بالرغم من عِبَرْ آيات الذكر الحكيم، ومثال النمل وخلية النحل في البنيان، والتناغم والتلاحم والتكافل، ورص الصفوف، لم تحول دون تسريب مشاعر الأنا السلبية من جعبة جينات شعراء الجاهلية، ليتغزَّل الكثير بهيفائها وحلاوة طلعِ مقالها، وكأنها خمرٌ إستُبدِلت قواريره بزجاجات الحاضر الجديد .
الغريب إن هذه العقلية لازالت قائمة لسد النقص في الحضارة الإنسانية العربية والعراقية بالخصوص، ويدعمها الكثير من المثقفين، بل ويهاجمون، من قال بمثل مانقول، بحجة رفع المعنويات، بحبوب، لعلاج هبوط الأمل في دم النفوس.
فلاغرابة في أن تتملكهم الأنا المريضة، لتكون فيهم كفايروس العادة المقدسة القديمة، التي رفعت كعبتهم وحجهم ، من شدة سقط صاعقة الذكاء، الى السماء ! فباتت فيهم ديدن النفخ في الهواء عادة، والحرث بالماء عبادة.
الى من يهمه الأمر:ـ
أسلوب رفع المعنويات بمصل الأنا السلبية لايصح، لأنه تهريب للذات الى فضاء الأموات. وبفضل هذا التهريب، نعيش يومنا كالمتصوف الذي فصل الذات عن الوجود فَشُلَّت مراكز الأحساس، فلايعلم بهِوَ ذاته حياً أو مات! فما أنت فاعل به، لايشعر حتى لو فصلت الساق عن جسده تلو الساق. فإنسان التاريخ بمحاسنه لايحمي أحفاده المغفلين، كما لايخدعني قول ألأجنبي من سفير هنا وهناك، في قيمة أرضي وشعبي وسالف حضارته وأحجاره، لأني ملاصق للحاضر لا أسرحُ في الماضي وأفتعل به الغرام، فما لهم لهم ومالنا سوى الكلام عنهم، فمن نحن وما لنا؟ فما كان لهم ليس لنا.
العراقي اليوم وبفضل صوفية مثقفي الأنا السومري والآشوري والبابلي، ومايطرحوه متثاقفوه من شحنات التطبيل والتعظيم، أوهموه طرباً بذبذبات كلامهم المنمقَّ وحروفه اللينة الموزونة، فبات بعيدا عن الوجود، خرب حسه وفرِغ مخزونه، فحل بذاته عشقاً كجنونه، مرددا كما ردد الحلاج انا الله…او الله في جلبابي .
المقصد:ـ
كل هذه التفجيرات والقتل والمعاناة للشعب العراقي ، بل وكل النوائح السومرية (ال 150) التي درسها وخبر أسبابها، لم تسعف عقل الشاعر والمثقف العراقي من صنمية الأنا . خنقته فخنق شعبه بها، ولو كرس حياته لصناعة أجيالُ نحنُ، لأحسَّ اليوم، أن الجثث التي يعبر عليها في كل حادث قتل وتفجير هي عضو من جسد الأنا الكُل ! لكن عبوره عليها تكرارا، لدليلاً صارخاً على خلَّو الأنا من ذاكرة الحواس الوجودية، ومن لاذاكرة حسية متواصلة مع الوجود، كيف تثار فيه زوابع التفكير ليتعظ؟
العراقي اليوم، لايفكر إلا بالأنا النفعية أو الطائفية أو القومية، أوالقبلية، او الشاعرية أو المنصبية السيادية، تشغله الأنا حتى سادت وطغت هذه الروح المريضة بالرغم من أن الموت من آذانه قد قرب.
ثقافة الأنا هي إهانة لأنسانية الأنسان، ولهذا يُداس على جسد وروح العراقي في كل حين، ولايَفهَم لماذا كبرياؤه وأناه طامسة في الوحل، وأنفه يلتهم أنفاسه في الطين؟
بخرافة ذواتهم العراقية وأعلميتهم ونسَبِهم، قادوا العراقي الى مزبلة التاريخ المعرفي والأنساني، والواقع شاهد اليوم، وهل من واقع غيره ؟ بل والكارثة أنهم لازالوا على هذا المنوال وهذه العقلية.
فقط إنظروا وتفحصوا هذه الحقيقة المُرَّة، التي يعيشها، من لَقَّبه الغريب ـ معلم كوكب الأرض ـ ! وكأن لقبه بات دواءً لزهايمر الذكاء.
الكثير من العراقيين مرضى بهذا الداء ـ ثقافة الأنا الفخرية ـ وموطنها ومنبعها الأَعْرابْ نفسياً، اذ مَثَّل الشاعر حينذاك، شمس المعرفة وتواق الحكمة، ورسمه كنجمة مضيئة في سماء قومه، لندرته، ولغلبة الجهل والجهلاء فيهم، كما هو اليوم وبذات المستوى فينا وأكثر، ولهذا إقتُدنا الى مزبلة التاريخ الحضاري والأخلاقي والأنساني. لأن عجلتنا مشلولة بتفاهات عفى عنها الخلق الكرام في أغلب دول العالم، ونحن بنينا لها أهراماُ من ألوان الحُلماتِ، نرضع منها طبائعنا فتلونت عقولنا بألوان الخرافاتِ والآهاتِ.
لازالت هذه العقلية هي معيار الإنسانية وكرامة العراقي في أي محفل ولهذا تراه يشير، لنسَبِه، أو شعراء قومه، أو علمائهم، أو عشيرته، فكرامته دونية دونهم، فبهم يصنع أناه العليا، حتى غدت هذه الأصنام هوية الأنا ودم قلبه، ووطنه وكرامته وإنسانيته، ولاغَرْوَ في أن ينشد لها أغانيها بتونات الخسة، الخالية من نغمات العفة والشرف والإنسانية. وفي الختام لانسألكم الدعاء، بل داوني بالتي كانت هي الداء! وقفوا عن هذه العقلية من الأدعية التي خفى رنينها كناقوس يقظة للنفس، الى ترددات ميتة لاتهتز لها شفاه الحواس، ولاتعيها مجسات القلوب، تدور في أصمخة الآذان، ولا تمر بقوقعتها، لتحجز لها مقعداً لسمع الفهم بمكان، بل لسمع السمع بطبلة الطرشان . ولهذا ماتت وإن توسلتموها ليل نهار، فأٌقتلوا أنفسكم وذواتكم إن نشدتم التغيير فيها، إن كتنم صادقين!.