23 نوفمبر، 2024 12:35 ص
Search
Close this search box.

الدين والتدين

لاعجب أن أصبح الدين اليوم مستودعاً لكل مشاكل الحياة، فالشباب الآن يلقي كل ما يراه من تدهور يحصل اليوم يلقى اللوم فيه على الدين، وكل تخلف يُعزى اليه، بينما هو في الواقع يحث على التعقل والتفكر وإتباع العلم وتحقيق العدل والإحسان الى الآخرين، وعمل الخير والصلاح، وكل ذلك لو طبق لكانت الدنيا بخير وأمان. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). إذن الدين شيئ جميل، ولايتعارض مع النجاح والتقدم والتطور والحب والجمال والرياضة والعلم والفن، وكل الإمور الحياتية التي نسعى للحصول عليها.
إذاً لماذا نرى العكس؟ وما الذي حصل بحيث جعل من التجربة السياسية-الدينية فاشلة حتى أودت بفشلها على الدين نفسه حتى خارج إطار السياسة والحكم، وبحيث نرى اليوم نتائج مهولة على أرض الواقع. فأصبح الجميع يُجَرِّم الدين ويكن له الكراهية، وقد إبتعد المجتمع عن الدين بشكل ملحوظ. فهل يمكن أن يكون لديك كل تلك العيوب وأن تكون ملتزماً بالدين في نفس الوقت ؟
لا نلوم من إبتعد عن الدين اليوم بعد أن رأينا الفظائع التي ترتكب بإسمه، فنرى مايعرف “بالمتدينين” يكذبون ويغشون ويتعدون على الآخرين – وحاشى للدين من كل ذلك – بل هم يفعلون بعكس ما أمر الله به برسالته وكتبه.
فالحالات الخاطئة لمفهوم الدين عند الناس والتي نراها على أرض الواقع إنما هي شعائر بدون قيم، ومظاهر للدين بدون جوهر، وشكليات طقوس بدون مضمون. فنرى مثلاً الموظفة المؤمنة المحجبة المصلية والصائمة، ولكن كل مظاهر تدينها تلك لم تمنعها من أخذ الرشوة ! ونرى الناشط الاسلامي الذي لا يجد حرجاً بسرقة المال العام لأنه يعتقد بأن ما يأخذه من مال إنما هو مجهول المالك، وأن ما يأخذه هو حقه الشرعي الذي حُرم منه طوال فترة جهاده ! ونرى المسؤول الذي يمثل الطائفة أو المذهب وينتمي لحركة اسلامية يتسلم المناصب ولكن ليس له خبرة بذلك، فيتسبب بخراب وضع المجتمع ويضر بمصالح الناس؛ ومن ثم يستغل موقعه بأخذ نسب من مشاريع الدولة بحجة أنه يأخذها من أرباح المقاوليين والتجار فلا ضير في ذلك؛ ويعطي المناصب والوظائف الى أهله وأقاربه في الوزارات بحجة أن الأئمة قد قلدوا ابنائهم في مواقع المسؤولية؛ أو حتى يسعى بإغواء النساء العاملات في دائرته بحجة المتعة المسموح بها شرعاً.
فمن خلال الفقة أصبح الاسلام مجرد قوانين تطبق بدون روح ومضمون، لأن القانون (كأي تشريع، إلهي كان أم علماني) فيه تفسيرات مختلفة، وينشأ الإعتقاد بأن هنالك مخرجات شرعية يمكن أن يتفادى فيها العقاب، ولكنه من حيث يعلم أو لا يعلم، فإن الدين متصل بالله، وأن الله لا يمكن التحايل عليه أو الإفلات من قضائه وحُكمه.
نحن بحاجة الى ترسيخ القيم الاخلاقية في ضمير الانسان قبل أن نُعرض عليه بأن الدين هو مجرد فقه وتشريع قانوني عليه إتباعه بحذافيره. فالقانون لا يمكن أن يؤسس لوازع في الضمير يمكن أن يردع الانسان عن التصرف المشين في حياته العامة والخاصه. ولهذا أصبح الإسلام في الساحة الإجتماعية مجرد طقوس ليس لها تأثير في عمق نفس المتدين فتوقد في داخله إنسانيته. (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
فالطقوس والشعائر لا تنشء ديناً في داخل النفس البشرية، ولا تجعل من المتدين إنساناً صالحاً. فقد كان مشركو قريش يتعبّدون ويصلّون ويعتكفون في الكهوف والجبال خلال شهر رمضان ويحجون ويقدمون الخدمات للحجاج أثناء مناسك الحج الابراهيمي. ولكن كل هذا التدين والخدمات التي يقدموها لا يمكن وصفها ديناً. ومثال على ذلك كان عتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو من كبار المشركين في مكة ومن المتدينين، يمارسون العبادات الابراهيمية التي ورثوها عن آبائهم ويعتكفون في كهوف جبال مكة لأشهر في السنة، ويعتمرون ويحجون، ولكن هذا لم يُغنِ عنهم من الله شيئاً. (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ). وكان مشركو قريش يقدمون الاضحية اثناء موسم الحج، ويتبرع أحدهم مائة جمل أو يزيد لإطعام وخدمة حجاج بيت الله الحرام، وما أعظمها من خدمة، ولكن مع هذا فقد وصفهم القرآن بالقوم الظالمين، (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
