23 ديسمبر، 2024 3:34 م

الذات اذا روت السيرة الذاتية في المجال الثقافي العربي 

الذات اذا روت السيرة الذاتية في المجال الثقافي العربي 

السيرة الذاتية، الترجمة الذاتية، المذكرات الشخصية، اليوميات.. ليست فناً او ادباً دخيلاً على الثقافة العربية. والنماذج التي تؤكد على ذلك في تاريخ ثقافتنا العربية اكثر من ان تحصى. وفن السيرة الذاتية، كان وما زال مثار خلاف وجدل في مضمونه بين كتّاب ونقاد الشرق والغرب، فالبعض يعتبره ترجمة ذاتية وحرفية لحياة الكاتب بكل ما تخللها من احداث معاصرة وظروف بيئية محيطة. وبذلك فأنه يتوخى فيها منتهى الصدق والصراحة والوضوح. بينما يخالفهم البعض الآخر في الرأي، لأن سيكولوجية الكاتب وعامل مرور الوقت على الاحداث تسمح لخياله بأن يطلق العنان ليعيد صياغة الاحداث والوقائع بشكل مختلف عنها آبان حدوثها، ولذلك، وفي رأيهم، فأنه لا يمكن الاعتماد بشكل تام على ادب السيرة الذاتية لفهم شخصية الكاتب وظروف عصره. فللسيرة الذاتية مستويات مختلفة وتقنيات كتابية تراوح بين كتابة اليوميات وتسجيل الحوادث التي يتعرض لها كاتبها في حياته، وبين السير في اغوار التجربة الذاتية، واطلاق العنان للتأملات التي تخطر في بال صاحب المذكرات. لكن هذا النوع من الأدب، وبالرغم من تحفظات بعض النقاد، قد آثار الضجة من حوله لما ورد بين طياته من اعترافات شخصية عن حياة بعض الكتّاب المرموقين. حتى على مستوى التجربة الذاتية نفسها، فأن ثمة فوارق نوعية بين سيرة واخرى، فهناك كتّاب يوغلون في عرض ذواتهم على مساحة مذكراتهم، وهناك آخرون يجتزؤون من الجانب الذاتي ما يتلاقى مع الاهتمامات الانسانية العامة، فتصبح محطات السيرة عندهم ذرى انسانية معبرة يحس من يقرأها في كل زمان ومكان، انها تعنيه بقدر ما تعني كاتبها. وذروة النضج في السيرة الذاتية (المذكرات الشخصية) على ما اعتقد، تكمن في مقدرة كاتبها على المزاوجة بشكل عضوي متين، بين تجربته الخاصة الموضوعية وبين الدلالات الانسانية الشاملة، بحيث انه عندما يطرح نفسه على الورق، يكون قد طرح الانسان وهواجسه كاملة. 
ففي احيان كثيرة، وبالرغم من التباعد في الزمان وفي المكان، وبالتالي في التجربة، قد نقرأ نتاج اديب فنحس على الفور بأننا نعرفه مع اننا لم نلتق به في حياتنا. نتحسس معاناته كما لو اننا الى جانبه فيأخذ بيدنا ويدعونا الى السفر معه على متن الصفحات لنتوغل في ثنايا تجربته وكأننا جزء منه، لا بل قد يكون قارئ السيرة الذاتية الذي يهديه كاتبها سيرته، مواطناً في العالم الخارجي الواسع الذي يختلف تماماً عن العالم الخاص الذي اعطى الكتاب. 
ولكن أياً كانت هوية هذا القارئ، فأنه دون شك لابد له من ان يشعر التجربة المعروضة على صفحات السيرة، هي تجربة تعنيه في شكل مباشر، لانها تخاطب البعد الانساني العميق الذي يبقى في جوهره الدفين واحداً او متشابهاً مهما اختلفت ملامحه وتباينت فيه المؤثرات، لان المضمون قد يطرح قضايا فكرية واضحة معظمها يشكل تساؤلات حادة يبحث الكاتب والانسان، كل انسان، عن اجابات لها. اجابات لا يمكن ان تكون جاهزة وكاملة، وألا فأن التساؤلات الحادة تفقد مبرر قيامها. ولكنها اجابات تندلع من زاوية الخبرة الذاتية والتجربة الفردية لتشيع في ارجاء الرسالة ما يمكن ان يوصف بأنه طريقة تعامل او طريقة مجابهة مع تلك التساؤلات. 
