك” بعد إنقضاء مدة على المجزرة؟؟ ولذلك تصوّر العديد من الناس أنها هي التي أخمدت الأحداث وشاركت في أعادة سيطرة الدولة على المدينة.
السيد الفريق:- لم يبلغ إلى علمي أيّ شيء طيلة الأيام والأسابيع اللاحقات لذلك الحدث المريع، والتي واصل فوجنا خلالها مرابطته في “كركوك” مدة غير قصيرة، كما لا أستطيع أن أجزم… ولكن على قدر متابعتي لمجريات الأحداث ليس هنا شيء من هذا الإحتمال بشكل مُطلَق، ولم ألتـَقِ بأي عنصر من عناصر تلك الكتيبة، والتي لربما أتت إلى “كركوك” بعد أن تركها فوجنا فبقيت في الذاكرة الجمعية لأهل المدينة وقتما صحوا من هول الصدمة ونسوا فوجنا الذي أنقذهم من كوارث أعظم… ولكن هذا الأمر لا يحسمه سوى “جريدة الحرب” الخاصة بتلك الكتيبة إن ظل لها أثر.
أنـا:- لا أعتقد ذلك سيدي، فقد دَمَّرَ الغزاة المحتلون عراقنا الحبيب وحلّوا قواتنا المسلّحة وخرّبوا مؤسساتها وحرقوا وثائقها ومَحوا تأريخنا… فإذا كانت وزارة الدفاع ودوائرها العليا ومحتوياتها قد نُهِبَت وأُحرِقَت… فكيف حال “جريدة الحرب” لوحدة عسكرية مضت عليها ما يزيد على (خمسة) عقود؟؟!!!
السيد الفريق:- صادق… وأخيراً أود أن أختتم حديثي عن “المقابر الجماعية” التي تـُثار دائماً، فانا أقول أنها بدعة من بِدَع “إنقلاب 14/تموز/1958” كونها لم تكن معروفة قبله، فقد كانت باكورتها في “وادي الدَملماجة” بضواحي مدينة “الموصل” بعد إخماد “حركة الشواف” (آذار/1959)، وثانيتها في “كركوك” أيام مجزرتها بأواسط (تموز/1959) موضوعة بحثنا، وقد شاء قدري أن أكون شاهد عيان لكلتيهما.
ولكن تبدو للجميع وكأنها أضحت ((مثلاً يُحتَذى بها)) منذ ذلك التأريخ وحتى يومنا هذا، بل وتكررت وتضاعف عددها وأعداد من قـُذِفوا في أتونها، فلم يَنقـَضِ عهدٌ جمهوري خَلا من مقابر جماعية مع الأسف، وكأن ما يسمّونه بـ”الثورات” جاءت من أجل المجازر وتحقيق تلك المقابر وليست لإسعاد الناس كما تصرخ شعاراتهم قبل ((ثوراتهم)) عادة… لذلك فلا يمكننا إطلاق تسمية ((ثورة)) على أي منها، بل هي إنقلابات دموية بكل ما في العبارة من معنى، وقد تميّزت بالعنف والشراسة والمذابح ولم تجلب لشعب العراق ووطنه -الذي كان عامراً لغاية 1958- خيراً أو راحة بال، بل كانت نهاياتها جميعاً كارثية بحق الوطن والمواطن ومستقبلهما المنظور، وكأن ((القادم-الثائر)) الجديد حمل على عاتقه في كل مرة دوراً مُضافاً لتدمير ما يقتدر على تدميره بشكل يتفوّق على سابقيه، حتى أوصلونا إلى دمار الذمم والضمائر والوجدان والأخلاق والمبادئ وروح المواطنة، فغدت البلاد والعباد في أسفل سلالم أدنى دول العالم تخلفاً في كل مناحي الحياة وفوضى وإنعدام سطوة الدولة والقانون وإستتباب الأمن مصحوباً بنهب الأموال!!! وأمست “عاصمة الرشيد” موصوفة بأسوأ عواصم المعمورة لسكنى البشر!!!
ولا بد لي في ختم الختام إلاّ أن أستذكر بيتاً لأمير الشعراء “أحمد شوقي” وقتما غرَّدَ:-
وطني إن شـُغِلتُ في الخلد عنه شاغَلَتني إليه في الخلد نفسي
أنـا:- سيدي الفريق، أنا عاجز عن الشكر لشخصك الغالي وأعتذر لمقامك العالي فقد أشغلتك وإستحوذتُ على البعض من وقتك الثمين… ولكن أرجو أن تسمح لي لأتحدث عن ذاتي، فالحقيقة المؤسفة التي باتت مترسخة في أعماقي أني عدتُ أشكك لأي سرد عن وقائع جميع عهود الـتأريخ لما تلمسته من تناقضات وتباينات بين هذا القاص وذاك رغم مستويات ثقافاتهم ومعارفهم، فوقائع التأريخ القريب للغاية والتي عشنا أيامها وتعايشنا لياليها، يسردها هذا من زاويته ويتحدث ذاك من رؤيته ويرويها ثالث من نظرته في القرنين/20،21 بثورة إتصالاتهما وأقمارهما وفضائياتها ومواقع تواصلها الإجتماعي. فكيف بنا نصدق قصص القرون الوسطى والسحيقة وروايات ما قبل التأريخ وقتما لم تكن الكتابة بالأحرف المعروفة في يومنا معروفة آنذاك؟؟؟