الذي لا يختلف فيه أثنان هو أن الشيعة ظلوا وعلى مدى قرون طويلة ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم اقلية سياسية داخل العراق على الرغم من ديمغرافيتهم واسعة النطاق، فضلاً عن كونهم ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم جماعة دينية مهمشة على كافة الأصعدة وأنهم بحسب رؤية كثير من الباحثين كانوا يعيشون فيما يصطلح عليه بـ”الدولة الطائفية” التي كانت تسير شؤونها في الحكم على أسس “الطائفية السياسية” وهذا ما تم ملاحظته في مراحل زمانية – متعاقبة ولكافة أنظمة الحكم التي حكمت العراق.
ولقد كان الشيعة ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم جماعة دينية تحمل الخصائص الآتية وذلك حينما يقدمون أنفسهم للآخر، أو بعبارة أدق عندما يتخيلون أو يتصورون ذاتهم:
أولاً: أنهم أتباع أو أشياع أمام مغتصب السلطة وهو الإمام (علي بن أبي طالب عليه السلام).
ثانياً: أنهم مذهب ديني له موجهاته العقائدية – والفقهية المتكاملة على يد الإمام (جعفر بن محمد الصادق عليه السلام).
ثالثاً: بوصفهم الجماعة التي تنتظر دولة العدل الإلهي – دولة الإمام الغائب_القائم (الأثنى عشر) (ع).
رابعاً: بوصفهم أصحاب مدرسة دينية / مستقلة لها زعاماتها المستقلة فكرياً واقتصاديا وسياسياً أي (الحوزة الدينية).
خامساً: بوصفهم جماعة إثنية لها خصائصها وسماتها الثقافية المتمايزة عن الأثنيات الأخرى، حتى التي تشاركها الدين عينه أو الجغرافيا الواحدة..
سادساً: بوصفهم جماعة مضطهدة وعبر كافة الحقب والأزمان أي أنهم جماعة منكل بها ليس لديها أي حقوق قياساً بالجماعات والطوائف الأخرى، بمعنى أدق أنهم
يعانون الحرمان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى سدة الحكم.
من جوهر النقاط الست الآنفة والتي هي عبارة عن معطى واقعي لكيفية نظر الشيعة إلى ذاتها، وكيف يقدمون أنفسهم إلى الآخرين، ويطالبونهم أن ينظروا إليهم، وعلى فق ذلك كله، ولاسيما في بدايات عام 2003 تحديداً؛ نجد الوجوه “التعريفية” الآتية والتي نبينها وفق الترسيمة الآتية:
1. جذر التشكل (الأطر) أتباع مقدس النص/ الواقع
2. صفة التشكل (الهوية) أتباع مقدس خصوصية مذهب
(المذهب الجعفري)
3. حجة الانعزال السياسي أتباع مقدس ينتظرون دولة
المعصوم/ القائم
4. السلطة الفرعية أتباع مقدس يوالون أو يقلدون
نواب المعصوم (المراجع)
5. الهوية الاجتماعية ضرورات المذهب فهم سكان المدن
وجغرافيته (الولي/ المعرفة/ الاقتصاد)
السلطة سلطة سلطة
الروحية الفقهاء البازار
6. الهوية السياسية لأنهم شيعة فهم مضطهدون/ مقصيون
في الحقيقة ان المسألة رقم (3) قد تم تجاوزها عبر مراجعات مهمة لكثير من الفقهاء تجلت أبرز ملامحها في اشتغالات محمد حسين النائيني ذلك المرجع الذي ولد نظرية سياسية حدد فيها أبعاد الدولة المدنية بدون انتظار للغائب وذلك عبر كتابه “تنزيه الملة وتنبيه الأمة”، ثم قدم الإمام الخميني مراجعته الأنقاذية للفكر
السياسي الشيعي عبر مراجعة ما يعرف بمقبولة “حنظلة بن عمر” التي ولد منها “نظرية ولاية الفقيه”، وبذلك صنع الشيعة الإيرانيون دولتهم الدينية بدون الالتفات للتراث الشيعي الهائل المؤكد على أهمية القطيعة مع عملية بناء الدولة.
وبعد عام 2003م ووصول الشيعة إلى سدة الحكم عبر أحزابهم الدينية نجد أن المعادلات التعريفية تغير فيها الكثير بالنسبة لماهية الشيعة، وهذا ليس على الصعيد الداخلي فحسب أي نظرة الشيعة أنفسهم، بل على الصعيد الخارجي إذ أخذ الشيعة يعرفون بوصفهم “أصحاب السلطة” أي يعرفون بوجههم السياسي أكثر من أي وجهٍ آخر.
إن المتحرك في تلك المعادلات هي (انتظار الدولة لأن السلطة شيعية)، وإن كان الانتظار هو جزء من العقائد الشيعية الأساسية وذلك ليس انتظاراً للدولة بقدر ما هو انتظار لإتمام سلسلة الأئمة البالغة أثنى عشر ولا تتم إلا بظهور الإمام الثاني عشر(ع).
