23 ديسمبر، 2024 12:24 م

الذوق والمعتقد …. مقاربة فكرية ردا على الماضوية ؟

الذوق والمعتقد …. مقاربة فكرية ردا على الماضوية ؟

لم ينفك الوجود ألآنساني عن المعتقد , حتى أصبح المثل معروفا :” من أعتقد بحجر كفى ” وهذا ليس تبريرا لعبادة ألاصنام الحجرية التي شاعت في العصور القديمة بعد ضياع وتشتت ذرية أبناء أدم عن مفهوم التوحيد ” قل هو الله أحد ” وأبتعادهم عن بيت الله الحرام الذي خسروا بسبب ذلك ألابتعاد الجغرافي خسارة البعد الروحي ونتيجة تلك الخسارة أستعاضوا بتقديس غير المقدس وعبادة غير المعبود , حتى تنوعت تلك ألاستعاضة بين صنمية الجماد حتى قال الشاعر :-
أرب يبول الثعلبان برأسه
               لقد ذل من بالت عليه الثعالب ؟
وصنمية الكواكب والنجوم , فكان منهم من يعبد النجوم ومنهم من عبد غير ذلك حتى قدس بعضهم بعض الحيوانات , كل هذا حدث في الماضي .
أما اليوم فهناك عبادات مستترة وأصنام مخفية بعناوين مختلفة منها عناوين ” الملك ” و ” الرئيس ” و ” السيد ” و ” الوجيه ” يتساوى في ذلك الوسط الديني والوسط العلماني .
وكل هذه العناوين والمسميات الوضعية أخذت أختطافا من مسمى واحد وعنوان واحد ” قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله ألاسماء الحسنى ” .
ومن هنا حدث ألاختلاط في الرؤية والتشتت في الفكر بين ماهو ديني وما هو علماني , ونتيجة أخطاء الطرفين , وفيما يخص الدين كان الخطأ في التطبيق ولم يكن الخطأ في الدين .
ولذلك راح البعض يبحث عن مخرج لتجنب خطأ الطرفين , فأقترح : أعتماد التحول الذوقي معتبرا أياه بديلا عن التحول في المعتقد , حيث يرى هذا أن المتحول الذوقي لايسبب مشكلة , بينما يرى أن التحول في المعتقد يسبب كثيرا من المشاكل لصاحبه وللمجتمع ؟
ونسي من يقول بالمتحول الذوقي : أن الذوق أو الرغبة في ألاشياء غير الثابتة هو ليس معتقدا .
فالمعتقد أو العقيدة تمر بعدة مراحل من الحيوية والقوة مستمدة من ألانطباع مباشرة , فنحن حين نرى العلة كما يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر نكون فكرتنا عن العلة أعتقادا , ونظرا لعلاقة العلة والمعلول , سوف ينتقل الذهن من فكرة العلة الى فكرة المعلول , وتكتسب فكرة المعلول على هذا ألاساس الحيوية والقوة من فكرة العلة , وترتفع من مستوى التصور الى مستوى ” ألاعتقاد ” وهذا التفسير هو لدافيد هيوم ” وقد أخذ عليه من قبل الشهيد السيد محمد باقر الصدر بمايلي :-
أن ألاعتقاد بالعلية يزودنا بقضيتين : قضية فعلية فحواها أن الحديد قد تمدد فعلا بالحرارة , وألاخرى قضية شرطية وهي أن هذه القطعة من الحديد أذا تعرضت للحرارة فسوف تتمدد وأعتقادنا بهذه القضية الشرطية لايتوقف على تعرض تلك القطعة للحرارة فعلا , وفكرتنا عن تمدد الحديد لايمكن أن تكون أعتقادا , لآنها حتى تكون أعتقادا لابد لها من الحيوية والقوة التي تستمدها من الفكرة ألاخرى المرتبطة بها في الذهن وهي فكرة الحرارة , وفكرة الحرارة نفسها ليس فيها حيوية وقوة , لآنها لم تنشأ من أنطباع حسي .