ان اعمال الكتّاب العرب- ادباء، مفكرون، سياسيون..- في هذا المجال، وصفت بأنها اقرب الى الرواية الذاتية منها الى السيرة الفنية بمفهومها الدقيق، لانهم لجأوا في اغلب الاحيان الى استخدام الاستعارة والتورية، وتحفظ البعض منهم في ذكر اسماء الشخصيات والاماكن التي شهدت احداث سنوات طفولته المبكرة ومطلع شبابه.. بينما سبر البعض الآخر اغوار نفسه وكشف عن التفاصيل الدقيقة التي عاصرت ايام حياته. 
وبالرغم من ذلك، فأن كتّاب الغرب كانوا من خلال اعمالهم ادق تعبيراً عن مدلول السيرة الذاتية الفنية فيما قدموه، وفي مقدمتهم جان جاك روسو الذي ترك لنفسه العنان ليحدثنا عن الفضائح التي تخللت احداث حياته واعتبرها النقاد من العوامل التي خرجت بسيرته الذاتية عن اطارها الصحيح وأخلت بالمفهوم الدقيق لها. 
ان السيرة الذاتية، مصطلح حديث يقابل المصطلح الاجنبي Autobiography، وفي استخدامه الحديث لم يصبح هذا المفهوم في اطار الفنون والاداب الا منذ بدايات القرن العشرين، لان الدارسين كانوا يتناولون السيرة الذاتية، يتحدثون عن الترجمة او فن السيرة بصفة عامة. ولذلك، فأن السيرة الذاتية لم تصبح فناً مستقلاً الا في بدايات القرن العشرين، فقد كانت على ما نرى مدمجة في السيرة العامة Biograhp.
ان اول مظاهر السيرة الذاتية، كانت في انكلترا سنة 1809، وكان يطلق عادة على هذا اللون من الكتابة اسم المذكرات، ولكن من الناحية التاريخية ظهر هذا النوع من الكتابة قبل ان يتحدد اصطلاح يعبر عنه في اوروبا الغربية. ما بالنسبة لفرنسا، فقد ظهر المصطلح في اواسط القرن التاسع عشر، وكان المعنى الاول للكلمة (السيرة المخطوطة)، وفي سنة 1956، اعتمدت الاكاديمية الفرنسية المعنى المتفق عليه حالياً (السيرة الذاتية). 
ان مفهوم السيرة الذاتية الحديث بوصفه فناً ادبياً، مفهوماً يمكن ان ننتهي بصدده الى القول، بأن السيرة الذاتية المعنية ليست هي تلك التي يكتبها صاحبها على شكل (مذكرات)، يعنى فيها بتصوير الاحداث التاريخية اكثر من عنايته بتصوير واقعه ذاته وليست هي التي تكتب على صورة (ذكريات)، يعنى فيها صاحبها بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات والوقائع والاحداث اكثر من عنايته بتصوير ذاته، وليست هي المكتوبة على شكل (يوميات) تبدو فيها الاحداث على نحو متقطع غير رتيب، وليست آخر الامم (اعترافات) يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصحيح، وليست هي الرواية الفنية والتحليلية التي تعتمد في احداثها ومواقفها على الحياة الخاصة لكاتبها. فكل هذه الاشكال فيها ملامح من السيرة الذاتية، وليست هي لانها تفتقر الى كثير من الاسس التي تعتمد عليها السيرة الذاتية الفنية. كذلك، ان كثير من الاعمال الادبية يمكن ان نعدها سير ذاتية في خطوطها العريضة وفي مفهومها الفضفاض من امثال ( المقالة الشخصية) واليومية (المفكرة) و (الرواية) المعتمدة على الحياة الخاصة لكاتبها. وفي هذه الحالة يمكن ان ندخل في المفهوم العريض للسيرة الذاتية مقالات الكتّاب الذين يصورون فيها مواقف شخصية واحداثاً يواجهونها، حدثت لهم خلال اليوم التي صاغوها صياغة قصصية مصورين فيها ملاحظاتهم ومشاهداتهم التي صادفتهم خلال يومهم في رحلات قاموا بها. ويمكن ان ندخل فيها مثلاً اليوميات او الروايات التي يطلق عليها البعض سيرة ذاتية خطأ مثل (صورة لوجه فنان في شبابه لجيمس جويس).
