باستطلاع على عجالة لماجرى -ومازال يجري- في العراق خلال السنوات الأربعة عشر الأخيرة، يتبين لنا كم هو بليغ أثر خيانة المبادئ والقيم وشرف المهنة، على مرافئ البلد وعلى أبنائه بشكل مباشر، لاسيما إن بدرت تلك الخيانات من شخصيات قيادية في مفاصل البلد الحساسة، وسواء أكانوا يشغلون مركزا أمنيا أم عسكريا أم سياسيا أم اقتصاديا أم تربويا أم صحيا! فالضرر المترتب على خيانتهم واحد، وتبعاته لاتختلف بشدة وطأتها على حاضر المواطن ومستقبله، وبالتالي تنسحب أضرارها على البلد برمته.
يروى ان نابليون بونابرت قائد الجيش الفرنسي، عندما شن حربه على البانيا، كان هناك ضابط الباني يتسلل بين الفينة والأخرى اليه، يفشي له اسرار وتحركات الجيش الألباني، وبعد ان يأخذ نابليون مايفيده من أسرار عدوه، يرمي لهذا الضابط صرة نقود على الأرض ثمنا لبوحه بأسرار جيشه. ذات يوم وكعادته بعد ان سرّب الضابط لنابليون معلومات مهمة، همّ نابليون برمي صرة النقود له، فما كان من الضابط إلا ان قال: يا سيادة الجنرال، ليس المال وحده غايتي، فأنا أريد أن أحظى بمصافحة القائد العظيم نابليون بونابرت.. فرد عليه نابليون: “أما النقود فقد أعطيتك إياها كونك تنقل لي أسرار جيشك، وأما يدي هذه فلا أصافح بها من يخون وطنه”.
ونستشف من الآيبين الى العراق من بلدان كانوا قد هاجروا اليها بطوع إرادتهم، ما يغني عن التعليق والتعليل، بأن أرض الوطن هي الأم الرؤوم التي لاغنى عن أحضانها. ولطالما عاد أولئك المسافرون رغم عيشهم الرغيد في بلاد المهجر، ليعزفوا على أوتار أرضهم التي فارقوها في وقت ما، ألحانا دافئة تستكن اليها نفوسهم. وفي عراقنا بلغت أعداد المهاجرين رقما مهولا، وملأوا مشارق الأرض ومغاربها، بحثا عن الأمن والأمان والرزق والعيش الهني، وكان حريا ببلدهم أن يوفر لهم كل هذه الحقوق. ورغم هذا كله بقي الرجوع اليه غايتهم وهدفهم ولاءً وانتماءً له، ومن المؤكد ان الولاء للوطن يجري في عروق المواطن الصدوق مجرى الدم، إذ من غير المعقول أن يساق اليه المواطن سوقا إجباريا، فالنزيه والـ (شريف) يسمو ويعلو إحساسه بالانتماء على كل المشاعر والاعتبارات من حيث يدري ولايدري.
من قصة نابليون التي ذكرتها تتكشف لنا خسة من لا يكنّ لبلده الولاء كل الولاء.. والذي ذكرني بنابليون هو ما يحدث في الساحة العراقية على يد ساسة، اتخذ بعضهم من العراق -وهم عراقيون- سوقا لتجارة رائجة، ووسيلة لربح، وطريقا لمآرب أخرى، نأوا بها عن المواطنة والولاء للوطن. فهل علم الخائنون ماالذي سيتركونه من آثار وعواقب وخيمة، تنسحب أضرارها على العراقيين بشرائحهم جميعها، وعلى البلد بجوانبه كلها؟ وبالنتيجة يكون قدرهم كقدر الضابط الألباني، فتحرم إذاك مصافحتهم لنجاسة أفعالهم ودناءة نياتهم وسوء عواقبها! وهل هم على علم بأن أخس أشكال الخيانات هي خيانة الوطن؟ فقد اندرجت في قوانين العقوبات لجميع الأمم الحاضرة والمندرسة تحت مسمى “الخيانة العظمى”، وقد أقرت الأمم كلها عقوبة الإعدام جزاءً وفاءً بحق المدان بها، فيا ليت ساستنا يعلمون علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، أن الخيانة العظمى ذنب لايغتفر.