23 ديسمبر، 2024 10:37 م

الذهنية الراديكالية : الإدراك العربي لمفهوم السياسة

الذهنية الراديكالية : الإدراك العربي لمفهوم السياسة

نادرا”ما نتصفح كتابا”، أو نقلب دراسة ، أو نقرأ مقالة ، دون أن تشير بأصابع الاتهام وتوحي بمشاعر الإدانة ، نحو أنظمة الحكم العربية المعاصرة باعتبارها ؛ مصدر كل المشاكل السياسية ، ومنبع كل الشرور الاجتماعية ، ومنتج كل المعاناة الاقتصادية . وكأنها ليست من نتاج الواقع الذي انسلخت عنه ، وليست من رحم المجتمع الذي ولدت منه ، وليست من صنع الانسان الذي انقلبت عليه . وإنما هي فكرة هبطت على الأرض من السماء ، وانبثقت إلى الوجود من العدم ، وانعكست على الواقع من الخيال . ولذلك يبقى الإدراك العربي لطبيعة السياسة إدراكا”سطحيا”ورؤية قاصرة ومنظور ملتبس ، يعجز عن اكتناه ماهيتها الإشكالية وسبر أغواها العميقة واستيعاب علاقاتها الجدلية . وهكذا فنحن حين نتحدث عن فساد الأنظمة السياسية القائمة ، غالبا”ما نهمل التطرق إلى تضعضع الأطر الاجتماعية التي تحكم باسمها . وحين نشير إلى استبداد السلطات الحكومية الفعلية ، عادة ما نتجنب الإشارة إلى تخلع الأنماط الثقافية التي تعتمد عليها . وحين نتعامل مع الدول الشمولية السائدة ، قلما نلّمح إلى تصدع البنى النفسية التي تمتح منها . وهو الأمر الذي نعتقد واهمين انه يجيز لنا جلد السياسة ومقاضاة السياسيين ، دون الحاجة إلى نقد المجتمع ومساءلة مكوناته وتجريم ذهنياته . بمعنى آخر إننا نبالغ في أهمية ما هو ملموس في واقع الناس ، على حساب ما هو مجرد في وعيهم . ونغالي في تقدير ما هو ظاهر في سلوكهم ، على حساب ما هو مضمر في قيمهم . ونسبغ قيمة أكبر على ما هو منفعل في علاقاتهم ، على حساب ما هو فاعل في أصولهم . ولعل هذا المنحى في رؤية الأمور ، وذاك التصور في تقييم الوقائع ، طالما أفضى إلى تكريس النظرة الاختزالية للواقع ، وترسيخ الفكرة الواحدية للمجتمع . بحيث يتم تجزأة وحدة المقومات وتفكيك شبكة العلاقات وتعطيل أوالية التفاعلات ، التي لا يكاد أي حدث تاريخي أو أية ظاهرة اجتماعية ، الاستغناء عنها والصيرورة دونها ، باعتبار كونها المدخل الطبيعي لتحليل معطيات الأول وتأويل تجليات الثانية . ومما لا شك في إن هذه الإشكالية المعرفية تحيلنا – وبصورة مباشرة – إلى مضامين النظرية الماركسية الكلاسيكية ، لاسيما في شقها المتعلق بالمادية التاريخية ، الرامي إلى تأطير العلاقة ما بين الوعي والوجود بشكل عام ، والبنية الفوقية والبنية التحتية بشكل خاص ، وفقا”لأسبقيات النظرية الفلسفية والمنهجية الجدلية ، التي تعطي الأولوية للمظاهر المادية مقابل الظواهر الروحية ، وتمنح الأقدمية لعناصر الأنطولوجيا مقابل خواطرالايديولوجيا . ولأن ديالكتيك العملية الاجتماعية يتسم بالتشابك والتعقيد ، أكثر مما هو حاصل في مجال الطبيعة بما لا يقاس ، الأمر الذي فطن إليه مؤسسي الماركسية الأوائل ، حين شرعوا بإعادة