23 ديسمبر، 2024 9:39 ص

الدّعوة والقدرة على المراجعة المُستمرة

الدّعوة والقدرة على المراجعة المُستمرة

علّقتُ على موضوعٍ كتبهُ السيد نوري المالكي مشيراً إلى قدرة حزب آلدّعوة و الدّعاة على المراجعة و إستدراك الأخطاء و تعديلها بشكلٍ مستمر في كلّ الظروف من دون أثر يُذكر, مادحاً بآلضمن بشيئ من التعصب نهج حزب الدّعوة و متبنياتها العقائديّة, و لذلك رأيتُ من الواجب بيان الحقيقة له و للآخرين بتعليق هامّ على دعوته بآلقول: أخي ألسّيد نوري المالكي؛ إنّ السّبب في أخطاء و إرتباك الدّعوة و الدّعاة لم يبدء بعد سقوط النظام كما أشرت في مقالك, و إنما الأرباك رافقهم منذ سبعينات القرن الماضي و حتى قبل ذلك, و بَرَزَ أكثرها على آلسطح بوضوح خصوصاً بعد حدوث (الثورة الأسلامية) و ما رافقتها من إنشقاقات و إنحرافات كبيرة و ولاآت مُتعدّدة و منها على سبيل المثال الأرباك الذي حصل بشأن الأنتماء للبعث أو المواجهة, و كذلك شكل الهيكل التنظيمي و موقع قيادة الدّعوة و علاقته بالمجلس الفقهائي و (ولاية الفقيه) و الموقف من قرارات الحكومة الإسلامية, و (قرار الحذف) المهين بحقّ فقيه الدّعوة أنذاك ألسّيد كاظم الحائري, وتعرّى كلّ شيئ بشكل مذهل بعد سقوط الصّنم حين تسلّم الدّعاة حكومة العراق و خزينته!

و السّبب في كلّ ذلك هو النّقص و آلضعف الشديد والتشويه الواضح في القيم الأخلاقية والمتبنيات الفكريّة و سطحية المفاهيم في ثقافة الدّعوة .. لعدم قدرتها على قراءة واقع و مستقبل المسلمين و آلتأقلم مع الثورة الأسلامية و بآلتالي إرباك معالم مسيرة الدعوة و التحرك الأسلاميّ الذي تحدّدَ بأربعة مراحل فقدت مرحليتها بسبب مفاجئتها بتلك الثورة و آلفراغات الكبيرة التي لم تُملأ و المفاهيم و التفسيرات السطحية الغير الدّقيقة و لم تُعالج لحدّ هذه اللحظة رغم مرور 60 عاماً على تأسيسه, لهذا إستمر تكرار الأخطاء و البيانات ألشكلية لتبقى الأرباكات متلازمة لمسيرة الدّعوة! كما إنّ تباين مواقف الدّعاة من الأحداث حتى بعد سقوط الصّنم و إستلام الحكم من قبل الدُّعاة الذين أكثرهم لم يُدركوا و لم يستوعبوا حتى فلسفة (حزب الدعوة) و آلهدف من تأسيسه لبُعدهم وعدم إطلاعهم حتى على النشرات التي أصدرها الدّعاة الأوائل يوم كانت الدّعوة تمرّ بأحرج الظروف خلال الستينات و السّبعينات كآلسيد العسكري و آلشيخ الكوراني و آلآصفي و التسخيري, ثمّ الرعيل الثاني كحسين معن و أبي عصام جلوغان و نوري طعمة و غيرهم من دعاة الأمس يتقدّمهم رؤى و نشرات الشهيد الفيلسوف الصّدر الأول من قضية التنظيم و الدعوة و الولاية التي إعتبرها أصل الأصول في هيكليّة و مصير الحزب و كما تبيّن من خلال وصيته المركزية الأخيرة التي تركها للأسف من دون إكتراث معظم الدّعاة بها بسبب جهلهم و عدم دركهم لأهمية و مكانة (الولاية) كعمود فقري في مسيرة الدعوة, و لذلك تسبّبوا في الكثير من الأنحرافات و المشاكل و الفساد و عدم ثباتهم على النهج الأمثل الذي بيّنه الأمام الفيلسوف الصّدر بشأن قضايا الأمة المصيرية!

