23 ديسمبر، 2024 4:38 م

الذاكرة المزيفة لعراقنا

الذاكرة المزيفة لعراقنا

إن لكل مجتمع تاريخ ، ومهما تفاوتت الزمنية والأعمال الإبداعية والبطولية لتاريخ كل مجتمع فإن الاعتزاز بهذا التاريخ يصل أحياناً إلى حد التطرف وخصوصاً عند بعض المجتمعات الحديثة التكوين والتاريخ. والسبب ينبع من حقيقة هامة وهي أن التاريخ من أهم مقومات الشخصية ، شخصية الفرد وشخصية المجتمع.
فالمؤرخون يعتبرون التاريخ بمثابة الذاكرة الوطنية للشعوب وحاجة الأفراد إلى التاريخ لايقل عن حاجاتهم إلى ذاكرة والنتائج المترتبة على فقدان التاريخ أو تشويهه أو إخضاعه للأهواء والأحقاد أخطر بكثير من فقدان الذاكرة عند الأفراد بسبب الآثار السلبية الواسعة النطاق المترتبة على ذلك.
إن الفهم الصحيح للتاريخ والاعتزاز بتراثه يساعد على البناء والتقدم ومواجهة التحديات بروح فعالة وحماية أفراد كل مجتمع من الذوبان في المجتمعات الأخرى أو فقدان القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب أو الاندفاع نحو التطرف والإرهاب.
أردت بهذه المقدمة ، الوصول إلى ظاهرة سلبية في كتابة بعض مراحل تاريخنا الحديث من قبل ذوات شغلوا في وقت ما مواقع مسؤولة في الدولة سواء في العهد الملكي أو الجمهوري . ظاهرة تمجد الذات وتشيد بها مقابل الهجوم على المراحل التاريخية التي سبقتها والتي عاصرتها ، وأحياناً تلك التي أعقبت زمانها، كمؤرخين أو شهود عيان . هذه الظاهرة الخطرة تحتاج إلى تفسير وتحليل وتحتاج أكثر من ذلك إلى موقف حاسم ، موقف يرفض عن وعي وإصرار إخضاع تاريخ عراقنا لحسابات شخصية أو مغالطات تخدم مصالح غريبة عنه وعن تاريخه.
إن غياب المنهج الموضوعي في كتابات هؤلاء يحول التاريخ إلى ميدان تمارس فيه الأفكار المختلفة حريتها في التزييف دون رقيب ودون رادع علمي أو أخلاقي أو سياسي.
إن الأهواء الذاتية هي التي تتحكم في كتابات هذا النفر ، وهذه مأساة حقيقية لأنها تحجب عن الحاضر رؤية جذوره والتعامل مع ماضيه بشكل موضوعي يلقي الضوء على الحاضر من أجل فهمه وفك ألغازه وقراءة عناصر المستقبل التي تتشكل في رحمه.
إن صفحات التاريخ هي بشكل أو بآخر تملك مفردات قاموس الحاضر اليومي وداخل سطورها وأحداثها ترقد أجنة المستقبل.
التراكمات الذاتية الضيقة والحزبية والأنانية تزيف هذه الصفحات وتغير معالمها ، تقدم لنا تاريخاً غير واضح المعالم ، ترسم لنا صورة لأشخاصه لاتطابق واقعهم أو دورهم من قريب أو بعيد . هذا الارتباك مع صفحات التاريخ يفرز لنا تاريخاً ليس له علاقة بالحقيقة هو رؤى ذاتية خالصة لايمكن اعتمادها باعتبارها مصادر حقيقية للأحداث التاريخية أو الشخصيات المؤثرة التي شكلت وقائعه.
ودائماً ، عندما يقرأ المرء إنتاج هذه الذاتيات غير الموضوعية سيسأل:- أين الحقيقة في هذا الركام المصاغ بطريقة هدفها إثبات عقيدة سياسية ما أو الترويج لفكرة عقائدية معينة أو إثبات دور مزيف لاوجود له بين مفاصل الإحداث؟
إن التاريخ له منهجه للوصول إلى الحقيقة مثل أي علم آخر . وحقيقة التاريخ تتركز حول جهود الإنسان في كل مجتمع لمنجزاته وأخطائه ، أي إنه علم يحاول الإجابة على الأسئلة المتعلقة بفترة من حياة الشعوب لها أمجادها وخطاياها، فكيف نسمح في عراقنا العزيز بترك تاريخنا في أيدي كتاب أو كتابات تفتقر إلى أبسط مبادئ المنهج العلمي لدراسة تاريخنا الوطني ؟