قراءة المعطيات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية ،  لتدارك العيوب المتوقع وجودها على صعيد النظرية ، وتصويب الثغرات المحتمل حصولها على مستوى الممارسة . وذلك عبر نقد التيارات التحريفية البرودونية والفوضوية بالباكونية ، التي كانت قد تكونت وترعرعت ضمن أجواء الفكر الماركسي ذاته وتحت جناحه . ولذلك لن يتردد (انجلس) حين يقرّ ((بأننا ، ماركس وأنا ، ملومان حتى درجة ما لأن الشباب يشددون أحيانا”على الجانب الاقتصادي أكثر مما يجب . فلم يكن لنا بدّ من التشديد على المبدأ الرئيسي حيال خصومنا الذين أنكروه ، ولم يتوفر لنا دائما”الوقت أو المكان أو الفرصة كي نعطي العناصر الأخرى المشتركة في التفاعل حقها)) . ولما كان الفكر السياسي العربي لم يبرح يعاني الانشطار على ذاته إلى تيارات ثلاث ؛ الأول (قوموي) لا يكاد يرى الواقع الاجتماعي إلاّ من خلال وحدته المفترضة ، التي جزأها الغرب وفرقها الاستعمار ، بعدما كانت حقيقة تاريخية قائمة ، من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال . ولهذا فقد ركز جلّ اهتمامه على التقيد بالمعايير (العنصرية / الشوفينية) ، خلال تعاطيه مع القضايا السياسية الكبرى ، وما ترتب عليها من حقوق وواجبات ، وما تمخض عنها من مكاسب وامتيازات . بحيث لم يتردد لبلوغ مآربه في (احتواء) بقية الأقوام والأعراق والاثنيات ، باللجوء إلى ممارسة شتى صنوف (قمع) التباينات الكائنة في صلب تلك المكونات السوسويولوجية والانثروبولوجية . وهو الأمر الذي عزز مظاهر التحسس والتوجس لدى تلك المكونات ، حيال نوايا أقطاب هذا التيار ، لاسيما الأحزاب القومية التي اغتصبت السلطة في بعض الأقطار العربية ، بالتعاون أو بالتآمر مع العسكر ، وبالتالي ساهم في زيادة معدلات (التعصب) والتعصب المضاد من جهة ، وعمق ، من جهة أخرى ، مشاعر النفور والكراهية بين الجانبين ، باعتبار إن ((الكراهية تزداد إذا قوبلت بالكراهية)) كما قال الفيلسوف (باروخ سبينوزا) . هذا في حين ركز التيار الثاني (الماركسوي) رؤيته على واقعة – وان كانت حقيقة اجتماعية ، إلاّ أنها نسبية في معايير الجدل التاريخي – انقسام المجتمع إلى طبقات متعارضة / متصارعة ، يتمحور اهتمامها بالدرجة الأساس حول مصالحها الاقتصادية ، وان مستوى وعيها لذاتها يقاس بنسبة قربها أو بعدها من قوى الإنتاج . فهي (تقدمية) بالمعيار السوسيولوجي ، حين تكون على تماس من تلك القوى ومحايثة لإرهاصاتها ، إلاّ أنها لا تلبث أن تصبح (رجعية) بالمعيار الحضاري ، عندما تتخلف عن ديناميتها وتتقهقهر عن مجاراتها . ولهذا فقد تمحورت طروحاته حول لازمة (الطبقة / الصراع) ، إثناء انخراطه في المنافسات السياسية والسجلات الإيديولوجية ، التي طالما كان الواقع الاجتماعي مسرحا”لجولاتها وحلبة لصولاتها . الشيء الذي حال دون تبلور الأطر المعرفية المتنوعة ، داخل الهياكل التنظيمية للأحزاب ، فضلا”عن استعصاء نضوج وعيها