23 ديسمبر، 2024 12:50 م

الدُّعَاةُ يَحْكُمُوْن – قِرَاءَةٌ في تَجْرِبَةِ حُكّْمِ الدُّعَاةِ

الدُّعَاةُ يَحْكُمُوْن – قِرَاءَةٌ في تَجْرِبَةِ حُكّْمِ الدُّعَاةِ

عنّْدَما يُصمّمُ الانسانُ الهادفُ، على تطبيقِ فكرةٍ صحيحةٍ يُؤمنُ بها، فانَّهُ يَتفانَى، من أَجل تحقيقِ هذه الغاية. و عندما تَسنَحُ الفرصةُ المؤاتيةُ، لتطبيقِ أَفكارهِ على أَرضِ الواقعِ، فإِنَّهُ يكرِّسُ كلَّ جُهدهِ، من أَجلِ الانتقالِ، من مرحلةِ النظريَّةِ الى مرحلةِ التَّطبيق.
و النظريَّةُ الّتي يُؤمن بها الانسانُ الهادفُ، هي بمثابةِ الحاضنةِ للمنظومَةِ الفكريّةِ، الّتي تُتَرجمُ أَفعالَهُ على أَرضِ الواقع.
و الفرصةُ الذهبيّةَ، الّتي تُتَاحُ لمثلِ هذا الانسانَ، تكونُ في تَسنُمه لمقاليدِ مسؤوليَّةِ العملِ الوظيفيّ، في قطّاعاتِ الدَّولةِ المختلفة. و كلما كانت هذه المسؤوليَّةُ كبيرةُ الحَجمِ، فإِنَّها تُوفرُ  أَمامهُ مساحةً كبيرةً للعمَلِ و التأثيرِ في المُجتمع. و لعَلّي أَجدُ في الشَّخصيّةِ الاسلاميّةِ، (الدكتور مهاتير محمَّد)، الّتي صَنعَتْ دولةَ ماليزيا الحديثَةِ، نموذجاً يَستحقُّ الدّراسةِ لسببيّْن هما:
الأوَّل: شخصيَّتُهُ القياديَّةُ، التي آمنتْ بأَفكارٍ صالحةٍ، و سَعى بكلِّ حرصٍ لتَحقيقها.
الثاني: أَنَّ الدكتور مهاتير محمَّد، صاحبُ الرؤيةِ الاسلاميّةِ المُعاصِرةِ المُنفتحةِ، وثَّقَ كُلَّ أَفكارهِ و كتَبها بدّقةٍ و جمعها، في عَشرةِ مُجلداتٍ، حملتْ اسم (موسوعة الدكتور مَحَضِيّْر بن محمّد/ رئيس وزراء ماليزيا).
ولد مَهاتير محمَّد ((يلفظ مَهاتير محمَّد) و يكتب (مَحَضِيّْر محمَّد))، في عام (1925م)، و اصبحَ رئيساً لوزراءِ ماليزيا، من عام 1981حتى استقالته في عام 2003 م. و عندما بَدأ مهاتير محمَّد بالعملِ السياسيّ، حدَّد مشاكِلَ مُجتعهِ بدقَّةٍ، و عَمِلَ على مُعالجتها بنَفَسٍ طويلٍ، و اصرارٍ مُفعمٍ بالصَّبر. فقدّْ بَدأ يَكتبُ عن مأْساةِ شَعبهِ المُتخلِّف. و كتَبَ أَيضاً عن طبيعَةِ شعبهِ، الّذي يمتازُ بالكسَلِ و الخُمول. و الّذي لا يَعرفُ سوى زراعَةِ بعضِ المحاصيلِ الزراعيَّةِ، و بيّعها بأَبخسِ الاثمانِ الى المُستثمرينَ الغربييّن، ليَجنوا منها أَرباحاً طائلة.
ركَّزَ الطبيبُ مَهاتيرُ محمَّد، صاحِبَ نظريَّةِ تغيير الشَّعب الماليزي، على مَفاصلَ استراتيجيَّةٍ، جعلها نقاطاً ذاتِ أَولويّاتٍ مُنظمّةٍ، و قرَّر أَنّْ يُحقِقَها عندما يتقَلَّدُ مسؤوليّةً عامّةً في بلاده. و أَهمُّ هذه النقاط باختصارٍ شديدٍ هي:
1. عدمُ النظرِ الى الغربِ، (أُنظر شرقاً، ولا تَنظُر غرباً. أَي تَوجه الى اليابان و الصين، لا إلى أوربا و أَمريكا). فقد آمن مهاتير محمَّد، أَنَّ لديه عناصرَ قوّةٍ تكمنُ في حضارتهِ الشرقيّةِ، فهو لا يحتاجُ لاستيرادِ النَّموذجِ الغَربي مُطلقاً.
