18 ديسمبر، 2024 9:06 م

الذين يحلمون بسقوط الغرب (أمريكا خصوصا) ويستنبطون من الخيال بدائل للواقع

الذين يحلمون بسقوط الغرب (أمريكا خصوصا) ويستنبطون من الخيال بدائل للواقع

الغرب، و على رأسه أمريكا، منذ القرن السادس عشر، يعني تراكم الخبرة و الثقافة و الإدارة والمهارة و اللباقة واللياقة. في الوقت الحاضر، لا يوجد للغرب بديل أفضل من الغرب نفسه على الإطلاق. كل الدول و القوى و الكـتـل و الكوامن الموجودة فوق الأرض، في هذه الكوكبة، لا تحمل في أحشائها أي استعداد حقيقي لتكون بديلَ خيرٍ للغرب، ولتكون أفضل لمستقبل البشر والأجيال القادمة. التفوق الحضاري لا يعني إمتلاك الأسلحة الفتاكة، وإنتاج غزير في الصناعات المتنوعة فحسب، كما تبدو الصين في واقعنا الحالي. التفوق قائم في مرمى أوسع من هذه الزاوية الضيقة. الصين ليست لديها ثقافة عالمية، تؤهلها أن تكون بديلا للغرب على المستوى العالمي. وهي لا تملك لغة تقدر أن تزيح الإنجليزية من على المنصة، و تكون بديلة لها. ثم إن الصين لا تملك تلك القيم و الخبرة و اللباقة و اللياقة التي تؤهلها، أن تشغل الموقع الذي يشغله الغرب منذ أكثر من قرن على مستوى العالم، بقيادة بريطانيا سابقا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية لاحقا. و الإسلام الذي كانت النقاشات حوله مطروحة كآيديولوجية بديلة لـ “الآيديولوجية الليبرالية الديموقراطية”، منذ ثمانينيات القرن الماضي، يعاني على مستويات أعمق و أوسع مما تعانيه الصين.

الإسلام اليوم كدين، يعاني التشويه والتراجع بين المسلمين و في العالم. فالإسلام العام الوسطي، مازال يُذبح بيد قوى صاعدة ومنتشرة، وهي قوى تحظى بالقوة والدعم الهائل. منذ عقود طويلة تمتد إلى أكثر من قرن، تحتل الوهابية مساحة كبيرة، في خارطة هذه القوى الصاعدة التي تفتك بالإسلام الوسطي. ثم تأتي القوى الشيعية وميليشياتها بزعامة إيران على بقية المساحة، وهي منذ عام 1979 تشكل معاول هدم مستمر للداخل الإسلامي. وبين هاتين القوتين تكمن قوى محلية مختلفة تدور في دائرة الرحى التي تطحن الإسلام و المسلمين، على الرغم أنه ليس من الضروري أن تكون هذه القوى المختلفة منضوية في دوائر الآيديولوجيات و الحركات و الأحزاب الوهابية و الشيعية. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أحد أكبر المنظرين للجماعات الإسلامية في هذا العصر، وهو سيد قطب، حيث أدرك مبكرا أن الهوة بين العالم الإسلامي و العالم الغربي شاسعة جدا على المستوى المادي و العلمي، حيث سبق الغربُ المسلمينَ بقرون كما يشير قطب. ولكنه رأى أن المسلمين يملكون البديل الأخلاقي الذي يقف الغرب إزاءه خالي اليدين.