والشيء نفسه اليوم، فنشاهد تصدر بعض المسؤولين في الدولة في خدمة الزوار في المناسبات الدينية، ولكنهم لا يجدون حرجاً بعدم تقديم مثل هذه الخدمات طوال العام فيطعمون الجياع والمتسولين بالقرب من قصورهم، أو يقومون برعاية المهجرين أو الذين يقتاتون لقمة عيشهم من المزابل والفضلات في أطراف المدن، أو يساعدون الذين يعيشون في بيوت من الصفيح طوال سنوات حكمهم، أو يقومون برعاية الأرامل والايتام من عوائل المقاتلين الذين يدافعون عن الوطن في ساحات الجهاد. فبالنسبة لهم أن سقاية وخدمة الزوار وعمارة الأضرحة والمساجد وإقامة التعزيات والمآتم والحج المتكرر لبيت الله الحرام وإقامة الزيارات هي جوهر الإيمان ونبراس حفظ الطائفة وهي التي سوف تضمن لهم النجاة في اليوم الآخر. ولم يعتبروا بأن الله وصف الذين من قبلهم بالظالمين والكافرين وأن الله سوف لن يهديهم سواء السبيل.
وعلى هذا نزلت السورة المكية أدناه لتصف حال عصر الجاهلية:
بسم الله الرحمن الرحيم
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ .فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ.
فسورة “الماعون” تحدد بأن من يكذب بالدين هم الذين لا يقدمون الرعاية للأيتام ولا يرغبون بإطعام المساكين من حولهم. فالويل للمصلين، الذي يتظاهرون بالإيمان بصلاتهم العلنية أمام عدسات الأعلام، وتقديم الطعام للزائرين في المناسبات، وفي إقامة الولائم العلنية التي تتصف بالبذخ، ولكنهم يمنعون الماعون. وتفسير الماعون في السورة إنما هو كل ما يُعين الغير في رفع حاجة له من مستلزمات العيش الكريم، كالقرض تقرضه والمعروف تصنعه ومتاع البيت تعطيه، وغيره من المساعدات لحوائج الحياة الدنيا. فنزلت السورة لتوصف لنا حال أهل الجاهلية في زمن الرسول(ص) ولكنها في الواقع تصف حالنا الآن أيضاً. فالجاهلية هي ليست حقبة زمنية معينة كانت سائدة قبل الإسلام، ولكنها حالة ذهنية ناتجة عن ضياع القيم الأخلاقية لتنتج بيئة الفساد والظلم والإرهاب والتخلف.
فهذه الأعمال المتلبسة بالطقوس والشعائر هي أفعال من يكذبون بالدين – كما يصفهم القرآن الكريم. أما الذين يدعون الى الإصلاح وتغيير الوضع الفاسد والظالم فإنما هم على خطى الإمام الحسين(ع) الذي خرج لطلب الإصلاح في أمة جده، ولم يخرج أشِراً ولا بطراً. ومن قبله خرج جميع أنبياء الله عليهم السلام على طول التاريخ، فمنهم من خرج ضد الظلم كالنبي موسى(ع)، ومنهم من خرج ضد الفساد كالنبي عيسى(ع)، ومنهم من خرج للإصلاح ضد الظلم والفساد معاً كالنبي محمد(ص). وقد بعث الله النبي شعيباً(ع) الى مَديّن لمحاربة الفساد وسرقة أموال العباد:
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.
فالإيمان لا يمكن أن يواكبه سرقة أموال الناس ولا إستهتاراً بالمال العام، ولا أهداراً لحقوق الناس وبخسهم أشيائهم، ولا شياع الفساد في الإرض. فلا تنفع عبادة الله الواحد الأحد مع الفساد. فجاء عذاب الله على هؤلاء القوم الفاسدين: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ). وهذا ما نواجهه اليوم من تظاهر بعض الناس بالتدين وأداء الشعائر، ولكن ليس لهم من الدين في شيء. فهم ليسوا بمؤمنين.
الكثير منا يعتقد بأن الدين هو أداء الطقوس والعبادات بدون تأدية الواجبات الإجتماعية والمسؤوليات تجاه خلق الله تعالى والمحافظة السليمة على هذه الحياة التي أوجدها الله لنا. فسورة الماعون واضحة وناصعة تعطي الدرس المبين للإنسان بأن هنالك تلازم بين حقه في العبادات (العلاقة التي تربط الإنسان بربه) وبين واجباته الإجتماعية (العلاقة
التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان) وبين مسؤولياته تجاه خلق الله في هذه الحياة، إن كان حيواناً أو نباتاً أو جماداً (علاقة الإنسان بالطبيعة). فالحديث الشريف، أنتم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم. فلا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً وظالماً في آن واحد، ولا يمكنه أن يدعي التدين والقيام المستمر بشعائره بدون الإلتزام بالقيم التي يدعو لها الدين والتي تتصل بعلاقاته الإجتماعية. 

أحدث المقالات

أحدث المقالات