وفي ادبنا العربي يمكن ان يدخل البعض خطأ روايات من هذا النوع في اطار السيرة الذاتية، مثل (عودة الروح) و (يوميات نائب في الارياف) لتوفيق الحكيم، وثنائية المازني (ابراهيم الكاتب) و (ابراهيم الثاني)، وثلاثية سهيل ادريس (الحي اللاتيني) و (الخندق الغميق) و (اصابعنا التي تحترق)، ورواية جبرا ابراهيم جبرا (صيادون في شارع ضيق).. كل هذه الروايات استقاها كتابها من حياتهم الخاصة وتجاربهم الذاتية، وصاغوا كل ذلك في نسيج روائي خضع للتكنيك الروائي من حيث الاضافة والحذف والخيال وتقديم الاحداث وتأخيرها واستعارة اسماء غير الاسماء الحقيقية وعدم التمسك بعنصر الزمان ومراعاة الدقة في تسجيل الاحداث، وكذلك الحرية في تقديم الاحداث وتأخيرها بوجه عام، واخضعوا كل الحقائق الى مقتضيات الفن الروائي، ولم يتمسكوا بعناصر الحقيقة التي تقوم عليها السيرة الذاتية الفنية التي تنصرف في المحل الاول الى تصوير الحقيقة. وتصوير تلك الحقيقة يقتضي الالتزام الصارم بعناصرها وبالتقدم الذي حدث في الحياة حسب تطور الحياة الطبيعية منذ كتابة ما يتعلق بحياة الكاتب ووعيه بحقائق فترات طفولته الى اللحظة التي بدأ يكتب فيها سيرته الذاتية التي يريد بها ان تكون عملاً فنياً. 
هناك فرقاً كبيراً بين السيرة الذاتية بمعناها الدقيق وبين الروايات المستوحاة من حياة الكاتب. فعندما قال فلوبير جملته الشهيرة (مدام بوفاري هي انا) لم يقصد تجربته الشخصية بالذات وانما قصد انه وضع في بطلة الرواية بعضاً من خصائص شخصيته، وهناك ايضاً رواية (اصغي الى رمادي) لحميد العقابي والبطل فيها صورة من المؤلف. ولكن هناك فرقاً واضحاً بين السيرة الذاتية والرواية الذاتية. فالسيرة الذاتية يفترض فيها الصراحة، فهي اعتراف بكل ما لهذه الكلمة من دلالات دينية وقانونية وسيكولوجية. ولذلك، نرى بعض الكتّاب يعلقون في مقدماتهم عن نيتهم الخالصة في ذكر الحق ولا شيء غير الحق، ويقتضي ذلك افتراضاً مقابلاً وهو ان يكون القارئ متسامحاً متفاهماً عطوفاً على ذلك الكاتب الذي يعطيه تجربته في الحياة ليتعرف على بعض نواحي القوة والضعف في الانسان، ومن هذا قول فيكتور هيجو مخاطباً قارئه بقوله ” ايها الابله الذي يتصور انني لست انت”، مشيراً بطريقة ضمنية الى الحكمة القائلة بأن على الانسان ان يعرف نفسه، وهو هنا كمن يود ان يضيف ان في مقدور الانسان ايضاً ان يعرف نفسه من خلال الآخرين نظراً لأن بني البشر يشتركون في كثير من نواحي الضعف والقوة. 
كما ان السيرة الذاتية تستخدم عادة صيغة المتكلم، وعندئذ يقيم الكاتب مباشرة مع القارئ في حين ان الرواية الذاتية التي تستخدم عادة صيغة الغائب تضع حاجزاً بين البطل والكاتب ومن ثم بين الكاتب والقارئ، ولذلك فأن معظم ما نعتبره في الادب العربي سيرة ذاتية انما هو الواقع اقرب الى الرواية الذاتية منه الى السيرة بمعناها الدقيق. 
اما بالنسبة لمشكلة الصدق في الرواية الذاتية، فأن كثيراً من النقاد يعتبرون ان مسألة الصدق في الرواية الذاتية مشكلة زائفة، وانا شخصياً مع هذا الرأي، فالكاتب الذي يتحدث عن ماضيه يفصله عن هذا الماضي على الاقل حاجزان. الحاجز الزمني والحاجز النفسي، وتلعب الذاكرة دوراً كبيراً في تصوير هذا الماضي، فسيكولوجية الانسان الناضج التي ترى الماضي وتعبر عنه ليست هي نفس السيكولوجية التي كانت للكاتب عندما مر بهذه الاحداث، فأي انسان تتغير سيكولوجيته عبر السنين، وكما قال برجسون: “فالانسان مجموعة من (الانا) المتلاحقة حسب حلقات العمر”. 
