كنت اختلف مع السياسة الإيرانية في دعمها لأحزاب المعارضة العراقية التي أمسكت زمام السلطة عن طريق المحتل الأمريكي بعد عام 2003 م ، باعتبارها أحزاب براغماتية ستقبّل اليد الأمريكية يوماً ما ، كما قبّل غيرهم اليد السعودية ، وأن هذه الأحزاب لا مبدأ ولا عقيدة مخلصة لها ، وقد شرعنت الفساد ونشرته بنحو مشابه لما فعله حزب البعث المقبور طيبة أربعين عاما ، بل استعانت بهؤلاء البعثيين في سرقاتها بنحو مباشر . وأن أحزاباً مثل الدعوة والمجلس الأعلى وتفرعاتهما الميكافيلية اللاحقة ليست سوى بقايا لنفوس مظلمة وانانيات عائلية وشخصية ومناطقية ليس بإمكانها حمل قضية كبرى كالسياسة المدنية الشيعية .
لكن هذا الاختلاف لا يمنع من الاعتراف أن غاية الإيرانيين كانت على الدوام عقائدية مبدئية ، احسن منظرو السياسة هناك الظن وهماً بمثل هذه الأحزاب لاعتبارات تاريخية ودينية . ومن ثم لم يكن الدعم الإيراني لهذه الجهات قائماً على فكرة افسادية كما في المشروع الأمريكي ، وإنما أخطأ الإيرانيون من حيث أرادوا أن يحسنوا حينها .
اما الأمريكان – الذين كانوا حلفاء لصدام وللدكتاتوريات الخليجية في آن واحد – فقد خططوا من سنين طويلة لإفساد الواقع العراقي ، حين جاءوا بصدام حليفهم الدموي الجاهل كما في الكتابات الاستخبارية العراقية والأمريكية والاوربية ، وحين ادخلوه في حرب شيعية شيعية بين إيران والعراق لطحن الشيعة في البلدين حيث لم يكن عمود جيش صدام سوى الشيعة المغرر بهم ، وراح الملايين من أبناء البلدين في تلك المجازر الغبية ، وخرج العراق مديوناً لبريطانيا وحدها من أجل السلاح بما يعادل خزينة العراق جميعها لعام 1988م . وكذلك حين استدرجوا صدام إلى سحق الكويت وحملوا العراق مليارات الدولارات من الخسائر والتعويضات لازال يدفعها إلى اليوم . أما سحقهم لمنظومة الصناعة والإقتصاد والثقافة والطفولة والصحة في العراق في عام 1991م فطاعون إجرامي لم يشهد له تاريخ الصراعات مثالا ، فضلاً عن الحصار المفجع الذي فرضه الأمريكان وحلفاؤهم والذي جوّع شعباً يحكمه ديكتاتور لا يعرف الرحمة والذي استمر حتى سقوط نظام صدام باليد الأمريكية .
ليأتي الأمريكان – الذين طوّعوا الأمم المتحدة – بنظام وكتل وشخصيات سياسية منبوذة ومنخورة ذهنياً ، في ظل أنظمة تم تقنينها لنشر الفساد والمحسوبية والحزبية والصراعات القومية والدينية ، وانتشار للشركات المتعددة الجنسيات ذات المنهج الرأسمالي الاحتكاري المافيوي المعهود غربياً وأمريكيا ، رغم أن الشعب لم يخرج بعد من بوتقة الإشتراكية العجوز ويعيش في مسحوقاً دون خط الفقر ، وليس في وسع التاجر العراقي فعلياً منافسة التكتلات المالية والصناعية الدولية .
فاضطر الشعب العراقي ومرجعيته الدينية والنخبوية للقبول باخف الضررين الأمريكيين من الاحتكام إلى هذه المنظومة السياسية والاقتصادية المحكومة أمريكياً والمنفعلة حزبيا ، او إدخال البلاد في موجات كبيرة من الفوضى ، لا سيما مع وجود بؤر نزقة لقيادات شابة غير واعية ومسلحة اطربت المشروع الأمريكي بغبائها وسذاجتها .
ثم صنع الأمريكيون القيادات الإرهابية في القاعدة وداعش في سجون تابعة لهم مثل بوكا ، لينشروهم كالجراثيم لتسميم الأرض العراقية ، وليفجروا شيعة العراق في اسواقهم ومحالهم ، بل وصل الأمر ان يقوموا هم وحلفاؤهم لهذه الأعمال الإرهابية بصورة مباشرة ، كما فعل الضباط البريطانيون الأربعة في البصرة ، والذين ألقى القبض عليهم ابو مهدي المهندس حينها ، وقد كانوا متنكرين .
ثم نخرت القيادة المشتركة للأمريكان المنظومة العسكرية للعراق ووزعت الضباط الفاشلين على مفاصلها ، لينتج جيش ضعيف انهار سريعاً أمام المجموعات الداعشية القادمة من البؤر الإرهابية في سوريا ومن القواعد الأمريكية في الانبار واعماق الجزيرة العراقية ، دون أن يتدخل الحليف الأمريكي لايقافهم بطائراته او آلياته ! .