2. سحبُ بعض الصلاحيّاتِ، من سُلطةِ مَلِكِ ماليزيا، و الّتي كانت تمنعُ سَنَّ القوانينِ المُهمّة.
3. تحديدُ سقفٍ زمني، لتطبيقِ نظامٍ تعليمي متطوّرٍ، و إِجراءِ اصلاحاتٍ في البُنى التَّحتية للبلاد. و أَنّْ يكون عام 2020، عاماً تكونُ فيه ماليزيا، في مصافِ الدُّولِ المتقدمَةِ صِناعيّاً.
4. عَدَمُ الدُّخولِ في أَحلاف عسكريّةٍ، مع المعسكرِ الغَربي.
5. التَّخلي عن ربطِ العُملَةِ الماليزيّة، بالدولار الأَمريكي.
6. عدمُ إِبرام أَيّ اتّفاقٍ، مع مُنظمةِ التّجارةِ الحُرَّةِ، و صندوقِ النَّقدِ الدّولي.
7. تقييدُ الاستثمارِ الأجنبي في بلاده، و السماحُ للاستثمارِ المحليّ بالنّمو، حفاظاً على الاقتِصادِ الوَطني.
8. وَضَعَ برنامجاً مُحدداً للنهوضِ بالصّناعةِ الماليزية.
9. أَبعَدَ الشَّعبَ الماليزيّ، البالغُ تِعداده (24)مليونَ نسمةٍ، من الصّراعاتِ و الخلافاتِ، بيّن المجموعاتِ العرقيّةِ الثلاث (المالايو 58% ، والصينيون 24%، والهنود 7%). فقدّ أَقنعَ الماليزيين، أَنَّ استمرارَ الصّراعاتِ، يعني خسارةَ الجَميع.
10. يَعتَقدُ مهاتير محمَّد، أَنَّ الديمقراطيّةَ نظامٌ جيّدٌ، لكنه يوفرُ مساحةً كبيرةً للفساد. لذا كانَ برنامجُهُ السياسي، يبتَعدُ بمسافَةٍ معقولةٍ عن تطبيقِ نظامٍ ديمقراطي مُتكامل.
11. لمْ يُخفِ مهاتير محمَّد، خطرَ اليهودِ في العالم، فكانَ يصرّحُ: (أَنَّ اليهودَ يحكمونَ العالمَ بالوكالةِ، و يرسلونِ غيرَهم للموّتِ نيابَةً عنهُم). كما أَكَّد هذا النهجَ الاستراتيجي، في مؤتمرِ القِمَّةِ الاسلامي العَاشر، الّذي انعقدَ في ماليزيا، في 17 اكتوبر 2003.
12. أَكَّدَ مهاتير محمَّد، إِصرارهُ على مُناهضَةِ فِكرةِ العَوّْلمة بشدّة. فقدّ جاءَ في المُجلدِ السادسِ ص17، من موسوعتِهِ المذكورَةِ اعلاه مايلي: (يواجهُ المسلمونَ و الدولَ الاسلاميّةِ، تحدياً مُخيفاً من العولمةِ في صورتِها الحاليَّةِ. هي تهديدٌ لنا و لعقيدَتِنا…. يجبُ أَنّْ نُخططَ و نُنجزَ خُطَطَ تطويرِ اقتِصادِنا، حتّى نتسلّحَ بتكنولوجيا المعلوماتِ، و نكونَ قادرينَ على التَّعاملِ مع تحدياتِ عصّرِ العولمة)(انتهى).( هذه النُّقاطُ استخلَصَها كاتبُ المقالِ، من موسوعةِ (الدكتور مَحَضِيّْر بن محمَّد/ رئيس وزراء ماليزيا).
و بالنتيجةِ نجحَ مهاتير محمّد، في مشروعهَ النَّهضويّ الشاملَ، فحوَّلَ ماليزيا الى نِمْرٍ اقتصاديّ، يعيشُ على تصديرِ التكنولوجيا، و يَجني عائداتٍ تصلُ الى 59 مليار دولار سنوياً. و بذلك حقَّقَ فائضاً في ميزانِ الدّولةِ التّجاري، قيمتهُ 25 مليار دولار سنوياً، و وصلَ الدَّخلُ القوميَ الماليزي، الى 215 مليار دولار.
