18 ديسمبر، 2024 7:35 م

” الدين والسلم الإجتماعي: التحديات والآفاق”

” الدين والسلم الإجتماعي: التحديات والآفاق”

مؤتمر أكاديمي دولي مشترك بين الجامعة الكاثولكية وجامعة كويا
قيس مغشغش السعدي
على مدى يومي الأربعاء والخميس 16- 17 شباط إنعقد في أربيل مؤتمر “الدين والسلم الإجتماعي” بإقامة مشتركة بين الجامعة الكاثوليكية في أربيل وجامعة كويا في مدينة كويسنجق. ظهرت إستعدادات الجامعتين من خلال التنظيم العالي الذي لمسناه كمدعوين منذ المفاتحة للمشاركة وتقديم الدراسات وحتى الإستقبال الحافل في الجامعتين. وفي كلمتيهما في الإفتتاح أكد كل من الأستاذ الدكتور ولي حماد رئيس جامعة كويا والأستاذ الدكتور رياض فرنسيس رئيس الجامعة الكاثوليكية على أهمية عقد هذا المؤتمر في موضوعة أساسية في حياة البشر عامة وحاجة العراق لها بعد كل الظروف الصعبة التي مر ويمر بها. فالدين للسلام، والسلام للناس من أجل عيش آمن للجميع بتآلف ومحبة وأخوة حقة، وأن يسعى الدين دائما لتقديم النماذج الإيجابية التي تتجاوز الكلام إلى فعل وسلوك ملموس. وعزز ذلك د. ديفيد تريمبل نائب رئيس المعهد التربوي للحريات الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية في المبحث الذي قدمه والذي أكد فيه على أهمية التعليم لجعل الدين كفيلا بإشاعة السلام وحب الآخر. وأغنت جلسات اليوم الأول الصباحية والمسائية في مباحثها عن الحريات الدينية ودور الفرد والمؤسسات الدينية في ثقافة السلام وأهمية حرية المعتقد في السلم الإجتماعي وأهمية الحوار في التعايش السلمي.
وفي اليوم الثاني إنتقلت أعمال المؤتمر إلى مدينة كويسنجق حيث جامعتها جامعة كويا. وكان إستقبالا حافلا وترحابا رائعا كما في الجامعة الكاثوليكية عبّر عن محبة السلام وإشتراك الجميع فيه على تعدد أديانهم. الفرح الذي على الوجوه الجميلة للطالبات والطلاب كان يفيض بالمحبة، ودفء السلام من قبل أساتذة الجامعتين جعلنا وكأننا نعرفهم من قبل هذا اللقاء. كانت محاور جلسات هذا اليوم الصباحية والمسائية تعرض تعريفا وبيانا لعدد من الديانات القائمة في العراق ديانة الصابئة المندائية، والزرادشتية، والكاكائية، ودراسات مقارنة في الصلاة والتماسك المجتمعي وموضوعة التطرف الديني السياسي وترسيخ قيم التعايش ومواضيع أخرى.
تميز هذا المؤتمر بموضوعته الأساسية في تأكيد أهمية الدين لغرس السلام في النفوس وإشاعته بين الناس ليتحقق بذلك الإيمان بأن السلام هو هبة الخالق لحاجة المخلوق، وما لم يشبع الدين، ورعًا وتقوى، حاجة النفس لذلك، فإن حياة الفرد والمجتمع تكون مهددة بالخطر. وعلى هذا، فما من دين إلا ويحض على السلام في عقيدته وسلوك الرسل والمعلمين فيه، وهذا ما يجب أن يكون نهجه دائما، وأن لا ينشغل الدين عن ذلك ولا يشتغل بخلافه. وقلنا بأن ليس هنالك دين كبير وآخر صغير، فلكل دين معتقد وطقوس ومثولوجيا، إنما هنالك أتباع كثيرون لهذا الدين وأتباع قليلون في بلد معين، ولا يجب أن تعمل الكثرة على الإستحواذ على القلة وإضطهادها لأن ذلك مبعث ظلم، والله لا يحب الظالمين. وقلنا أن من خزائن العراق الكثيرة والكبيرة على أرضه وبين نهريه أن فيه أول الديانات التوحيدية، وهذا التعدد في أديانه على مر عصوره الذي يؤشر أن الدين ليس أداة للغلبة ولا للفرقة. فالدين ليس دولة وهذا يعني أنه ليس سلطة، فإن تحوّل الدين إلى دولة سينسحب الإيمان لأنه لا يدخل القلوب بسلطة فـ “لا إكره في الدين”. هكذا كان الدين بتعدده مصدر قوة في العراق لأنه مؤشر الحرية والتسامح والعيش المشترك الذي يتوحد بقيم المواطنة وأهلية الكفاءة وليس غير. وإشتراك الدين بهذه الروح يمكن أن يوجه السلطة إذا ما تجبرت أو إنحازت وليس العكس في أن تتوجه السلطة لخدمة دين أو مذهب بعينه في بلد يحتوي مثل هذا التنوع القيّم والمؤصل الذي يُشاد به نطريا عند دراسة الدين والدين المقارن، ولكنه وبكل أسف تم سحبه بإتجاهات غرضية وسياسية إلى الحد الذي شوه هذه الصورة وجُعل مصدر فرقة وتمايز، بل وإضطهاد وإقتتال. وما يحزننا أن يأتي آخرون إلى العراق ليحدثونا عن أهمية التعايش السلمي ودور الدين والتعددية الدينية في اللحمة الوطنية في وقت كان العراق نموذجا فعليا ومعلما في ذلك.