 أن هيوم من أجل أثبات مفهومه الفلسفي عن ألاستدلال ألاستقرائي وعن العلية بوصفها عادة ذهنية للآنتقال من فكرة الى فكرة , والجواب أن المثال الواحد لاينفي أحتمال الصدفة النسبية .
 أن أستناج هيوم بماسماه بالعادة الذهنية في موضوع المصابين بالصداع والذين تستعمل معهم مادة قد أقترنت بمظاهر معينة , فتكون تلك المادة سبب تلك الظاهرة , ولكن أذا حدث تضليل في التجربة فيمكن تفسيره على أساس ألاعتراف بالواقع الموضوعي للعلية وكونها علاقة ضرورية بين الحالتين في العالم الخارجي , وهنا لابد من التفريق بين ألاحتمالات التكرارية وألاحتمالات المنطقية .
وعلى هذا رأينا أن ألاعتقاد يحتاج الى  القوة والحيوية , وأن ألاستدلال ألاستقرائي لايمكن أن يفسر على أساس ألاستجابة للمنبه الشرطي , لآن ألآعتقاد بوجود واقع موضوعي للظواهر التي ندركها من العالم الخارجي : هو ألاستقراء .
وألاعتقاد من هذا المستوى هو من مدركات العقل الذي يشخص الموقف ويتحمل المسؤولية ” لله على خلقه حجتان : حجة ظاهرة هي أنزال الكتب وأرسال الرسل , وحجة باطنة هي : ” العقل ”
والذوق لايتحمل هذه المسؤولية ولا يرقى لذلك الدور , ووظيفته محدودة بأنتاج الرغبة المصحوبة بالشهوة التي تبقى من خصوصية ألافراد الذين يختلفون في ألوانهم مثلما يختلفون في رغباتهم , ولذلك نجد أفراد العائلة الواحدة يختلفون في رغبتهم للطعام من حيث النوع ومن حيث الوقت بحيث لايؤثر على وحدة ألاسرة , بينما نرى ألاختلاف الفكري بين أفراد العائلة يؤدي الى تفرقهم مثلما يؤدي الى تفرق المجتمع الواحد والشعب الواحد .
والذوق قضية مرتبطة بالهرمونات وما تفرزه من سيكولوجية تختلف في خياراتها ألانية في الطعام والشراب واللباس ” وفاكهة مما يتخيرون  ” ولحم طير مما يشتهون ”   و ” خذوا زينتكم عند كل مسجد ” و ” لباس التقوى ذلك خير ” .
والعقل هو المنظم والمسيطر على الهرمونات ولذلك أصبح كما في قول رسول الله “ص” هو الحجة , بينما لاتمتلك الهرمونات تلك الحجة , وعليه لايكون الذوق عبر تحولاته كما يكون العقل والمعتقد في تحولاتهما , فألاول يبقى في نطاق الشخص والثاني يشمل الفرد والمجتمع , وعليه لايمكن مقارنة ألآلتزام بالدين ووظيفته كألالتزام بالذوق وماينتج عنه من رغبات , فالرغبة أمر عارض وزائل عندما لاتكون مقترنة بموقف عقلي , والمعتقد أمر ثابت ودائم ” لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا ألامر ماتركته ” – رسول الله “ص” في جوابه لعمه ” أبو طالب ” وكما قال تعالى عن ثبات موقف المؤمنين ” من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلا ” .
ومشكلة الذين يقترحون هذه الحلول أنهم لاينظرون الى وحدة الكون بمنهجية تتكامل فيها ألادوار ” وما من دابة في ألارض ولا طائر يطير بجناحيه ألا أمم أمثالكم ” ” يسبح للله مافي السماوات ومافي ألارض ” , وهؤلاء يجهلون أنهم يعيشون في كون متدين عرف وظيفته وأتجه الى هدفه ” ثم أستوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللآرض أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ” ولذلك تراهم يحاولون فصل الدين عن الدولة وعن السياسة وهم بعملهم هذا كمن يحاول فصل الرضيع عن أمه ” أن الله أصطفى لكم الدين” وحالة ألاصطفاء هذه هي خيار ألهي وليس بشري ” ماكان لمؤمن ولا مؤمنة أذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة ” وقضية ” لاأكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ” تأتي في طول الخط الديني وليس في عرضه كما قد يتصور البعض ؟
والدين لم يكن متأخرا رتبة عن وجود ألانسان كما قد يتصور البعض من أنه نزل تعويضا لذرية أدم بالثواب بعد طردهم من الجنة , بل هو متقدم على ذلك ومقترن بلحظة خلق السماوات وألارض ” أن عدة الشهور عند الله أثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات وألارض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم ”
وللدين قيمومة تحتاجها الفطرة البشرية مثلما تحتاجها علة وجود ألانسان ” أني جاعل في ألارض خليفة ” .