وحين هبّ العراقيون لسحق هؤلاء القتلة من الدواعش راهن الامريكيون على فشل هؤلاء البواسل من أبناء عشائر العراق لا سيما الجنوبية ، وادعوا أن الأمر يحتاج إلى عشرات السنين . الا ان الانتصارات الإعجازية للحشد الشعبي وإعادة تصفيف المنظومة العسكرية أحرج الأمريكان واربكهم . إذ كانوا يخططون لتقسيم العراق ، فصنعوا مناطق محرمة على القوات العراقية دخولها ليدربوا فيها الارهابيين ويتركوا لهم متنفساً للاحتماء . حتى قاموا بإلقاء المساعدات العسكرية والغذائية واللوجستية لهم كما تم تصويره من قبل العراقيين والروس . ولما لم يجدوا ذلك كافياً لتحقيق الانتصار الداعشي على الغيرة العراقية قاموا بضرب القوات العراقية بالطائرات بصورة مباشرة ، حتى بلغ مجموعة الاعتداءات الأمريكية على القوات الرسمية العراقية منذ دخول داعش نحو خمسين اعتداء . وراح عشرات الشهداء العراقيون مضرجين بدمائهم الزكية . إلى أن أظهر الأمريكيون وجههم القبيح الصريح من خلال قتل واغتيال القادة العسكريين ذوي المناصب الرسمية . في انتهاك تم الاتفاق على دولياً بنحو كبير على كونه ( بلطجة ) . إذ خالف نص الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية ، وكذلك خالف الأعراف الدولية العسكرية والمدنية .
كل ذلك بعد ان استحوذ الأمريكيون وحلفاؤهم على الثروة العراقية من خلال جولات التراخيص النفطية ، التي تمت بالرشوة والفساد كما صرح القضاء البريطاني .
فيما حارب الأمريكان اي فرصة لتعاون عراقي صيني من أجل الأعمار والبناء ، ونشروا عملاءهم في مفاصل القرار المالي والصناعي العراقي . فيما كانت هيئة النزاهة العراقية ملزمة برفع تقرير شهري للإدارة الأمريكية من أجل استخدام أوراقها لابتزاز أولئك السياسيين العراقيين الفاسدين وتطويعهم للمشروع التخريبي الأمريكي ، فكانوا ضيوف السفارة الدائمين .
وفي ظل كل هذا لم تكن إيران سوى مستشار للمنظومة العسكرية العراقية لمرحلة ما بعد تأسيس الحشد الشعبي العراقي ، وبدأوا يساعدون العراقيين في تنظيم صفوفهم وعبور حواجز العرقلة الأمريكية . ولم تكن تجارتهم داخل العراق – وهو أمر طبيعي في ظل بلد مفتوح اقتصاديا – تعادل ما كانت عليه التجارة السعودية والتركية . بل وصل الأمر ان يضخ العراق النفط للأردن بأسعار تفضيلية مخفضة استجابة للطلب الأمريكي باعتبار أن الأردن حليف استراتيجي للأمريكان ، وهو البلد الذي يحتوي جميع أعداء العراق من الارهابيين والبعثيين الصداميين ، والذي رفضت حتى السعودية تزويده بالنفط بهذه الطريقة لأكثر من شهر .
فمتى كانت إيران اكثر قسوة من الأمريكان ، ومتى كان دورها أخطر من الدور الخليجي الذي أفتى وموّل قتل العراقيين على معتقدهم . ومتى صرّح الإيرانيون بخطر الهلال الشيعي كما صرّح ملك الأردن الورقي !ّ .
أن الكتابة ضد إيران ناشئة عن ثلاثة عقول غبية ، ذيول الأمريكان ، وبقايا البعث ، ويتامى الإرهابيين .
تنويه : ان كتابة هذا المقال لبيان ان العمق الاستراتيجي للعراق لم تكن يوماً امريكا او الممالك الخليجية البدوية الحليفة لها ، بل التاريخ يقول أننا لم نجد من هؤلاء سوى العداء والنهب لحدودنا وثرواتنا ، ومساندة الديكتاتوريات المقيتة . وهي دول لم تملك حضارة يوما .
فيما إيران كانت وحدها عمقنا الاستراتيجي دائما ، حتى أنها دعمت الشعب العراقي في فترة الحصار الأمريكي في التسعينات من القرن الماضي .
فربما نختلف سياسيا ، لكننا شيء واحد شعبياً وحضاريا .
ان الاشتراك الحضاري العراقي الإيراني مختلف كلياً عما عليه تاريخ كل المنطقة البدوي ، ولهذا وحده لا يمكن ان تفهم حكومات هذه الدول ما يريد شعبنا .