23 ديسمبر، 2024 12:41 ص

الذكرى العاشِرة للفوضى الخَلاقة

الذكرى العاشِرة للفوضى الخَلاقة

الفوضى الخلاقة، هذا المصطلح الذي أطلقته كوندليزا رايس، وزيرة خارجية أدارة جورج بوش الأبن، في نيسان / أبريل 2005 لصحيفة واشنطن بوست دون أن تضع توضيحاً له، حيث أعلنت عن نِيَّة الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية بالعالم العربي و البدأ بتشكيل مايُعرف بــ ” الشرق الأوسط الجديد” و ذلك عبر نشر الفوضى الخلاقة. البعض أصابهم الأستغراب – حيث كيف تكون الفوضى “خَلاَّقة ” ! فبدأ البعض يبحث و يترقب الأحداث، عسى أن يجد تفسيرآ لهذا المصطلح، وأما الغالبية العُظمى فلم يبالوا لهذة الكلمات.

بعد انتهاء الحرب الباردة وما شهده العالم من تغيرات أعتبرها الساسة و المفكرون الامريكان بمثابة الفرصة لصياغة النظام العالمي الجديد الذي يضمن لهم التفوق والانفراد,معتمدين على مقومات عدة منها القوة العسكرية والهيمنة الأقتصادية ( العولمة ) وصناعة القرارالدولي وتطبيق نظرية الفوضى الخلاقة لرسم العالم الجديد. البعض يؤكد أن هذة النظرية مردها يهودي/ إسرائيلي حيث تم ذكرها في بروتوكولات حكماء صيهون. ويؤكد أخرون أنها نظرية إجتماعية/ سياسية لا علاقة لها بأسرائيل بل هي نتيجة حتمية للصراع الإجتماعي. و آخرون يعتبرونها أداة لإدارة الأزمات, وهو جزء من علم الإدارة الحديث .

الفوضى الخلاقة (Creative Chaos )

نظرية سياسية /أجتماعية مارستها مجتمعات وذكرتها أديان عديدة, و لكنهم لم يشبعوها بحثآ ودراسة وتنظيراً كما فعل الأمريكان. للوهلة الأولى يتضح لنا التضارب في المعنى , ولكن عند التأمل يتضح لنا أن هذة النظرية تمر بمرحلتين , مرحلة الفوضى، و التي تهدف الى الهدم و العبثية و التدمير، و بعد إكتمالها تأتي مرحلة الخلق الجديد الجميل و التي تعني الإبتكار و الإبداع . أن ابسط تعريف لمفهوم نظرية الفوضى الخلاقة هو أنها حالة جيوبوليتيكية تعمل على تدمير النظام القائم أوتحييده، و إنشاء نظام جديد فعال بديلاً له. وتفسير ذلك ,أن المجتمع عندما يصل الى أقصى درجات الفوضى والتي يرافقها العنف والخوف وإراقة الدماء يصبح عندها من الممكن بناءه من جديد وبهوية جديدة تخدم مصالح المجتمع وأفراد ذلك المجتمع .

نعم الأمريكان أول من ناقش ونظر للفوضى الخلاقة وعلى رأسهم صاموئيل هنتنجتون وفرانسيس فوكاياما, لكن أول من وضع أُسسها وتنبأ بها هوالعالم المغربي المهدي المنجرة.

المهدي المنجرة ( 1933 – 2014 )

