” ان مشكلتنا نحن المنتسبين إلى الإسلام منذ قرون لا تكمن في عدم تطبيقنا للإسلام بل في أننا لم نفهمه بعد” – د علي شريعتي-
لقد تشابكت صلة المقدس بالدنيوي وحضر السياسي بقوة في دائرة الديني وتم العثور على الإيمان في قلب الشك وصدق الناس بماذا هبط من الوحي بالرغم من حالة الإنكار والتردد والإعراض ولكن ظلت الحيرة متصاعدة وسط اليقين وتكاثرت موجات المعاندة والمعارضة والرفض والارتداد والخروج بعد إظهار التأييد والمبايعة والمناصرة والولاء وتم التحول منذ بداية الإسلام من وضع التنزيل إلى مرتبة التفصيل وتشكلت علاقة اتصال متشابك ومعقدة بين المصدر الإلهي للوحي والمضاف الإنساني في التجربة التاريخية. لقد حدث انتقال جوهري في الزمن المبكر للإسلام من توظيف السياسة لفائدة الدين بغية تدعيم الإسلام وتبليغ الرسالة ونشر الدعوة إلى توظيف الدين لفائدة السياسة بغية تركيز الدولة الفتية وتدعيم أركان الحكم الصاعد والخروج من المجتمع القبلي ما قبل الدولة الذي يتميز بالتناحر والفوضى إلى الوجود المدني ما بعد الدولة الذي يشهد ميلاد التنظيم الإداري وبعث الوزارات والدواوين والقضاء وتولية الولاة في الأقاليم. لقد اندلع صراع، لم يهدأ إلى الآن، بين العلماء والحكام حول امتلاك المشروعة والسلطة وظهر في كل مرة في شكل جديد مثل الصراع بين الفقهاء والمحاربين أو بين القلم والسيف. لكن من امتلك زمام المبادرة في التاريخ الإسلامي المبكر؟ هل السياسي أم الديني؟ ولمن آلت الكلمة في النهاية ومن انتصر؟ هل انتصر المنطق الاعتقادي أم المصلحة السياسية؟ ولماذا وقع الاكتساح وساد التزمت ؟
من المعلوم أنه توجد بعض الشذرات السياسية في القرآن تتعلق بالحكم والسلطة والشورى والأمة والقيادة والتدبير والاستيلاء والغلبة وتتوزع حول الإمامة والخلافة والإمارة والوزارة والعناية والرعاية وتتحرك ضمن حقل دلالي مشبع بمفاهيم العدل والمساواة والقسط والمسؤولية والحق والتشريع الجيد والاستقامة والميزان والمنفعة وتفرق بين المفاسد والمصالح وبين الأنظمة المهلكة البائدة والأنظمة الفائزة المعمرة.
كما يمكن تصور بعض القواعد الأخلاقية والتربوية التي تفيد في تهذيب السلوك السياسي للحكام وافتراض جملة من المبادىء النافعة في توجيه العمل السياسي تساعد على الارتقاء بالبشر من التناحر إلى التعاون.
من جهة المقابلة تبدو بعض الطقوس والشعائر والممارسات والمعتقدات مهيئة بطبعها للتوظيف السياسي ولاستعمالات دنيوية مثل الصلاة والحج والأعياد وكل التجارب الإيمانية التي تتم بصفة جماعية ويكثر فيها الاختلاط والاشتراك وتحدث في الفضاءات العامة وتشترط التكافل والتعاون وتبادل الرموز والقيم.
اللافت للنظر أن الإسلام على خلاف معظم الأديان السماوية الأخرى قد عرف نجاح النبي في إقامة الدولة في المدينة وتوحيد القبائل العربية وإعطاء للمنتسبين إلى الديانات الأخرى حقوق الأمان والمواطنة وحرية المعتقد ، غير أن المنعرج الخطير قد حصل أيام الفتنة والصراع على السلطة حينما تم افتكاك الحكم عنوة وجعله ملكا وتوريثه وبالتالي السماح بقيام دولة ثيوقراطية استبدادية تنادي بمبدأ الحاكمية وتعمل على تطبيق الشريعة وإقامة الحدود مع تبني قاعدة رفع المظالم.
ما يجدر ملاحظته أن وظيفة الدين الإسلامي لم تكن حسب القرآن والحديث إنشاء دولة تجبر الناس على اعتناق الدين الجديد وأن الإسلام لم يعرف من وجهة نظر ثقافية وحضارية قيام الدولة السياسية المدنية بل أشكال حكم تتراوح بين الإمارة والإمبراطورية والمملكة وترتكز على الفقه السياسي والآداب السلطانية.
