بات ما يسمى “الذئب المنفرد” يقلق الأجهزة الأمنية الصهيونية ويقض مضاجعها، التي ما فتأت تحذر الجمهور الإسرائيلي من مغبة الوقوع فريسةً بين أيدي “الذئاب المنفردة”، التي –حسب زعمهم- بدأت تصول وتجول في كل مكانٍ في البلاد، وترتاد المصايف والملاعب، وتجول في الغابات والحدائق والأحراش، وتقف على الطرق الرئيسة والفرعية، وفي الأماكن النائية، وتركب الحافلات العامة، وتوقف السيارات الخاصة، وتدخل الأسواق وتنتظر في المحطات، وتتحرك في الليل والنهار، تتابع وتراقب وتخطط، ولا تشعر بخوف، إذ لا يوجد تجاهها ما يريب، ولا تحوم حولها الشبهات، ولا يوجد في سجلاتها الشخصية سوابق أمنية، ولا ارتباطاتٌ تنظيمية، ولكنهم يبحثون عن فرائسهم، ويحومون حول طرائدهم.
كثيرةٌ هي العمليات العسكرية الناجحة التي نفذها فلسطينيون منفردون، لا ينتمون إلى تنظيماتٍ تقليدية أو تشكيلاتٍ جديدة، ولا يتلقون أوامر من أي جهةٍ، ولا ينتظمون ضمن خلايا عسكرية، أو تنظيماتٍ عنقودية، فقد وقعت عملياتٌ ناجحة جداً في مدينة الخليل وبالقرب من المستوطنات أو على الطرق المؤدية إليها، أُستخدم في بعضها بنادق رشاشة، وكذلك عشرات العمليات الفردية في مدينة القدس بشطريها الشرقي والغربي، وإن كانت أغلبها عمليات دهسٍ وصدمٍ وطعنٍ وقنصٍ، إلا أنها شكلت هاجساً مرعباً لعامة الإسرائيليين، جعلت حركتهم في الشوارع حذرة ومقيدة، وأخرى نجح فيها مقاومان فلسطينيان بمسدسهما في الوصول إلى كنيسٍ يهودي، وأطلقا فيه النار على جموع المستوطنين، وألحقوا ببعضهم إصاباتٍ خطرة.
الذئب المنفرد في المفهوم الأمني الإسرائيلي سواء أكان عنصراً واحداً أو أكثر، فهو يشكل خطورة كبيرة على أمن المواطنين وسلامتهم، ذلك أن أغلبهم من عامة المواطنين الفلسطينيين، الذين لا يعرف عنهم انتماءات تنظيمية، ولا يوجد عليهم علامات توجهاتٍ قومية، أو أنهم يحملون أفكاراً متطرفة، ولم يسبق لكثيرٍ منهم الاعتقال أو الاستجواب أمام الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أو الفلسطينية، إذ أنهم في أغلبهم طلابٌ أو عمالٌ، وشبابٌ أو كهول، يقررون فجأةً أن يكونوا مقاومين، أو يستيقظون من نومهم ويعزمون على القيام بعملٍ ما، دون أوامر من جهاتٍ تنظيمية، وبعيداً عن التوجيهات الحزبية.
بعضهم يخرج من المسجد غاضباً ثائراً بعد الاستماع إلى خطبة الجمعة، أو يتأثر بما يرى ويسمع عن محاولات المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى والصلاة في باحاته، أو السيطرة على بعض أركانه، أو يتأثرون بما يرون من مشاهد مستفزة ومؤذية، فيقررون فجأة وداع أطفالهم، وتقبيل أيدي أمهاتهم، والخروج بنية البحث عن هدف لمهاجمته ثأراً وانتقاماً، وقد لا يكون المقاوم الذي خرج غاضباً للبحث عن هدفٍ، مضطراً لأن يراقب ويتابع، ويرصد ويخطط، بل غالباً ما يقوم بتنفيذ خطته ضد أولٍ هدفٍ يقابله، وقد لا يبالي بأنه في مكانٍ عامٍ، أو داخل المدينة، وأن الكثير ممن يتواجدون في المكان قد يحبطون عمليته، وقد يطلقون النار عليه فيردونه قتيلاً، أو يتمكنون منه ويسيطرون عليه ويقتادونه مكبلاً، فعلى الرغم من كل هذه الأخطار فإن العديد من العمليات الفردية تنفذ أمام العامة وعلى مرأى من الشرطة والجنود.