إقتصادي وعالم اجتماع مغربي مختص في الدراسات المستقبلية ويعتبر من أهم المراجع الدولية في القضايا السياسية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية. شغل مناصب عديدة منها أستاذ محاضر في عدد كبيرمن جامعات العالم ومستشار لمنظمات عالمية منها الأمم المتحدة, و شغل منصب رئيس الأتحاد العالمي للدراسات المستقبلية ( 1977-1981). أختار له والده أسم المهدي تيمناً بأسم الأمام المهدي المنتظر منقذ البشرية حسب نظرية تتبناها عدد من المدارس الإسلامية. تنبأ المهدي المنجرة بحرب الخليج والتي سماها الحرب الحضارية الأولى, و تنبأ بالربيع العربي والثورات العربية في كتابه الصادر في عام 2002 والموسوم بــ الإنتفاضة في زمن الذلقراطية, و أكد فيه أن الفوضى سوف تعم جميع الدول وسوف تلجأ هذة الدول الى الديمقراطية باعتبارها نظاما إنسانيا كوني لا محيد عنه. المهدي المنجرة ينطلق في أطروحته من مقولته ” الضغط يولد الإنفجار” ويؤكد أن الشعوب العربية تعيش هوانا وظلما يتجاوز مستوى الاستغلال الى مستوى الإذلال, وأن الطابع الإنساني لا يقبل بالذل و إستمراره وأن ثورته قادمة بدون محال. علماً أن المهدي أكد أن هذة النظرية هي للوقاية الأجتماعية وبسط العدالة الإجتماعية وليس للكسب السياسي .

صاموئيل هنتنجتون (1927 – 2008)

مفكر وعالم سياسي أمريكي شغل منصب بروفسور في جامعة هارفارد لــ 58 عام , له مؤالفات عدة أهمها ( كتاب صِدام الحضارات أو صراع الحضارات الصادر في 1996). صامويل يؤكد في كتابه أن صراعات مابعد الحرب الباردة التي أنتهت بتفكك الأتحاد السوفيتي سوف لن تكون صراعات سياسية او إقتصادية, بل الإختلافات الثقافية والدينية والإجتماعية ستكون المحرك والمسبب للصراعات القادمة، وذكر ” أن الصراعات بين الدول والجماعات تولد نتيجة للرغبة في السيطرة على شئ ما كالناس, الارض, الثروة و فرض روئ المسيطر باللين او القوة “. ويضيف ” أن ما يهم الناس ليس الأيديولوجية أو المصالح الأقتصادية, بل الأيمان, والأسرة, والدم, والعقيدة ذلك هو ما يجمع الناس وما يحاربون من أجله ويموتون في سبيله”

وفي كتابه, وللأمانة العلمية وتثبيتاً أنه ليس أول من تنبأ و نظر لهذة الفكرة , يقول صاموئيل ” أن صدام الحضارات أو الصراع الإنساني قديم في حد ذاته وأن أول من فكر و نظر إليه هو المهدي المنجرة “. و يؤكد صامويل أن المنجرة أكتشف أن تاريخ العالم ليس صيرورة لأي حركة متسلسلة ومتتالية ولكنه صراع مستمر بين الحضارات. صاموئيل يؤكد في كتابه النظام السياسي في مجتمعات متغيرة الصادر 1968 ” أنه كلما تطورت المجتمعات كلما أصبحت أكثر تعقيداً، وإذا لم تصاحب عملية التطوير الاجتماعي عملية تطوير سياسي ومؤسسي فإن النتيجة تكون إزدهار العنف “. و يضيف ” بأنه في كثير من المجتمعات المتغيرة، صيغة الحكم هذه غير مترابطة. فالمشكلة ليست في إجراء الانتخابات ولكن في خلق المؤسسات ، فإن الانتخابات في البلدان المتغيرة تؤدي إلى تعزيز قوة مدمرة تهدم هياكل السلطة العامة فتعيش الفؤضى ما لم يصحبها نظام مؤسساتي يعمل على تطوير المجتمع ” .