و بمقارنَةِ تجربةِ حُكّْمِ مهاتير محمَّد، معَ تجربةِ حُكّْمِ الاسلاميينَ في العراقِ عُموماً، و منهم الدُّعاةِ خُصوصاً، لابدَّ أَنّْ نوضّحَ بعضَ النُّقاطِ في سُطورٍ توخيّاً للاختصار:
عندَما تأَسَّسَ حزّبَ الدَّعوة الاسلاميَّة في نهاياتِ خَمسينيّاتِ القَرنِ المُنصرِمِ، تَبنَى فَلسفةً خاصَّةً به، في مجالِ العملِ الحزبي. اعتمدتّْ هذه الفلسفةُ، على رُكنيّْنِ أَساسييّْن، شكَّلا الكيانَ الفِكّري و المنهجيّ للحزّبِ، هما:
أ‌.  الجَانبُ العَقائديّ.
ب‌.  الجَانبُ السلوكيّ المنبثقُ منَ الخلفيَّةِ العَقائديّة.
فانصبَّ تركيزُ قيادةَ الحزّبِ، و روّادَ حركتهِ الفكريَّةِ و الثَّقافيَّةِ و الادبيَّةِ، على هذهِ الفَلسَفة. فأكَّدوا باصرارٍ لا يقبلُ المرونةَ، أَنَّ من ينتمي لحزّب الدَّعوة الاسلاميَّة، يجبُ أَنّْ يُزكّى بموثوقيَّةٍ عاليةٍ، من النَّاحيةِ العقائديّةِ أو الايمانيّة. و أَنّْ يكونَ سُلوكه متَّزناً و لائقَاً، في علاقاتهِ الاجتاعيَّةِ، كما تقتضيهِ تعاليمُ الاسلامِ الحنيف.
و على أَساسِ هذه الثَّوابتِ، أَصبحَ معيارُ تقييّمِ الدَّاعيةِ، يعتمدُ على مِقدارِ إِيمانهِ بقيَمِ الاسلامِ، و فَهمِهِ العميقِ لها، و مدى تأثيرهِ في الوسطِ الاجتماعي، الّذي يعيشُ فيه.
هذه النَّظريَّةُ الحركيَّةُ المُنفتحَةُ، كانتْ القوّةُ الدّافعةُ، الّتي اسهمتْ في تسارُعِ حركةِ انتشارِ حزّبِ الدَّعوةِ الاسلاميّةِ، إِبَّانَ عقدي السّتينياتِ و السّبعينيات، من القرنِ العشرين. و قدّْ اثبتتْ هذه النظريّةُ (الدّاعيَةُ القُدوَةُ)، فاعليَّتها في أَوساطِ المُجتمع العراقي، بشكلٍ مُنقطعِ النَّظير.
في عام 2005 وَصلَ عمليّاً حزّبُ الدَّعوةِ الاسلاميّةِ، الى سَدَّةِ حُكمِ العراق. و استلمَ بعضُ أَعضائهِ، مهامَّ مناصبَ عُليا، في السُلَّم الوظيْفي في الدَّولةِ العراقيَّة. صحيحٌ كانتْ هذه المرحلةُ صعبةٌ، و مُحتدمةٌ بالصراعاتِ، لكنّها كانتْ مناسِبَةً لتجسيدِ الفِكّرِ الدَّعويّ عمليّاً، بيّن قطّاعات كبيرةٍ من أَبناءِ الشّعبِ العراقِيّ، الّذين كانوا بالأَساسِ مُتهيّئينَ لاستقبالِ عمَلِ الدُّعاة.
كانَ يَنبغي أَنّْ تُستَثمَرَ الفترةُ الممتدَّةُ بيّنَ الاعوامِ(2005- 2014)، لتكونَ فترةً خَصّبةً، بمنجزاتِ المسؤولينَ من أَعضاءِ حزّبِ الدَّعوةِ الاسلاميَّة، على مُستوى تقديمِ الخدماتِ، و الانتقالِ بالبلدِ الى الامامِ بخطواتٍ ايجابيةٍ. و إِنّْ كانَ الواقعُ يَحِدُّ شيّْئاً مّا، من تطبيقِ هذه الخَطواتِ بسرعةٍ قياسيَّةٍ، بسببِ الظروفِ الطّارئةِ، الّتي مَرَّ و يمُرُّ بها العراق. لكنّْ لا يَسقِطُ الميسورُ بالمَعسُور، و ما لا يُدّرَكُ كُلُّهُ لا يُترَكُ كُلُّه.