و من آلنتائج ألمؤلمة الأخرى لهذا الواقع المرير؛ هو ما شهدناه بعد 2003م, حيث إختصر الدُّعاة فلسفة آلتنظيم و الحزب بآلرّواتب المليونية و المخصصات و الحمايات و النثريات و شراء القصور و الفلل و ملأ جيوب ذويهم بآلمال الحرام للأسف .. بمعنى أنّ الداعية لم يفهم حتى أبسط مبادئ الأسلام و السّياسة في نهج أهل البيت(ع), و بذلك قدّم الدّعاة ألذين – كانوا أمل الأمّة – أسوء صورة عن الأسلام و المبادئ و القيم و الشهداء المظلومين الذين ضحوا من أجل العدالة .. و العدالة فقط في الحقوق و الرّواتب و الخدمات في حال إستلام السلطة, بدل الظلم والطبقية والأجحاف بحقوق الفقراء والعبث بمستقبلهم وكما هو الحال الآن.

بل رأينا (دعاة اليوم) قبل هذا و بعد لجوئهم لدولة الأسلام و إنفتاح الأجواء و الأمكانات امامهم و حصولهم على الحرية المطلقة في كنف الولاية وغيرها من الدول؛ إلاّ أنهم لم يُقدّموا ما كان متأملا منهم للأسلام و لا للمسلمين كغيرهم من الحركات و الأحزاب السياسية, حتى إنهم لم يُصدروا نشرة مركزية ثقافية غنيّة واحدة لتقويم مسيرة الدعوة و الدُّعاة, و كانت جلّ النشرات مجرّد تقارير عن وصف الوائع و كأنها نشرات إعلامية و ليست فكرية و إستمرّت هذه الحالة المُتدنّية من آلأنحطاط الثقافي والفكري لحدّ هذه اللحظة ممّا سبّب إبتلائهم بمفاسد آلسلطة و صراعهم على المناصب و الدنيا والدولار, لذلك فقدوا توازنهم و إرتكبوا بعضهم المظالم الكبيرة بتعاونهم مع الدواعش لضرب المؤمنين و إنتشر الفساد و صارت مهنة لكل الفاسدين المتحاصصين الذين فتحوا على الدّعوة أبواب الشبهات و القذف و الرفض و الفشل و حتى العمالة!

إن المحنة الأكبر و الأرباك الأخطر الذي إبتلى به الدّعوة و آلدّعاة؛ كانت بعد إستلامهم لزمام الحكومة العراقية و ما رافقتها من ظواهر سلبية و إنتشار الفساد الذي شمل جميع مرافق الدولة و على كلّ الصعد بسبب بعض القيادات الغير كفوءة و الأنتهازية التي ظهرت فجأة في هرم الدعوة بآلأضافة إلى فساد المتحاصصين الآخرين, فأفقدتها و أفقدتهم تلك المواقف الكثير من القواعد الشعبية التي كانت تقدس و تؤيد الدعوة و الدّعاة للأسف الشديد حيث إنقلبت نظرة الناس الأيجابية إلى نظرة سلبية مقيتة, بعد ما كانوا يحترمون كلّ رموزها بثقة عمياء عالية بسبب التأريخ الطويل العريض الذي لوّنه شهداء الدّعوة العظام بدمهم و مسيرتهم و إخلاصهم للحقّ و العدالة التي تشوهت إلى حدٍّ بعيد على يد (دعاة اليوم) ألأميين فكرياً بعد إستلامهم للحكم .. بجانب الأنشقاق الكبير الذي كان سبّبه هفوات و مواقف السيد الجعفري و السيد العبادي و من يحيط بهم من اللذين قضوا أكثر عمرهم على أعتاب الأنكليز و آخرين ممّن حولهم من أجل المال و السلطة و شراء القصور في لندن و دول الجوار للأسف .. بعيداً عن القيم و الأهداف السماوية الكبرى التي نَظَّرَ لها الصدر كما السيد الحائري من بعد, حيث أحدثوا شروخاً و جروحاً قوية شطرت الدّعوة إلى فرق و مسارات و ولاآت مختلفة و أضعفت موقفها السياسي و الأجتماعي و العقائدي و مكانتها في قلوب الشعب العراقي داخلياً و لدى الدّول و الحكومات خارجياً!