فرانسيس فوكاياما من مواليد ١٩٥٢ ، عالم السياسة والأقتصاد, ياباني المولد أمريكي الجنسية , أستاذ محاضر في عدة جامعات منها جامعة هارفارد وستانفورد وعضو في هيئات مختلفة منها هيئة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية. له مؤلفات عديدة أهمها نهاية التاريخ والإنسان الأخيرالصادرعام 1992.طبقآ لنظرية فرانسيس ان الديمقراطية الليبرالية هي أفضل النظم التي عرفها الأنسان أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً مع أنه لا يتبنى فكرة نهاية الظلم والإستبداد في العالم وأنما نهاية التاريخ, لا من حيث الأحداث, بل من حيث الأيدولوجيات. ويؤكد أنه ليس من الضرورة أن تصبح كل المجتمعات ليبرالية, ولكنه يؤمن أن الانسان سوف يجد ضالته في الديمقراطية الليبرالية وأن الأيدولوجيات الأخرى سوف تفشل في تلبية طموحات الأنسان. أن كتاب نهاية التاريخ و الإنسان الأخير هو باكورة مقالات نشرها فرانسيس في عام 1989,حيث كان يجادل فيها أن تطور التاريخ البشري كصراع بين الأيديولوجيات التي يعتبرها قد أنتهت بسقوط جدار برلين عام 1989 وان العالم يسعى الى الديمقراطية الليبرالية.

نجد مما تقدم أن عدداً من المفكرين تنبأوا بسقوط العديد من الإيديولوجيات, و يؤكدون أن الصراع القادم سيكون محوره الأختلاف الفكري/العقائدي , وأن كل من كتب ونظر الى نظرية الفوضى الخلاقة نجده يتحدث عن تغيير يصيب المجتمعات يرافقه صراع و دماء وبعد أن تكل وتتعب تتجه هذة المجتمعات الى البناء والخلق والإعمار. ولكن لم يتطرق اي منهم لِنقطة ما إذا كان هناك سبيل لتفادي هذة الصراعات والقتل وسفك الدماء والتوجه الى البناء … أي تجاوز مرحلة الفوضى، و الولوج في مرحلة الخلق والبناء. وهل أن اسباب ومسببات هذا الصراع الحتمي هي داخلية ام خارجية ؟ واذا كان بالإمكان تفادي الصراع, هل سوف نحصل على ما نصبوا اليه ؟ أم أنه سيكون عملية ترقيعية ولن نصل الى التغيير المطلوب. وأذا كانت دوافع الصراع داخلية هل من الممكن حلها بالحوار ؟ وأذا كانت خارجية هل من الممكن صدها ؟

أن الفوضى الخلاقة تسعى الى تغييرالنظام القائم وإنشاء نظام جديد, لذا لا مجال الى الحلول الترقيعية لأن النظام الحالي بطبيعته وهيكلته لا يسمح للحوار من أجل التجديد و التطوير, بل نجده متمسكاً بالنظام القائم ويعتبره أرثاً عن الأجداد ويجب المحافظة عليه, أي أن عملية الصراع و الفوضى قادمة لا محال بسبب الأوضاع القائمة, لذا يجب هدم المجتمع وبناء مجتمع جديد. وهناك حقيقة أخرى وهي أن الصراع لا يقتصر على كونه