هذا ما أكد عليه الباحثون الأكاديميون الذين شاركوا في المؤتمر من الديانة الإسلامية شيعيا وسنيا ومن الديانة المسيحية والصابئة المندائية والإيزيدية والزرادشتية والكاكائية والبهائية أيضا. والحاضر المراقب للروح الذي ساد في المؤتمر ولقاءاته يملؤه الفرح وهو يلمس هذا الحوار البناء القائم على القبول دونما أي تمايز. فقد إتفق الجميع أن لا سلام ولا تعايش سليم ما لم يتم قبول الآخر قبولا صحيحا كاملا وباشتراك غير مبني على الغلبة، إنما على حقوق المواطنة الصحيحة والحرية الدينية دون أن يكون ذلك منّة أو منحة. وقوام هذا القبول هو معرفة الآخر معرفة صحيحة من قبل القائمين على الأديان أنفسهم مصدقين لما هم عليه، والعمل بجد لإشاعة هذه المعرفة بين الناس سلوكا وتربية. وهنا تم التركيز على:
1- التربية والتعليم في المدارس وحتى الجامعات ودورها في التعريف الصحيح بأديان العراق وأهمية قبول الآخر والتعايش السلمي والمحبة وكيفية أن يكون ذلك مصدر قوة وسلامة.
2- إعداد المناهج الدراسية بشكل صحيح ومتكافئ في منح مساحات كافية للتعريف والتعليم عن أديان العراق إن كان في كتب التربية الدينية أو التأريخ أو التربية الوطنية. وهذا يتطلب قرارا يلزم وزارت التربية والتعليم بمتابعة ذلك ومن خلال لجان يشترك فيها أكاديميون من الديانات ذاتها.
3- وضع كتب التعريف بأديان العراق ضمن مناهج إعداد المعلمين والمدرسين ليكونوا على معرفة صحيحة وكاملة بخصوص هذه الأديان لكي يحققوا النجاح المطلوب في التعريف بها لدى تلاميذهم وطلبتهم.
4- طباعة كتب مساعدة للتعريف بأديان العراق توضع في مكتبات المدارس والمعاهد والجامعات لكي تكون متاحة للطلبة من أجل مزيد التعرف عليها.
5- التأكيد على دور الإعلام بكل أنواعه وضرورة إشتراكه بشكل ممنهج للتعريف بهذه الأديان وبيان قيم التسامح الديني وأهميته في التعايش وتحقيق السلم المجتعي.
6- توجيه الإعلام المرئي من خلال إعداد برامج و نتاجات تلفزيونية تعرف بأديان العراق وطبيعة حياة وطقسيات كل دين ومشاركتهم إحتفالاتهم ومناسباتهم وتتحدث أيضا وبشكل موجه في بيان أهمية التعايش والقبول ضمن الحياة المجتمعية في العراق عامة.
7- إقامة نشاطات مشتركة يتم تمثيل تلاميذ وطلاب وأفراد من جميع الأديان لتعزيز روح التأخي.
8- تحديد يوم سنوي لإقامة شعائر وطقوس مشتركة من قبل جميع الأديان كأن يكون (الصلاة من أجل العراق) ويكون تظاهرة وإحتفالية إيمانية شاملة وموحدة.
أما الجوانب الأخرى التي تتعلق بسبل ضمان السلام بين المكونات الدينية والإثنية من حيث الحقوق والواجبات والتشريعات فقد تم التأكيد عليها من خلال ما أقرته الأمم المتحدة في إعلانها لحقوق المنتمين للأقليات الدينية والإثنية والتي تتلخص في المحافظة على الوجود، والمحافظة على الهوية، وتحقيق المساواة، ووضع اللوائح التي تكفل تحقيق ذلك والتي ستظهر في توصيات المؤتمر.
إن هذا المؤتمر، بروح إنعقاده السامية ومشاركاته التي شملت جميع من دعوا وقدموا إليه من ألمانيا وفرنسا وأمريكا والهند الذين شاركوا زملاءهم من محافظات إقليم كوردستان والكوفة وبغداد، هو بحق مؤشر عافية وإشتراك في المحبة العراقية، ودليلا على أن التنوع كان مصدر لهفة الجميع للتعرف على ما لدى الجميع، والأمل بأن تشيع هذه المحبة التي تجلب التوحد على مستوى المجتمع العراقي عامة فيكون الإسهام جادا وحقيقيا في إشاعة السلام، لأن السلام هو الطريق. فما أجمل أن يعمل الجميع على تحقيق طمأنة الله سبحانه ومساواته للجميع المؤمن بقوله: “لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون” (سورتي البقرة والمائدة)