لذلك .. على الدّعاة أن يعرفوا و يدركوا جيّداً؛ بأنّ هناك زلّات و هفوات و أخطاء سطحيّة و شكليّة و آنيّة عادّية تتعلّق أكثرها بآلطرق و الأساليب المُستخدمة لعلاج أو تحقيق القضايا و المواقف و المنعطفات الثانوية و الفرعية التي تواجه الدعوة المحفوفة بالدّعاة كما أيّ حزب, و تلك مسألة عاديّة في كل المنظمات و الأحزاب و الحركات و حتى الحكومات, لكنّ هناك أخطاء جوهريّة و ستراتيجيّة مصيريّة و ذات أبعاد مركزية لها تبعات خطيرة, و لا تمر بسهولة من دون ترك الخسائر العظيمة .. و التي قد تشمل وجود و أركان و قيم كل الحزب!

لذلك لا بُدّ من إعادة صياغة فكر و متبنيات و ثقافة (الدّعوة) من الأساس لأنّ الخلل فيه بنيوي و ليس شكلي, خصوصاً البنى الفكرية و المنهية و الولائية العقائدية و الأخلاقية, والأهداف الستراتيجية .. فهناك عيوب و فراغات كبيرة رافقت مسيرة الدّعوة من بداية تأسيسها و للآن و من دون حلّ وقد أشرت لها في بداية ثمانينات القرن الماضي و بآلادلة و الأرقام, لكنّ مع آلأسف البعض في قيادة الدعوة و بسبب التحجر العقلي و الأميّة الفكريّة لم يستوعبوها بدقة و وعي بل إعتبروها تجاوزاً على متبنيات الحزب المتناقضة و تمّ أنذاري و حتى تهديدي بغباء كغباء البعثيين, و لهذا حدث ما حدث من مآسي و تشتت و فرقة و إنشقاقات عظيمة و إنحرافات و خسائر فادحة وصلت حدّ (التعرّب بعد الهجرة) و هي من أكبر الكبائر و العياذ بآلله في عقيدة الأسلام قبل 2003م و بعدها حدّث و لا حرج كما أسلفنا, بينما المؤمن الحقيقي لا يخطأ و لا يعتذر كما تؤكد النصوص ذلك بعكس المنافق الذي يخطأ كثيرا ًو يعتذر.

و هناك أسباب أخرى فصّلناها في مباحثنا المتعددة, سبّبت الكثير من الخسائر في الأمّة و الدمار في الوطن, بعنوان: [ الصدر و دعاة اليوم], و كذلك : [ألسياسة و الأخلاق؛ من يحكم من], و [محنة الفكر الأنساني] و غيرها من البحوث الهامة ذات العلاقة و التي كتبناها بآلدم و الدموع فيرجى مراجعتها للوقوف على تلك الحقائق و المنعطفات التي مرّت بها الدعوة و مسيرة الأنسان و إرتبكت وإحترقت في أكثرها دون التقدم و الأبداع , بل و حدوث العكس من ذلك للأسف, و رغم جفائكم سأبقي بالدّعاء لكم وفيآ.. فأنتم أحبتي مادمت حيآ .. و أدعو الله في سري و جهري .. جنان الخلد ندخلها سويآ و لا حول و لا قوّة إلا بآلله العلي العظيم.