والتنكر لتلك القيمومة هو الذي يؤدي الى فوضى ألاجتماع وظهور حالات الفقر والمجاعة والظلم ” ولو أن أهل القرى أمنوا وأتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء ” .
والقيمومة للدين لها مظاهر في مقدمتها ” الحكم ” وبث ” العدل ”
قال تعالى :-
” لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ” .
” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ”
” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ”
 ” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ”
والذين يقولون بألاسلام السياسي وما يرونه من سلطات زمنية تنتسب للدين أدعاء , هؤلاء يقعون في خطأ ألاصطلاح , فألاسلام واحد من حيث المصطلح ولايمكن أن يكون سياسيا وغير سياسي وكذلك الذين يقولون بالدين السياسي يقعون بنفس خطأ المجموعة ألاولى , فالدين واحد ” أن الدين عند الله ألاسلام ” ” شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به أبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ”
ويصح أن يقال : السياسة الدينية , وألاقتصاد الديني , مثلما يصح أن يقال : السياسة ألاسلامية , وألاقتصاد ألاسلامي .
ومن المناسب أن نحذر من يحاولون هذه المحاولات أي من يريدون أستبدال المعتقد بالمتحول الذوقي ظنا منهم أن ذلك خلاصا مما أسموه بالدين السياسي أو العلمانية غير القادرة على مواجهة التجذر الديني وتحوله الشعبي أن يصيبهم ما أصاب من يستعملون مصطلح ” الماضوية ” ويقصدون بها ” الدين ” و ” الحداثوية ” في تعلق يغلب عليه سفه الشعار وأفلاس ألافكار ” مالكم كيف تحكمون ” و ” أفلا تعقلون ” متى كان الدين من الماضي ؟ وهو يعيش في وجدان كثير من الناس , ومتى كان ألاسلام غير حداثوي كما تقولون وهو من أستبق علم الفضاء عندما قال ” يامعشر الجن وألانس أن أستطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات وألارض فأنفذوا لاتنفذون ألا بسلطان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ” .
وهو من أستبق علم الطب وقال : ” ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه ” .
وهو من قال ” والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فأذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن بأنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير ” – 234 – البقرة- وقد أثبت الطب أخيرا بأن للزوج بصمة لاتزول من رحم المرأة زوجته ألا بعد هذه المدة وهذا ما دعا أحد العلماء الى أن يؤمن بألاسلام بسبب هذه ألاية ومدلولاتها العلمية , فهل يحق لبعض المتشدقين بالفهاهة من الكلام أن يستغلوا أمية البعض وجهل البعض ألاخر ليعلنوا أن الدين وألاسلام أصبح من الماضي ؟ ثم تحتضنهم فضائيات الفتنة وألاباحية لتجعل منهم مفكرين مجددين ؟
أن الدين الذي يعيش في نفوس وعقول الكثير من الناس ويقف معهم في ضعفهم وفي مرضهم وعند موتهم لايمكن أن يكون عنه بديلا لايملك أصحابه ألا الثرثرة وألادعاء ” وهم لايقدرون على دفع أذى ذبابة أو بعوضة ” ضعف الطالب والمطلوب ” وكما قال ألامام علي عليه السلام ” مسكين بني أدم تؤذيه البقة وتنتنه العرقة وتقتله الشرقة ”  قل لوكان في ألارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ”
رئيس مركز الدراسات وألابحاث الوطنية
[email protected]