وإذا كان موضوع التاريخ هو الكشف عن حقائق فترة ماضية من تاريخ أي شعب والبحث عن جهد إنسان هذه الفترة ، فكيف نسمح لكل من أصيب بأضرار شخصية في فترة من تاريخ عراقنا أو من يريد أن يركب الموجة أو يبحث عن مكاناً على خشبة المسرح أن يكتب ويحاكم ويحكم على هذه الفترة أو تلك بلاوازع من ضمير أو قانون يرغمه على التريث ويمنعه عن تحويل أحقاده أو أهدافه الانتهازية إلى قنابل مدمرة تصيب مجتمعه بأضرار خطيرة ؟
إن الوصول إلى حقيقة موقف واحد لفترة زمنية محددة يحتاج إلى جهد وبحث ومعاناة ، فكيف تصل الجرأة عند البعض إلى حد الحكم على عشرات المواقف لفترة زمنية أو لشخص صانع حدث بعينه دون دراسة أو فحص أحياناً وبتشويه وتزييف الحقائق ونشرها في صحف واسعة الانتشار أو في كتب أنيقة الطبع؟
إن كتابات هذا البعض ولاسيما ما يتعلق منها برموزنا الوطنية تسلب من تاريخهم أشياء جوهرية لاتلمس دورها الحقيقي في صياغة تاريخ وطني مشرف ولاتحاول نقل صورة موضوعية عن كفاحهم وأفكارهم السياسية وإنما هدفها منذ سطورها الأولى الهجوم والتشهير من أجل هدف سياسي محدد هو إطلاق الرصاص على جماعة سياسية دخل معها المؤلف في اختلاف سياسي وفكري ومصلحي ، لذلك عندما يكتب عن هذا الشخص أو تلك الحركة ، كان الهدف تصفية حساب سياسي مع هذه الحركة أو الحزب متمثلة في شخص وتاريخ وحياة قادتها.
هذه الطريقة ليس لها علاقة بالكتابة التاريخية ، إنها تدخل ضمن المناورات السياسية ، لذلك من المعيب والخطأ الشديد إطلاق صفة كتابة تاريخية على هذا الشكل ، من الأفضل وصفه باسمه الحقيقي باعتباره محاولة لهدم تاريخ شخص وطني أو حزب سياسي ونسف أساسه الفكري وطروحاته التاريخية . لذلك أي منصف يريد الاقتراب من تاريخ أي مرحلة مر بها عراقنا لايهتم لكتابات هذا النفر لأنها منحازة وليست موضوعية ، ولم يكن هدفها إجلاء الحقيقة أو الاقتراب منها . كذلك من الخطأ الفادح إدراج هذا النوع من الكتابات غير المسؤولة ضمن قضية حرية الرأي ، فالحرية لها شروط وقواعد وآداب ، وأهم شروطها التحرر من الأحقاد والأهواء ، وخصوصاً إذا ارتبط الموضوع بتاريخ فترة زمنية زاخرة بالأحداث والمتغيرات من تاريخ عراقنا . والحرية تشترط أو تفترض الالتزام بقاعدة حق الآخرين بالرد وبحيث لايتهم من يتصدى لحملة شعواء على تاريخ وطنه بأقصى ألوان الاتهامات . كما تفترض حرية الرأي الالتزام بآداب الحوار الموضوعي الهادئ فلاتنحدر أساليب الحوار إلى حضيض الشتائم باسم حرية الرأي ولايعقل أن يصبح اتهام إنسان بالخيانة والعمالة وبيع قلمه مقابل دولارات ، أسلوباً مشروعاً لآداب الحوار الحر بين المختلفين.
غياب التيار الموضوعي عن التاريخ مأساة لايضاهيها إلا غياب نفس التيار عن الواقع الراهن وأتصور أنه في ظل نمو مؤسسات علمية تحاول نقل الواقع نحو استكمال كياناته وشخصيته ، فإن هذا التيار سينمو وسيفرض نفسه ليس على التاريخ فقط وإنما على صيغة الواقع الراهن.
إننا نحتاج لنمو تيار الموضوعية في حياتنا العلمية ، وهذه الحاجة تبرز كلما نظرنا إلى تاريخنا الوطني التي تقدمه إلينا كتابات هذا البعض المنحازة التي تصر على تقديمه إلينا كما تشاء ، وكما تهوى ، وهي تهدف من هذه الصورة الذاتية للتاريخ التحكم في الواقع حتى تصيغه على نفس الطريقة التي صنعت من خلالها أحداث التاريخ.
إن الموضوعية مطلوبة ليس لقراءة التاريخ وإنما لفهم حياتنا المتشابكة والمعقدة والتي يصر كل فريق أن يرسمها بألوانه الخاصة التي ليست لها علاقة بالحقيقة ولابالتاريخ.
[email protected]