في عصر يشهد تسارعاً غير مسبوق في التقدم التكنولوجي، يعيد الإنسان اكتشاف ذاته من خلال أدوات ذكية تتجاوز كونه مجرد مستخدم لها، لتؤثر فيه بعمق وتساهم في إعادة تشكيل العالم من حوله، بما في ذلك القيم والأفكار والمفاهيم الفلسفية والروحية. في هذا السياق، يُطرح سؤال أساسي: ما موقع الفكر الديني في هذا العصر الجديد؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي، باعتباره لغة العصر وفلسفته، أن يساهم في تطوير مفاهيمنا الدينية؟ وكيف يمكن، من خلال استخدامه كأداة نقدية وتحليلية، مراجعة التراث الديني، وطرح بدائل تأويلية متجددة لنصوصه ومروياته؟
يجادل هذا المقال بأن التوظيف العلمي والنزيه للذكاء الاصطناعي يمكن أن يُسهم بفعالية في تحرير الدين من هيمنة المؤسسات التقليدية، وفي تفكيك التراكمات التاريخية والسياسية والثقافية التي تعيق فهم النص الديني ضمن سياقه الأصلي، الزماني والمكاني والإنساني، وكذلك السياق المتغيّر الذي يُعاد فيه تلقّيه وتأويله اليوم. كما يمكن، عبر المنهج الذكائي، تطوير مقاربات بحثية عابرة للتخصصات في تناول المجال الديني، ورؤى فلسفية معمقة للتعامل مع العقائد والغيبيات والمعاني الروحية، فضلاً عن توفير حلول مبتكرة للإشكاليات التراثية وانعكاساتها المعاصرة.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية، بل هو عقل “تشاركي” جديد، يمكنه معالجة النصوص وتحليلها وتأويلها واستنباط الأنماط الكامنة فيها، دون أن يكون أسيراً لسلطة تقليدية أو محظوراً عليه الخوض في المسكوت عنه. وهنا تكمن إمكاناته المذهلة في سياق الفكر الديني، الذي طالما حوصر في قوالب فقهية ومذهبية مغلقة. وتتيح الطبيعة “التشاركية” للذكاء الاصطناعي بناء فضاء تحاوري يؤدي إلى توليد قراءات متنوعة تزاحم القراءة الأحادية، ما يسهم في تحريك الفكر الراكد، وفتح الطريق لمساءلة البُنى الذهنية والثقافية السائدة، وتحرير العقل الديني من النزعات اليقينية والإجماعية، ودفعه نحو تقبّل الاختلاف والتعدّدية.
لقد ظلّت المؤسسة الدينية تحتكر تفسير النصوص، وتفرض قراءتها بوصفها القراءة الوحيدة الصحيحة، مغلقةً الباب أمام الاجتهاد، ومجمدةً النصّ في قوالب تاريخية لا تتيح له الحركة أو التحوّل. لكن الذكاء الاصطناعي، عبر تقنياته المتقدمة في تحليل اللغة والنصوص، يمكن أن يكسر هذا الجمود، إذا تم استخدامه بصورة نزيهة علمياً، فيعيد قراءة التراث بعيون غير منحازة لقناعات مسبقة، ويقارن التأويلات المختلفة، ويكشف التناقضات والاحتمالات، بل ويعيد هيكلة الأسئلة والأفكار، وحتى القيم التأسيسية، بما يتناسب مع الواقع المعاصر.
ولكن ينبغي الانتباه إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس محايداً تماماً، لأنه يتغذى على البيانات التي نُدخِلها إليه، ويعكس افتراضاتنا المسبقة ومنهجياتنا البحثية. فإذا جاءه سؤال من باحث ديني التوجّه، فسيُحاكي توجّهه الديني في توليد الردود، بينما لو جاءه السؤال نفسه من باحث علماني التوجّه، فستكون له نتائج وتحليلات مختلفة جذرياً.
وهنا مكمن القوة والضعف معاً، فقوة الذكاء الاصطناعي تتجلى في قدرته على محاكاة زوايا نظر متعددة، وتقديم مقاربات متنوعة. أما ضعفه فيظهر في إشكالية أن استخدامه إذا لم يُضبط منهجياً، فقد يعيد إنتاج تحيّزات الباحث بدل أن يساعده على تجاوزها. لذلك، من الأفضل، في توظيفه النقدي، أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي لا كمؤيد ضمني، بل كشريك تحليلي نختبر به فرضياتنا، ونتحداه كما نتحدى المعرفة التقليدية ومسلّماتها من خلاله.
وفي هذا السياق، تبرز إمكانات الذكاء الاصطناعي في اعتماد النهج التكاملي في تفكيك التراث الديني ونقده، من خلال توظيف طيف واسع من العلوم الإنسانية كعلم النفس، والأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، وعلم الاجتماع، والتاريخ، واللسانيات، والفلسفة، في مقاربة السرد الديني التقليدي. فبدلاً من قراءة النصوص الدينية من زاوية لاهوتية ضيقة، يُمكن للنماذج الذكية أن تربط بينها وبين أنساقها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وتعيد تأويلها على ضوء نظريات حديثة كالتأويل “الهرمنيوطيقي” (مقاربة تركّز على تفسير النص بناءً على سياقه وظروف إنتاجه وتلقّيه، وليس فقط المعنى الحرفي أو الظاهري)، أو النقد “التفكيكي” (تفكيك سلطة النص، وخاصة عندما يُستخدم كأداة لإقصاء أو تهميش أو قمع، وكشف الآليات اللغوية والسلطوية التي تجعل تفسيراً معيناً يبدو “مقدساً” أو “نهائياً”)، أو حتى قراءة “فوكوية” للنصّ (يمكن أن يركّز توظيف نهج ميشيل فوكو هنا على تحليل البُنى السلطوية والمعرفية التي أنتجت السرديات التراثية، كونه يهتم بكيفية التحكّم في إنتاج وتأويل النصوص وتصنيع “الحقائق” لصالح سلطة معينة). بهذه الطريقة، يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى معبرٍ نحو فهم ديني متعدد الطبقات، أكثر عمقاً، وانفتاحاً، وتحوّلاً، وديناميكيةً.