وكذلك، فأن تعدد اهتمامات الكاتب والدور الذي يلعبه في الحياة السياسية والاجتماعية والاحداث المعاصرة، يضفي قيمة مضاعفة على مذكراته الشخصية التي تعتبر مرجعاً شاملاً وليست فقط عملاً ادبياً في مجال السيرة الذاتية. يتضح مما تقدم، ان هناك نوعان من السيرة الذاتية، نوع يتركز على حياة الكاتب نفسه، ونوع آخر يتحول فيه الكاتب الى شاهد على عصره او مؤثر فيه، يتفاعل معه ولكنه يركز الاضواء على دوره وتجاربه، لانه شخصية عامة ويلعب دوراً هاماً في الحياة السياسية والاجتماعية لعصره. ومن هنا تكمن اهمية مذكراته ليس فقط بالنسبة لدارس الادب والتاريخ والسياسة ولكن للباحث عن المعرفة. 
ولكن الرواية التاريخية اكثر ارتباطاً بالحياة العامة منها بالحياة الشخصية، وقد تكون نقطة الانطلاق فيها هي تجربة الكاتب ولكن الخيال يتدخل لاضافة احداث او تطورات لم تحدث في الواقع لتغيير الخاتمة. وهذا يعني انها تشمل على ثلاثة اصوات تتداعى ايقاعاتها، الماضي الشخصي، والحاضر المشترك، والمستقبل التابع من الحدس او الخيال. 
ويسوقنا ذلك الى التفرقة بين السيرة الذاتية الفنية والرواية. كما ينشأ تساؤل آخر حول السيرة الذاتية المصوغة في قالب روائي، فنحن الآن امام ثلاثة فنون ادبية هي السيرة الذاتية الفنية، والرواية، والسيرة الذاتية الروائية. ولكن اذا بدأنا بالسيرة الذاتية بوصفها فناً ادبياً فيكمن ان تنتهي الى نتائج بشأنها تصلح اسساً فنية لها وتمنحنا مفهوماً له خصائصه، واهم ملامح السيرة الذاتية التي تجعلها منتمية الى الفنون الادبية، ان يكون لها مرسوم واضح يستطيع كاتبه من خلاله ان يرتب الاحداث والمواقف والشخصيات التي تعامل معها في الفترة التي يسجلها ويصوغها صياغة ادبية محكمة بعد ان ينحي تفصيلات ودقائق استعادتها ذاكرته وافادها من رجوعه الى ما يعزز ذاكرته ويوثق الحقائق التاريخية المتعلقة بحياته الخاصة، وتوثيق تلك الحقائق قائم على وثائق مثل اليوميات او الرسائل او المدونات التي لديه وتعنيه حين يرجع اليها على تمثيل الحقيقة السالفة المتعلقة بحياته، وفي وسعه وبمعاونة من العمليات العقلية والشعورية، ان يطلعنا على الغاية من كتابة ترجمته الذاتية، وعلى كل ما يعيننا على ان نستشف منها التاريخ الحقيقي لحياته الفنية والخلقية والمزاجية والفكرية والسلوكية.. وما يستدل منه على شخصيته ومكوناتها الموروثة والمكتسبة في تكامل في جميع اطوار النمو والتغيير وكل ما يطلعنا على نقاط التغيير التي حدثت له، وفي وحدة تتوافر لا في الترتيب والتركيب والبناء والتنظيم فحسب، بل تتوافر كذلك في الروح العامة للسيرة الذاتية وفي المزاج السائد فيها وفي النقلة والتدرج من موقف الى آخر مع مراعاة التزام الحقيقة التاريخية فيما ينقله من احداث ماضية موثقاً اياها بالوضوح الكاشف عن اسماء الشخصيات والاماكن وبفقرات وامثلة موجزة معتدلة يقتبسها من التواريخ والرسائل واليوميات، فكانت سيرة ذاتية يحسن ان يكشف قبل كل شيء عن الغاية من كتابة سيرته ومن كتابة حياته، فهي التي تحدد امامه معالم طريقه وترشده الى ما يجب ان يسقط ويهمل وما يجب ان يثبت ويختار، خاصة اذا ما اراد ان يصوغ حياته