و في كلِّ الأَحوالِ، لو تحقَّقتْ بعضُ المنجزاتِ، لشكلّتْ بداياتِ عملٍ صحيحةٍ، تَكشِفُ إِصرارَ إِرادَةِ الدُّعاةِ الرساليين، على مواجهةِ التَّحدياتِ. باعتبار ذلك جزءٌ من برنامجهِم الجِّهاديّ البنَّاء. خصوصاً أَنَّ المنصبَ الوظيفيّ، يوفِّرُ لمُتَقَلِّدِهِ، حُزمَةً كبيرةً من الصَّلاحيّات التَّنفيذيّة، و القُدرةَ على تَقديمِ المُنجزاتِ، للصَّالحِ العامّ إذا ما أَحسنَ المسؤولُ، استثمارَ هذهِ الخُصوصيَّةِ، الّتي يَفتقِرُ إِليها غيرُه.
لو حصَلَ ذلكَ، لقَدَّمَ المسؤلونَ المُنتمونَ لحزّبِ الدَّعوةِ الاسلاميَّةِ صوّرةً، سلوكيَّةً رائعةَ، عَن النظريّةِ الفكريَّةِ و السُلوكيَّةِ، الّتي جاهدَ من أَجلِ تحقِيقِها، الرِّجالُ الّذين صَعدوا على أَعوادِ المشانقِ، في زمنِ البَعّْثِ المَقبور. لكنْ معَ الأَسفِ الشديّدِ، لمْ يَصمدّْ الكثيرُ، من اعضاءِ حزّبِ الدَّعوةِ، أَمامَ مُغرياتِ السُلطةِ، فَسَقطوا في حَضيضِ الفَسادِ الاداريّ، و التَّلكؤِ الوَظيفيّ، و لمْ يَنجحوا في تقديمِ، نَموذَجٍ صحيحٍ، لفِكرِ حزّبِ الدَّعوةِ الاسلاميَّة.
هذا الفشلُ الّذي يُبرِرَهُ الكثيرُ من الدُّعاةِ، المُتقلدينَ لسُلَّمِ المسؤوليَّةِ، بأَنَّ الظروفَ القاهرةِ، أَكبرُ بكثيرٍ من امكانياتِهِم الذَّاتيَّةِ، و الوظيفيَّة. لكنْ هذهِ الاجابةُ غيّْرُ المُقنعةِ، ستَبقى نُقطةً سَوداءَ في تَاريخِهِم الشخّصي، تُترجمُ عَجزَهُم الوَظيفي، و قُصورَهُم في فَهمِ مُتطلباتِ الواقعِ العِراقي، و بالتَّالي اهتزازُ صُوَرِهِم، في نَظَرِ الشَّعبِ العِراقي.
و إِنّني أُجزمُ قاطِعاً، أَنَّ انعكاساتِ و اخفاقاتِ الدُّعاةِ المسؤولين، في الحكوماتِ المُتعاقبةِ، و تَدنّي مُستوياتِهِم في النُّهوضِ بأَعباءِ الأَمانَةِ الوطنيَّةِ، كانتْ بمثابَةِ السِكّْينِ الّتي نَحرَتْ حزّبَ الدَّعوةِ، فِكّْراً و ثَقافةً و سُلوكاً و تاريخاً، على مَذبحِ السُلطةِ، مثلما هدَرَتْ تَضحياتِ شُهداءِ الحِزّبِ، و عوائِلهِم.
فعلى قياداتِ حزّبِ الدَّعوةِ، أَنّْ تقومَ بمراجعاتٍ جادَّةٍ لهذهِ المواقفِ السلبيَّةِ، و تُبادرُ بتصحيحِ كُلِّ الاساءآتِ، الّتي لَحِقتّْ بالحزّب. فإِنَّ كلَّ يومٍ تتأخرُ فيه، مرحلةُ انطلاقِ عمليَّةِ التَّقييّمِ و المراجعةِ و التَّقويْمِ، سيُسهمُ في مَسحِ وجودِ حزّبِ الدَّعوةِ تَدريجيّاً، من ذَاكرةِ الشَّعبِ العراقيّ. و في ذلك هَدّْرٌ لتاريخٍ أَصيْلٍ و عَريقٍ، منَ الجّهادِ و التَّضحياتِ، تَحمَّلَتها أَجيالٌ آمَنتْ، بأَنَّ حزّبَ الدَّعوةِ، هو المُنقِذُ و المُخلِّصُ، في زمنِ التَّحدياتِ الصَّعبة. و اللهُ تعالى مِنْ وَراء القَصّد.

كاتِبٌ وَ بَاحِثٌ عِرَاقي
[email protected]