وكمثال تطبيقي، يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في تفكيك النزعة الذكورية في القراءة التقليدية لقصة “آدم وحواء“، وإعادة قراءتها بعدسة “جندرية”؛ أي عبر منظور يفحص “الأدوار الاجتماعية” لكل من الرجال والنساء، وما يرتبط بها من توقّعات مجتمعية وإكراهات ثقافية وتنميطات سلوكية، والطريقة التي صاغها بها التفسير التقليدي؛ ففي العديد من التفاسير التراثية للقرآن، تُعرض شخصية “حواء” بوصفها السبب المباشر في معصية الأكل من الشجرة، مما يؤدي إلى تحميل الأنثى تاريخياً مسؤولية الخروج من الجنة. هذه القراءة كرّست تصورات جندرية غير متكافئة (تمييزية بين الذكر والأنثى)، انعكست في البنية الفقهية والاجتماعية ضمن المجتمعات الإسلامية. ويمكن للذكاء الاصطناعي التدخل هنا من خلال المهام التالية:
1- إجراء تحليل تاريخي لغوي للتفاسير: يمكن تدريب نموذج ذكاء اصطناعي على معالجة مجموعة ضخمة من التفاسير الإسلامية، من مختلف العصور والمدارس، للقيام بتحليل أنماط اللغة المستخدمة في وصف النساء، والمفردات السلبية المكرّسة حول الجندر (المسائل المتعلّقة بالذكورة والأنوثة)، وتكرار الربط بين المرأة والخطيئة أو الفتنة.
2- استخراج الفروق بين النص الأصلي والتفسير البشري: باستخدام أدوات المقارنة النصية، يمكن للنموذج أن يميّز بين ما يقوله النص القرآني بدقة لفظية (مثل استخدام ضمير التثنية في: “فأزلهما الشيطان”)، وما تم تحميله له من دلالات في التفاسير، خاصة تلك المتأثرة بروايات وأساطير تاريخية.
3- توليد قراءات بديلة غير منحازة جندرياً (غير إقصائية للنساء لصالح الرجال أو العكس): يمكن للذكاء الاصطناعي، بناءً على قواعد التأويل غير الذكوري (مثل مقاربات النسوية أو الهرمنيوطيقا النقدية)، أن يُنتج مقاربات جديدة تتعامل مع “آدم” و”حواء” ككائنين متساويين في المسؤولية، دون افتراض مسبق للتفوق الذكوري أو التبعية الأنثوية.
4- ربط النتائج بالتحليل الثقافي المُقارِن: يمكن توظيف النموذج الذكائي لمقارنة التفسيرات الإسلامية بمثيلاتها في ثقافات أخرى، مما يسمح بتحديد التأثيرات المتبادلة والمصادر المشتركة في تشكيل الصور الجندرية (المتعلّقة بالنوع الاجتماعي ذكراً كان أم أنثى)، دون تفضيل ثقافة على أخرى.
بهذا الشكل، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة نقدية تفتح المجال لتفكيك السرديات الذكورية لا عبر مهاجمة النصوص، بل عبر مساءلة الطبقات التأويلية التي تراكمت فوقها، ومن خلال توليد بدائل معرفية قادرة على كسر مركزية الرجل في المخيال الديني.
إن ما يوفره الذكاء الاصطناعي من إمكانات الحفر المعرفي العميق في التراث الديني ينبّهنا إلى أن توظيفه في هذا المجال لا ينبغي أن ينحصر في بعده الأداتي أو الوسائلي، كأن يُستعمل فقط لتسريع الوصول إلى المعلومة أو ترتيب المحتوى الديني أو استدعاء الإجابات الجاهزة. لأن في ذلك إشكالية مضمرة تتمثل في استخدام أدوات حديثة لإعادة إنتاج الإرث التقليدي، لا لتفكيكه أو تجاوزه.
إن المطلوب هو استلهام فلسفة الذكاء الاصطناعي ذات الطابع التوليدي والتحاوري والتشاركي، بما يجعله شريكاً في إعادة التفكير، لا خادماً لإعادة التلقين. فبدلَ أن نُسخّره لترسيخ ما هو جاهز وموروث، علينا أن نفتح المجال أمامه ليصبح طرفاً في إنتاج معرفة جديدة، نقدية، مفتوحة، وقابلة للتجدّد.
لا يعِدنا الذكاء الاصطناعي بمستقبل خالٍ من الدين أو المعنى الروحي، بل ربما بمستقبل يتسع فيه الوعي الديني ليكون أكثر انسجاماً مع كرامة الإنسان، وأكثر عقلانية واستدامة وحيوية، وأقل ارتهاناً للأدوات القديمة التي كانت تُستخدم لضبطه وتقييده. وهذا هو الأفق الذي يستحق أن نُراهن عليه.
تنويه: هذا المقال هو حصيلة جهود مشتركة بين الكاتب وأداة الذكاء الاصطناعي (ChatGPT). حيث تمَّ تقديم الدعم في بلورة الأفكار والبناء اللغوي وتطوير النصوص وصياغة المثال التوضيحي، مع الحفاظ على حرية الكاتب في توجيه النقاش، وبشكل يسعى لتسليط الضوء على جوانب متعددة في التفاعل بين الفكر الديني ومعطيات العصر الرقمي.