الخاصة في قالب روائي، لانه حين يعرض حياته بكل وثائقها ودقائقها لا يعتمد مثل الروائي على الخيال الطليق او مثل المسرحي، وهو لا يعتمد مثلهما على الاسطورة، فهو لا يقف موقفهما من مادة موضوعه يعتمد اعتماداً كلياً على المعاناة في تذكر الحقيقة، وهذه الحقيقة حاول نقلها أميناً على نحو ما حدث في واقع الحياة، هو مثلما يتفقون جميعاً كاتب السيرة الذاتية، والروائي والمسرحية في تحليل الوقائع وتعليلها. ويعاني مثلهما تجربة الخلق ولكن معاناة كاتب سيرته اعظم صعوبة لانه يلتزم بالحقيقة فيما ينقله من ماضي حياته معتمداً على التذكر المعزز بالوثائق، والتذكر ليس امراً سهلاً ذلولاً وليس هو عملية آلية يسيرة قوامها التداعي الحر للافكار بل هو عملية شديدة التركيب والتعقيد، لأن عملية التذكير تعني تحويلاً الى الداخل وتكثيفاً، وتعني تغلغلاً متواصلاً في كل العناصر من حياتنا الماضية. فالانسان اذا اراد ان ينقل تجارب من حياته الماضية، لا سبيل امامه الا ان يضع قيوداً لهذه التجارب ويرسم اطاراً وخطة ويعيد بناءها عن طريق عمليات التذكر الرمزي. وفي هذه الحالة تصبح الاستعانة بالخيال امراً ضرورياً للاستعادة الصحيحة، ولذلك فان الشاعر الالماني غوته (كان موفقاً غاية التوفيق حينما اتخذ عنواناً لسيرته الذاتية (الشعر والحقيقة)، لانه اراد ان يستكشف الحقيقة حول حياته، وان يصفها، ولم يكن لديه من طريقة لايجاد هذه الحقيقة، الا ان يمنح الحقائق المتفرقة المشتتة من حياته، شكلاً رمزياً، فهو بهذا ادرك ان السيرة الذاتية شكل من اشكال الذاكرة الرمزية، حيث اضفى معنى رمزياً على قصة حياته، الى جانب المعنى التاريخي، وما اعمق ادراكه لهذا، لان رواية الحقيقة الخالصة عن الانسان أمر بعيد عن التحقيق بل هو امر يكاد ان يكون مستحيلاً لان الصدق المحض في السيرة الذاتية رغم انها اصدق الفنون الادبية تصويراً للحياة الانسانية، فهو مجرد محاولة، وهو صدق نسبي وليس شيئاً متحققاً، لان هناك عوائق تعترض ظهور الحقيقة منها، ان الحياة نسيج صنعت خيوطه من حقيقة وخيال، وما حياتنا وافكارنا الا مزيج منها وبعض اجزاء حياتنا يصنع من وحي الخيال والحقيقة المجردة والخيال البحت، كلاهما يختفي من السيرة الذاتية. 
لا شك ان الخيال يلعب دوراً هاماً في البعد بالسيرة الذاتية عن معناها الدقيق، بحيث تصبح اقرب الى الرواية الذاتية منها الى السيرة المجردة المعتمدة على الصدق، بعيداً عن التمويه والادعاء. 
كما ان هناك عوائق، عوامل ارادية، كالتمويه الذي يعمد اليه صاحب السيرة لذاته حين يخفي جانباً من ذاته او حياته او يظهر العجب بنفسه ليرسم لنفسه احدى الصورتين : اما الصورة المتواضعة المنكرة للذات او الصورة المزهوة المجمدة للذات التي تغالي في تمجيد (الانا) ورسم صورة اسطورية لها. 
ولذلك فان الاعترافات المكشوفة الفاضحة خارجة عن نهج الحقيقة الكاملة والطريق السوي وربما كانت الصراحة المكشوفة الفاضحة التي اتبعها كل من روسو وتولستوي واندريه جيد، ضرباً من الزيف والتمويه والادعاء وتمجيد الذات. ومن العوائق ايضاً التي تقف في سبيل نقل الحقيقة، عوامل لا ارادية، كالحياء الطبيعي والنسيان. 