لقد احتاج النبي المصطفى إلى تقديم جماعته الدينية لا من حيث هي مجموعة من الموحدين بالله والمؤمنين بالقرآن وبنبوته والمعاد فقط بل بوصفها بديلا سياسيا لأنظمة الحكم المتغيرة ليتمكن من التوسع واكتساح الفضاء وتحشيد الأنصار وبسط النفوذ وتوسيع السيطرة على الثغور وتحدي الإمبراطوريات المجاورة.
غير أن الحكام الدنيويين الذي جاؤوا بعد تجربة دولة المدينة احتاجوا إلى المرجعية الدينية من أجل كسب الشرعية وصبغ هالة القداسة على ممارساتهم اليومية واستندوا إلى الفتاوي الفقهية لكي يبرروا أخطائهم.
لقد عرف الإسلام المبكر اعتماد استراتيجيتين متعاكستين تتكون من المحايثة من أجل التبليغ الرسالي والتعالي من أجل بناء السيادة السياسية للجماعة الصاعدة وكانت الغاية من الحركة الأولى التدخل في التاريخ لترسيخ مؤسسة النبوة والمجاهرة بالدعوة بينما هدفت الحركة الثانية إلى تشكيل الكيان السياسي.
هذا المنعرج يؤرخ لبداية التوظيف السياسي للدين ويؤذن ببداية تشكل الأحزاب السياسية والفرق الدينية وحاجة كل فريق سلطوي إلى ايديولوجيا إيمانية تؤسس له مشروعية صراعه على الحكم وتساعده على كسب التأييد الاجتماعي وتكريس الانقسام السياسي للأمة عن طريق إحداث البدع ومحاصرة الاجتهاد.
بيد أنه توجد آليات الفعل السياسي وطرق إدارة شؤون الجماعة السياسية مذكورة في الوحي وتم أخذ مواقف سياسية واضحة في الإسلام منحازة إلى الفقراء والمضطهدين ومعارضة للظلم الاجتماعي والاقتصادي وممانعة للاستبداد السياسي والانحلال الأخلاقي ووقع اعتبار التفاوت والطبقية والاحتكار والغش والكذب والرياء أشكال من الفساد والإفساد في الأرض يجب الابتعاد عنها وإصلاح عواقبها. كما يطالب الإسلام الأنبياء والرسل والمؤمنين بأن ينصروا المحتاجين ويغيثوا المظلومين وأن يصارعوا المحتكرين والطغاة ويحملوا على الفاسدين والمستغلين ويقودوا نضال الناس من أجل استرداد الحقوق والمطالبة بالعدالة والمساواة والقسط في توزيع الثروات ومعالجة الآفات والاستشارة في مصير الأمة .
لقد انقسم المسلمون وتفرقوا بين قائلين بالوصية في الملك والتعيين بالانتماء والدرجة وبين المشترطين للإجماع وانعقاد البيعة الكبرى واختيار الأجدر ولكنهم اتفقوا على السيادة للأمة والطاعة لأولي الأمر. ما عدى بعض المدارس الكلامية والفرق الدينية التي أقرت حرية الأنفس وتصدت للسلطة الخارجة عن دائرة العدل وشرعت الثورة على الظلم ودافعت على كليات الحياة والمال والدين والعرض والعقل والنسب.
منتهى القول هو حصول تفاعل بين الديني والسياسي في الإسلام وفي البداية وقع تقديم السياسي من أجل خدمة الديني قصد نشر الدعوة على طول الفترة التي سبقت تشكل دولة المدينة ولكن بعد ذلك وقع تقديم الديني على السياسي من أجل التوسع وإخضاع الأمم المجاورة للدولة في فترة الانتشار والتحول إلى نمط إمبراطوري من التواجد في العالم وانتزاع الاعتراف بالمسلمين كجماعة دينية تحمل مشعل الحضارة. غاية المراد أن ما يحتاجه الإنسان المعاصر اليوم ليس تطبيق الإسلام بحذافيره وإنما بذل الجهد لفهمه على ضوء ثقافة العصر ومعرفة أين يبدأ الديني وينتهي السياسي ورسم الحدود الفاصلة والواصلة بينهما. لماذا ترك نبي الإسلام نظرية الحكم ومفهوم الدولة ضمن باب الدراية بشؤون الدنيا ؟ ألا تحتاج البشرية والمسلمين – على حد عبارة جورج برنارد شو- إلى رجل مخلص يقتدي بالنبي محمد ليحل مشاكل العالم؟
كاتب فلسفي