أما المتحرك الآخر هو “السلطة الفرعية” و ذلك لأن ولاءاتهم الحزبية الآيديولوجية بعد عام 2003 بدأت تأخذ حيزاً أكبر من الولاء لسلطة المراجع، بمعنى أن الفاعلين السياسيين يقدمون رؤية الحزب ومصلحته على رؤية المرجع ومصلحته، وأن قدموا ما يريده الأخير فهذا لا يتم إلا تحت تأثير الجماهير “المؤدلجة” أو لأجل كسب تأييد الجماهير على نطاق واسع.
أما على صعيد “الهوية الاجتماعية” فما زال الشيعة يقدمون أنفسهم بوصفهم جماعة دينية/ متمايزة عن الجميع ، ولعل اعتقادهم بما يصطلح عليه “الحقانية” الإلهية يجعلهم يعتقدون أنهم ذوو صفاء ديني_ثقافي جاءهم من موالاتهم لأهل البيت(ع).
وبذلك فهم مازالوا يعرفون أنفسهم استناداً إلى المسافة الاجتماعية/ الدينية التي يرون أنها تفصلهم عن بقية المذاهب والأديان الأخرى ولعل وجود الدوائر الاجتماعية الثلاث أي “المقدس” و “المعرفة” و “الاقتصاد الديني/ الخمس”، والاقتصاد البيني (أسواق المدن المقدسة) والاقتصاد العالمي “بغداد” “الشورجة
الشيعية”، يجعلهم يقدمون أنفسهم بوصفهم جماعة دينية/ معرفية/ اقتصادية متكاملة الأركان.
وما زاد هذا الأمر قوة هو “التداخل أو الاشتراك السياسي” وسطوته ،بمعنى الدخول في آيديولوجيا السلطة الشيعية بكافة ألوانها الفكرية والتي لا تستطيع أن تعتاش بين الجماهير الشيعية من دون الاندكاك تحت مياسم “الهوية الاجتماعية” للشيعة لأنها تمثل مخزونهم الديني والثقافي والمعرفي والاقتصادي على حدٍ سواء.
أما على صعيد “الهوية السياسية” فإن الشيعة مازالوا يعيشون في دهاليز الذاكرة الموتورة على الرغم من نيلهم السلطة وكتابة الدستور ذي الروح الشيعية ،وعلى الرغم من المسك بمؤسسات الدولة برمتها، ولكن هويتهم السياسية الجديدة فرضت معطيات جديدة للتعريف بالشيعة يمكن تبيانها بالنحو الآتي:
أولاً: قدموا أنفسهم بوصفهم الأكثرية الديمقراطية والأكثرية السياسية.
ثانياً: قدموا أنفسهم بوصفهم صناع الدولة العراقية الجديدة، بمعنى أنهم أسهموا في عمليات المأسسةInstitutionlization على كافة الأصعدة.
ثالثاً: قدموا أنفسهم بوصفهم الطائفة المغيبة طويلاً عن المشهد السياسي العراقي، ولذلك وجب إعادة النظر لأرثهم الاجتماعي المغيب ما يعني وجب النظر لهم بوصفهم صناع الثقافة العراقية بوجهٍ عام والثقافة السياسية (الديمقراطية) بوجهٍ خاص أي أن الديمقراطية طبقت على أيديهم وليس بأيدي أي أحد آخر.
ولكن قد يسأل سائل: إن كل ما تقدم قد تم على أيدي الفاعلين السياسيين الشيعة ليس إلا، وليس على أيدي أفراد الشيعة العاديين (غير المؤدلجين)؛ ولعل هذا التساؤل يدفعنا قبالة تساؤل مهم آخر هو:
هل يوجد اختلاف في كيفية تعريف الشيعة لدى الشيعي “السياسي /المؤدلج” و”الشيعي العادي/ الطقوسي”؟
من الواضح وجود اختلاف شاسع بينهما ولاسيما من خلال التعامل مع السلطة من ناحية “التسيير” بوصفه فرداً عادياً أي تدبير شؤونه المعاشية في ظلها هذا من الناحية العامة.
ولكن من الناحية الخاصة هنالك فوارق بينهما على مستوى الوعي بالتشيع كممارسة طقوسية، فبينما يميل السياسيون عادةً الى التماهي مع “التشيع الرسمي” العقلاني بينما يذهب الأفراد العاديون إلى التماهي مع “التشيع الشعبي” الطقوسي وهم بذلك يعرفون أنفسهم بوصفهم الموالين الحق للأئمة الأثنى عشر (ع) بخلاف السياسيين الذين يعدون أنفسهم موالين بالمعنى السياسي.