ان السيرة الذاتية الفنية لا بد رغم تحريها الشديد للحقيقة المعبرة عن الواقع الذاتي، هي على ما رأينا، عملية ابداعية خلاقة ومن ابرز ملامحها بالاضافة الى ما سبق، تصوير الصراع بضروبه المختلفة، ذلك الصراع الذي يطلعنا على دخائل النفس وأثر الاحداث الخارجية في الحياة النفسية والفكرية لكاتبها في مراعاة لما حدث في شخصيته من نمو وتحول على مراحل العمر المتعاقبة، ملتزماً التدرج في تواتر الايام وتعاقب التاريح من دون اخلال بالترتيب الزمني، ولذلك فأن كاتب سيرته يختلف هنا عن الروائي، اذ انه ملتزم بالترتيب الزمني ولا يستطيع مثل الروائي ان يقدم حدثاً او تجربة على اخرى، فهو ملتزم بتدرج الاحداث على نحو ما حدثت في مراحل حياته المتعاقبة وفق تعاقبها على مراحل حياته منذ الطفولة، فأساس السيرة الذاتية الفنية ان يصوغها صاحبها في صورة مترابطة وفي اسلوب ادبي يقدم لنا من خلاله محتوى ذاتياً عن تجاربه وخبراته مصوراً الحياة والوقائع والشخصيات تصويراً قائما على حركة معتمداً على جمال النص الادبي وحلاوته مع الحوار الذي يستعين فيه بعناصر ضئيلة من الخيال الضروري لربط اجزاء الحقائق في عمله الادبي، ولا يسترسل مع التخيل حتى لا ينأى عن الحقيقة خاصة اذا كان يكتب حياته في صورة روائية. 
ولكن من الجدير بالذكر، انه اذا توافرت للسيرة الذاتية كل هذه الملامح والاسس واهتدى صاحبها الى اكثرها، فأن سيرته الذاتية حينئذ تتسم بالاصالة وتستوفي عناصر تجعل سيرته لنفسه ترجمة فنية، وقد توافر كثير من هذه الاسس الفنية في مجموعة من السير الذاتية في الادب الغربية مثل تلك التي كتبها اغلب كتّاب الغرب، كما توافر عدد غير قليل منها في مجموعة من السير الذاتية في الادب العربي الحديث مثل تلك التي كتبها ميخائيل نعيمة في سيرته الذاتية الفريدة في ادبنا وعنوانها (سبعون)، صور فيها حياته منذ الطفولة حتى بلوغه سن السبعين، وما كتبه طه حسين في (الايام) ويحيى حقي في كتابه (خليها على الله) و (حياتي) لاحمد امين، وعباس محمود العقاد في كتابه (انا) وكتابه (حياة قلم). وان كان طه حسين في (الايام) يسلك منهجاً وسطاً بين السيرة الذاتية وبين الصياغة الروائية من حيث عدم التزامه بتسجيل عناصر الزمان والمكان واغفاله ذكر الاسماء والافصاح عنها، اذ انه اغفل اكثر التواريخ والاماكن التي حدثت بها احداث طفولته وصباه ومطلع شبابه التي صورها في الجزئين الاول والثاني. كما اننا لا نعرف اكثر الاسماء التي أثرت في حياته المبكرة وخاصة انه ينقل لنا واقع تلك الفترة الهامة المؤثرة من مراحل حياته التي اعقبت تلك المرحلة المبكرة. 
اما يحيى حقي، فان كتابه هذا (خليها على الله) قد التزم فيه جوانب كثيرة من الحقيقة وافصح عن اسماء وتواريخ وراعى ترتيب الاحداث ترتيباً زمنياً، فكان اقرب الى السيرة الذاتية المصاغة في صورة روائية فضلاً عن انه قد كشف عن غايته في كتابه وصرح بأنه يكتب حياته الخاصة او جانباً مهماً. 