بات المقاوم الفلسطيني الذي تصفه المخابرات الإسرائيلية بـ “الذئب المنفرد”، يشكل تحدياً خطيراً لها، التي أعلنت أكثر من مرة عجزها عن التنبوء بالعمليات الفردية، إذ لا يوجد عندها أجهزة استشعار أو عوامل تحذيرٍ مسبقة، ولا تملك القدرة على منع فلسطيني قرر فجأةً أن يقوم بعملٍ ما، وقد لا ينفعها التنسيق الأمني مع أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، التي تعاني مما تعاني منه المخابرات الإسرائيلية، فهي تفاجأ دائماً بعملياتٍ فردية، يقوم بها شبابٌ عاديون، قد لا يكون لأغلبهم انتماءاتٌ تنظيمية، بل إن بعض العمليات قد وقعت في مناطق مجاورة لمعسكرات الجيش أو بوابات المستوطنات، الأمر الذي يزيد في حدة التحدي ودرجة الحرج التي باتت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تستشعرها وتعاني منها.
الجيش الإسرائيلي أصابه الارتباك والاضطراب، فهو لا يعرف أين ستقع العملية القادمة، بعد أن أصيب جهاز مخابراته بالعمى والتيه، فهو غير قادر على التوقع والاستعداد أو الإحباط، إذ لا معلومات لديه، ولا إشارات تصله، فبات غاية ما يملكه في مواجهة “الذئب المنفرد” هو تحذير المواطنين من خطورة التجول بعيداً عن المناطق السكنية الآمنة، ودعوتهم إلى عدم التجوال منفردين، أو الوقوف على الشوارع العامة انتظاراً لسياراتٍ عابرة، أو ركوب سياراتٍ غير معروفة خلال عودتهم إلى بيوتهم أو ذهابهم إلى عملهم وجامعاتهم، وضرورة أن يبقوا على اتصالٍ دائمٍ بمراكز عملهم أو بأسرهم، وأن يبلغوا عن أي شئٍ مشبوهٍ يرونه أو يشعرون به، وألا يتأخروا عن الاتصال بمراكز الطوارئ وطلب المساعدة.
على الرغم من القتل الذي يتربص بالمقاومين الفلسطينيين، الذين ينفذون هذا النوع من العمليات، أو شبح الاعتقال الذي ينتظرهم، والأحكام القاسية التي ستصدر في حقهم، فضلاً عن هدم بيوتهم، ومعاقبة أسرهم، والتضييق على أهل بلدتهم وسكان قراهم، فإن هذه العمليات في ازديادٍ مستمر، وهي تنتشر وتمدد، حتى باتت تشمل القدس وكل المدن والبلدات الفلسطينية.
إنها رسالةٌ واضحةٌ وصريحةٌ إلى الكيان الصهيوني وأركانه العسكرية والأمنية والسياسية، أن الشعب الفلسطيني لا يسكت عن حقه، ولا يقبل بالظلم الواقع عليه، ولا يصعر خده لعدوه، ولا يستمرئ الذل المراد به، ولا يستخذي تحت هول القوة أو نتيجة عدم توازن القوى، وهو لا يستعظم المواجهة، ولا يخشى العواقب والأخطار، ولا يخاف من قتلٍ يراه شهادةً، أو أسرٍ يحسبه ضريبةً، وأنه سيبقى مقاوماً بما تيسر له، ومقاتلاً بغاية ما يملك، حتى يستعيد حقوقه، ويحرر أرضه، ويطهر قدسه، ويصلي في مسرى رسوله، ويقف عند البراق حيث معراج نبيه إلى السموات العلى، فهذا عنده هو الشرف وغاية المُنى.