وفي ظل ملامح هذا التباين يطل علينا ثلاثة اتجاهات لتعريف الشيعة بعد الوصول للسلطة، وإن كان هنالك أتجاه جديد واحد هو “التمأسس الشيعي” أي بناء المؤسسات السلطوية والإدارية من جهة؛ أما الاتجاهان السابقان هما: اتجاه التمرجع/ الطاعة المستمرة للمراجع “الفقهاء”، والاتجاه الأخير هو: “الطقوسيات”.
والصدام الحاصل في التعريف الشيعي الجديد هو بين الاتجاه الجديد “التمأسس” و التمرجع” فبين الولاء لمؤسسات الدولة أو الولاء للحوزة، أو بين الولاء للدستور وتطبيقه وبين الولاء للفتوى، أوبين الولاء الوطني العام وبين الولاء الفقهي/ الشيعي الخاص.
ففي ضوء هذه التناقضات الفعلية بين الشيعي السياسي (المالك للسلطة) في مجتمع تعددي مثل العراق الذي لابد له أن يخضع لضوابط المنظومة الدينية الشيعية “الفقهاء/ المراجع”؛ يظهر في ضوء ذلك كله لونُ جديدٌ, من التعريف بالشيعة ينطوي على تناقضات هائلة لا يمكن فك الاشتباك الحاصل فيها بين ما هو سياسي/ سلطوي وبين ما هو ديني / كلاسيكي (ثقافي) وهذا الأمر يؤثر على شكل السلطة بطبيعة الحال.
ولكن ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن هنالك نوعا جديدا من التشيع ظهر في العراق في ظل التحولات الآنفة، منها ما نستطيع تسميته بـ”التشيع الآيديولوجي” وهو التشيع الذي يعبر عن مجموعة من الأفراد أو الجماعات الشيعية التي أعادت صياغة الإسلام الشيعي في قوالب آيديولوجية تصب في مصلحتها الفئوية/ الضيقة تحت عنوان كبير هو “الإسلام السياسي/ الشيعي” الساعي إلى الوصول إلى السلطة وهو بالفعل وصل للسلطة بعد عام 2003 ولكن ليس بفضل جهوده الذاتية كما هو معلوم بل بفضل الإرادة الأمريكية.
وهي بعد ذلك تغولت على حساب قواعدها الجماهيرية بل وحتى على حساب الشيعة أنفسهم وأصبحوا طبقة سياسية لا يمكن التواصل معها إلا بشروط وضوابط تصب كلها في خانة الولاء التام بنحو أو بآخر.
وبالتأكيد أن هذا النوع من التشيع وكما هو معلوم ومثلما قلنا سابقاً جعل من نظرة الشيعة إلى ذاتها وإلى الآخر تضفي عليهم رؤية جديدة ذات ملامح حسنة بالبدء من ناحية قوة الشيعة وشعورهم الجديد بماهيتهم السياسية المفعمة بانطباع شديد متمثل بانتصارهم على جغرافيتهم المحلية والإقليمية والعالمية التي وصفتهم ضمن إطار “المعارضة” أو “الأقلية المشاغبة”.
ولكن هذه الرؤية بدأت بالانحدار في ظل تباين طبقي حاد بين (المتسلطين) و (المتسلط عليهم)، وبما جعل الشيعة أمام تصور غامض عن لونهم السياسي تحديداً، وذلك لأن لونهم الديني لا يمكن له أن يخرج عن دائرة (الولاية) وبالمطلق.
أما النوع الآخر هو التشيع الذي يتمحور حول انتظار دولة المخلص أو العدل الإلهي أي انتظار الإمام الغائب.
إن الذات الشيعية أصبحت إزاء ردة سياسية تتبناها أغلب الفئات الشيعية الشعبية التي اصطدمت بسياسة القشر الفارغ الذي لا يحمل في داخله سوى مطامع حزبية – فئوية ليس إلا وما الخطاب الشيعي الذي تتشفع به سوى حصان طروادة، مما جعل التشيع الآيديولوجي يُكشف سريعاً ويسقط على نحوٍ واسع، وبذلك فهو ترك المجال للتشيع الطقوسي (التدين البكائي) لكي يهيمن على ذهنية الشيعة وسلوكياتهم.
وفي ظل هكذا أجواء لم يبق من التشيع السلطوي بعد عام 2003 سوى الشعارات الجوفاء التي تصدح بها أبواق المتملقين، وارتد الشيعة نحو ذاتهم المتصدعة محاولين إعادة لم شظاياها تحت ظل الاندكاك بالمراسم والطقوس التي هي العزاء الوحيد بالنسبة لهم في ظل سقوط الآيديولوجيات الشيعية في حمأة اللهاث خلف السلطة لأجل التسلط والمغانم ليس إلا ،فضلا عن فشلها في صوغنة هوية سياسية – شيعية معتدلة.