وقد شاعت الصياغة الفنية الروائية بين كتّاب السير الذاتية الغربيين منذ اواخر القرن التاسع عشر حتى ليمكن القول ان الرواية قد مالت لأن تكون سيرة ذاتية على نحو من الانحناء في الاداب الحديثة، ولكن الحد المميز بين السيرة الذاتية المصاغة في قالب روائي وبين الرواية الفنية المعتمدة على الحياة الشخصية لكاتبها، هو التزام الحقيقة بأن يحد من الاستسلام لعناصر الفن الروائي التي تجمع به بعيداً عن هذه الحقيقة الى جانب الكشف عن غرضه، فيعلن انه يكتب سيرته الذاتية في هذا البناء الروائي على ما سلف القول. كما يعلن عن اسمه الحقيقي وعن كل اسماء الشخصيات والاماكن والتواريخ دون اللجوء الى التمويه او الاستعارة حتى يفهم انه الكاتب الحقيقي، وانه صاحب هذه الاحداث الخاصة. اما اذا خلع على نفسه اسماً مستعاراً يقصد به ان يفهم انه يكتب قصة، فالعمل في هذه الحالة يكون قصة، واذا اردنا ان نشير الى اعمال لكتاب غربيين صوروا حياتهم في رواياتهم ونقلوا الواناً من تجاربهم ووقائع حياتهم وصوروها كلها في صورة روائية تشير الى ابرزها مثل روايات (المقامر) لدستيوفسكي و (ذكريات من منزل الموتى) ورواية (ادولف) للكاتب بنيامين كونستان.. وكل هؤلاء صوروا حياتهم معتمدين على الافكار او صيغة الغائب او انتحال اسم واعطائه لبطل روايته او انقياده وراء الصياغة الفنية للرواية وافكارها، انهم يكتبون تراجم ذاتية لانفسهم من خلال هذا القالب الذي اختاروه وهم يشبهون في ذلك ادبائنا العرب الذين سبق الاشارة اليهم، وخرجوا في اعمالهم عن السيرة الذاتية الواقعية في مفهومها المحدد الدقيق، امثال ابراهيم عبد القادر المازني في ثنائيته، وسهيل ادريس في ثلاثيته، ويمكن ان نضيف اليهم الدكتور محمد حسين هيكل في (زينب)، وعباس محمود العقاد في (سارة)، وميخائيل نعيمة في كل من (مذكرات الارقش ومرداد) وغيرها.. فكلها سواء في الادب العربي او الغربي، اعمال روائية رغم اعتماد كاتب كل منها على الحياة الخاصة لكاتبها، وتصور في ثناياها جوانب هامة من تجاربه وافكاره وميوله ومشاعره، وربما يتميز من بين كتابنا كل من ميخائيل نعيمة في (سبعون)، ويحيى حقي في (خليها على الله)، اذ ان كلاً منهما حاول ان يكتب سيرة ذاتية روائية، ويلتزم الحقيقة التاريخية في تصوير الاحداث الى جانب استخدام عناصر الفن الروائي. 
* الخلاصة
ان من اسباب تأخر ظهور هذا النوع من الكتابة في الثقافة العربية، ان الكلاسيكية كانت تقوم على تقديم قضايا الانسان العالمي ولا تعرف المشاكل الذاتية، فقد كانت (الانا) حسب التعبير الشائع مكروهة، فلم يكن من المقبول ان يتكلم الكاتب عن نفسه وانما عليه ان يعالج القضايا التي تهم الجنس البشري بشكل عام والانسان في خصائصه التي يشترك فيها مع انداءه. 

ومن هنا كانت الثورة التي احدثها جان جاك روسو بصراحته المطلقة في الحديث عن نشأته وطفولته والتجارب التي مر بها في حياته والاخطاء والذنوب التي افترضتها، وبعده تحولت الاعترافات الى لون ادبي هو ما يعرف حالياً بالسيرة الذاتية، ومن اشهر من كتبوا ومن عالجوا بعده هذا النوع من الادب، شاتو بريان، رائد الرومانتيكية الفرنسية، وقد اقتبس من حياته مادة روايته (رينيه) التي تحكي طفولته وجزءاً من السنوات الاولى من شبابه، وتصف طريقة تربيته والاحداث التي أثرت عليه وظلت ذكراها خالدة في نفسه. وكذلك تناولها ايضاً الفريد دو موسيه في (اعترافات فتى العصر)، التي تحدث فيها عن الازمة النفسية التي مر بها الشباب خاصة بعد هزيمة نابليون والفراغ الذي كان يعاني منه ومشاعره الجياشة، ويمكن اعتبار (ليالي موسيه) لوناً غير مباشر للسيرة الذاتية، حيث ان الشاعر استقاها من تجربته العاطفية مع الاديبة الشهيرة جورج صاند. 