في الواقع، هناك خلل و عجز كبيرين على المستوى الأخلاقي بين المسلمين، وهناك ثغرات و فجوات كثيرة في المنظومة الأخلاقية التي ينتسب إليها المسلمون، وفق الإدعاء، و بدرجات متفاوتة. لكن هذه المنظومة الأخلاقية، تغلب عليها التقاليد و المشاع الّذين يكونان السلوك الجماعي والفردي، والذي أحيانا يبدو وكأنه وليد الإسلام، وهو في الواقع نتيجة خليط معقد من تشابكات إجتماعية وفردية متراكمة عبر الأزمان. على أي حال، فضلا عن المسلمين الذين يعيشون أزمة عميقة على مستويات شتى وخصوصا المستوى الأخلاقي؛ تعاني الحركات و الجماعات السياسية الإسلامية أزمات عميقة وبنيوية تـتعلق بالهوية و والوجود والإستمداد الشرعي للكينونات التي قامت بإسم الإسلام (للقارئ أن يعود إلى مقالي المعنون: الحركات و التيارات الإسلامية، الوهابية و الإخوانية، من منتوجات الحداثة الغربية لا الإسلام: البروتستانتية الإسلامية و الجذور الماسونية للإحيائية الإسلامية). الأزمات و المشاكل و الخراب في شتى بقاع العرب و المسلمين شئ معروف منذ عقود طويلة، تمتد إلى زهاء قرنين من الزمان. في الدول العربية و الإسلامية هناك كوارث كبيرة، وأزمات عميقة إلى جانب تخلف كبير و نزاعات و صراعات دموية، أردت أجيالا متعاقبة صرعى حيث وسّعت جغرافيات الموت والمقابر. بإختصار، إن هذا العالم العربي و الإسلامي يحتاج إلى سفن نجاة، وسط أمواج عاتية ومخيفة ومدمرة. ومن كان وضعه على هذا النحو، فمن المضحك حقا، الحديث عن أي أهلية لهكذا حال أن تطرح كبديل ليس لواقع كواقع الغرب، بل ولأي واقع أقل جودة من الواقع الغربي.

لنعود إلى الصين، ومنها إلى الحديث عن اليسار الذي مازال يتشبث ببصيص أمل، لعل تقلبات الوقائع الراهنة تعيد القوى اليسارية إلى تشكيل كتـلة عالمية كالإتحاد السوفيتي سابقا. في الواقع هذا النوع من الحديث، ليس سوى أحلام يقظة، يتسلى بها من هم خارج سياقات التأريخ و الواقع. إن الصين (المحكومة بنظام الحزب الشيوعي الحاكم) ومعها روسيا التوتاليتارية الوريثة للإتحاد السوفيتي، تشكلان معا نموذجا من نماذج الأنظمة الشمولية و الإستبدادية التي فيها يُقمع الأفراد، ويعاملون كأدوات إنتاج أو أشياء تملأ المكان، حيث تـتوقف قيمة الفرد بما يملكه من رأسمال (بسيط للأغلبية) و مكانة في السلطة أو القرب منها. إن هكذا أنظمة هي عالة على شعوبها، فكيف بها أن تطرح كبدائل عالمية. إن قيمة اليسار في العالم، وكذلك قيمة الإسلام أيضا، تكمن في أن تتحول إلى مادة الصمغ المناسبة لسد الثغرات و الفجوات في النظام الغربي من جانب، و لتتحول إلى ثقافة تعزز مكانة الفرد في النظام الرأسمالي وتغني ثقافته و رؤيتة لنفسه و للعالم حوله. لإن كلا الرافدين يملكان في جعبتيهما ما يقدمانه لإصلاح و تطوير النظام الغربي، وحال الفرد الغربي أيضا، على مستويات شتى إقتصادية و سياسية و إجتماعية وثقافية وفكرية و سايكولوجية الخ.

ما عدا هذا المستوى المذكور، إن الحديث و الحلم بإنهيار الغرب، وطرح الأوهام والهوامات التي تقول بوجود بدائل في جغرافيات أخرى غير غربية، وأنظمة غير غربية كالتي ذكرناها في السطور السابقة، ليس سوى وقوع في أحاسيس مرهقة لشخص خارج السياق، يهوي إصطياد السمكة بالصنارة في قاع المحيط وهو جالس على حافة القمر. ولو افترضنا، أن الغرب انهار غدا، فهل هذا يخدم البشرية في العالم. الجواب بكل تأكيد هو كلا، لأن إنهيار الغرب معناه الوقوع في الفوضى العارمة ومن ثم ربما التقهقر نحو عصور ظلام جديدة لا يُعرف مداها الزمني.