صراعاً بين الحضارات والأيديولوجيات المختلفة, بل أن الصراع يشمل أبناء المجتمع الواحد والحضارة الواحدة بسبب تباين وجهات النظر وإختلاف المستوى الثقافي والأجتماعي والتعليمي والطبقي في المجتمع الواحد . فما أجده أنا أرثاً فكرياً وحضارياً يجب المحافظة عليه, تجده أنت خزعبلات يجب تركها ونبذها, وما أجده أنا ثقافةً ومدنية وتطور, تجده أنت أفكارغريبة مستوردة يجب محاربتها. ويبقى أخطر هذة الصراعات هو الصراع الديني / المذهبي / العقائدي لانه مرتبط ومتصل بمقدسات المجتمع ولا يمكن المساس به. لذا وكنتيجة حتمية نشأت تيارات منها أصولية سلفية متشدده ومنها معتدلة تدعوا الى التمسك والدفاع عن الدين / المعتقد, لأنهم يؤمنون أن الدين هو وجودهم و ان وجودهم من الدين.فعلى سبيل المثال نجد التيار السلفي المتطرف لا يكتفي بالدعوة الى الدين الإسلامي الحنيف, بل يدعوا و يهدف الى المحافظة وتطبيق طُرق وإسلوب حياة السلف بكل تفاصيله من مأكل وملبس وحياة إجتماعية ويعتبره جزءٍ من الدين والمعتقد, ولا يسمح لاحد بمناقشة ذلك, بل في أحيان كثيرة يقدمون سُنة السلف على مبادئ المعتقد. وتسعى هذة التيارات الى بسط نفوذها وسلطانها بقوة السيف لتطبيق هذا الهدف عبر التنكيل والقتل وتحت شعار أعادة حكم الخلافة الإسلامية. وهناك تيارات عقائدية معتدلة هي الأخرى تسعى الى بسط نفوذها عبر رفع شعارتطبيق حكم الله في الأرض من أجل الوصول الى السلطة, وأن كان ذلك عبر صناديق الإقتراع رغم عدم أيمانهم بها ويعتبرونها من صنع الغرب الكافر, لكنهم يعتبرونها اسلوب من اساليب إتمام البيعة لهم, وعند وصولهم الى مبتغاهم، أي السلطة، يرفضون التخلي أوالتداول السلمي للسلطة لأنهم يعتبرون ذلك تحدي لسلطة الله في الارض .

أن هذا الصراع الفكري/ المذهبي / العقائدي الذي تمر به الدول العربية والإسلامية سوف يكون أداة لنشوب الفتن والحروب والصراعات وسفك الدماء, وهو أساس الفوضى التي تعصف ببلدان الشرق الأوسط في وقتنا الحاضر. وهو من أرث هذة المجتمعات ومن صنع أيدي السلف, وهي ليست مادةً مستوردة أو مفاهيم زرعها الغرب وأمريكا , وأن مساعي البعض لتفسير هذة الصراعات على أنها من صنع الغرب لتفتيت الأمة الإسلامية, على هذا الفريق أن يراجع حساباته بشكل موضوعي وعقلاني وسوف يجد أنها من صنع إنفسنا لا من صنع الغرب الكافر. فكل كتب التفسير والسيرة النبوية والفقه والتاريخ كتبها السلف من الأمة الإسلامية ولم يكتبها الغرب و أمريكا. و أن مفاهيم الكراهية وإقصاء الأخر وتكفير هذة الفرقة أو تلك وأخراجها من الملة موجودة في بطون هذة الكتب, ويعتبرها المسلمون أرث يجب المحافظة عليه ولا يسمح لأحد بمراجعته و تنقيحه لانهم يعتبرونه تجاوز لهذا الأرث المقدس. وأن كل من يحاول مراجعة التاريخ و نقده يعتبر متزندق ولا يمثل إرادة الأمة بل هو أداة بيد الغرب .

لذا نجد أن أسباب و مسببات ( الفوضى) هي صراع داخلي و ليس خارجي, و أن من يقوم بسفك الدماء هم أبناء المجتمع وليس قوى خارجية, و أن الضحية هم أتباع هذا المعتقد و ليس من يُنظِّر للفوضى الخلاقة أو يتبناها. و يبقى في الختام أن ننوه الى أن إزالة النظام الحالي لا تعني التجرد من الماضي بل أجراء عملية مسح للماضي و فتح باب الحوار و المناقشة من أجل المحافظة على نقاء الفكر الإسلامي المحمدي الأصيل و ترك كل ما علق به من أدران حتى ينطلق الأنسان المسلم الى المستقبل. أن التغير يبدأ من الأنسان و ينطلق الى المجتمع و أن كل من يحاول الوقوف بوجه هذا التغيير سوف يكون مشاركآ وشريكأ في إستمرار الفوضى ولكن لأجلٍ مُسمى. أن التغيير قادم لأنه حتمية إنسانية و تاريخية و علينا أن نأخذ دورنا و نضع بصماتنا عليه بدلاً من أن يُكتب و يُنفذ بأيادٍ خارجية….
.. [email protected]