جان جاك روسو، يعتبر من اهم الكتاب الذين تناولوا السيرة الذاتية بطريقة مباشرة حيث جرت العادة على اعتباره اول من تناول هذا النوع صراحة عندما نشر اعترافاته عام 1782، وان كانت هناك محاولات سابقة لكتاب حاولوا ان يسجلوا حياتهم وتجاربهم في اعمالهم من امثال (مونتي) في كتابه الذي عرف بـ(المحاولات او التجارب) في سنة 1580. وبعد ذلك صدرت مذكرات تتعلق بالعصر اكثر من تعلقها بالشخص مثل مذكرات سان سيمون التي تعتبر وثيقة تاريخية عن عصر لويس الرابع عشر. من النساء الشهيرات اللواتي كتبن سيرهن الذاتية، جورج صاند، في كتابها (قصة حياتي)، وبوصفها من اديبات العصر الرومانسي فقد تحدثت كثيراً عن حياتها في اكثر من كتاب حتى ان النقاد جمعوا بعض كتاباتها تحت عنوان (اعمال خاصة بالسيرة الذاتية) ووضعوا فيها (قصة حياتي) و (خطابات مسافر) التي تروي فيها رحلاتها الشهيرة الى البندقية مع (موسيه) و (شتاء في مايوركا) رحلتها الى مايوركا مع الموسيقار شوبان. ومن الجدير بالذكر ايضاً، ان جورج صاند من اوائل النساء اللاتي تولين قيادة حركة تحرير المرأة، وقد لعبت دوراً كبيراً في الاحداث التي عاصرتها، وكانت تنادي وتطالب باقامة النظام الجمهوري وتقوم بتشجيع ورعاية الكتّاب الشبان من ابناء الشعب وتدفعهم لتقديم نوعية جديدة من الكتابة في الادب الفرنسي تتسم بالواقعية ومعالجة المشكلات التي يعاني منها المجتمع. 
ومن اشهر المذكرات في الادب الفرنسي، مذكرات سيمون دوبوفوار، الاديبة الفيلسوفة التي تمثل التمرد على النظرة التقليدية للمرأة والدور الذي يخضعها له المجتمع الذي يطالبها دائماً بأن تظل في المرتبة الثانية بعد الرجل، تسهر على راحته وترعى اموره ولا ترقى الى المناصب العليا التي يحتلها دون سواه، وقد كتبت مذكرات شيقة عن حياتها بطريقة علمية تحلل فيها شخصية المرأة وشخصية الرجل بالمفهوم السيكولوجي. وقد تحرت فيها الصدق والصراحة المطلقة مما آثار عليها الرأي العام في فرنسا ولكنها كانت اكبر مناضل من اجل تحرير المرأة في فرنسا وخارجها. وكثير من الحركات النسائية تعتبر هذه المذكرات (انجيلاً) لها، وعندما توفت بكتها ومجدتها الكثيرات من رائدات الحركة النسائية في العالم. 
اذا اردنا ان نأخذ برأي كتّاب السيرة الذاتية في هذا الموضوع، فمن الجدير بالذكر ان نذكر ما قاله جوليان باندا في هذا الشأن منذ حوالي اكثر من نصف قرن، ولكن قوله ما زال ينطبق حتى الآن على مثل هذا النوع من الادب ونعني قوله “هذه الصفحات اقدمها لهؤلاء الذين يشعرون بالتسامح والتعاطف مع تكويني الفكري، ولكنني أكتبها من اجلك انت يا تلميذي ايها الفتى المنتمي لأسرتي الفكرية”.

ان ادب السيرة الذاتية يخضع لنفس المعايير الجمالية والفنية التي يخضع لها الادب بشكل عام بصفته مرآة للحياة، وكلما كان الشخص الذي يكتب سيرته الذاتية كلما كانت لسيرته الذاتية قيمة اكبر، ولكن لا يمكن بأي حال من الاحوال ان يعتمد عليها وحدها لفهم شخصية الكاتب او عصره لانها كما قلنا في البداية تخضع السيرة الذاتية لتأثير الذاكرة المبدعة الخلاقة التي تجمل بعض الامور وتضخم او تقلص بعض الاحداث وتتدخل دائماً في الانتاج الادبي سواء شاء الكاتب ام لم يشاء. [email protected]