يعتمد فهمنا لشريعتي – أو أي مفكرٍ رساليٍ آخر – كونه مفكرًا بارعًا أو مثقفًا عاديًا على فهمنا للدين الذي نحمله في وعينا ؛ فالدين يفهمه البعض : أنه تلك الطقوس العبادية التي يؤديها الفرد ليضمن بأدائه لها دخوله الجنة ويجاور بها رب السماوات السبع والأرضين السبع .
وهناك فهمٌ آخر للدين : وهو الذي ينتقل بصاحبه من الأنا إلى أحضان المجتمع فيغدو في الصورة واحدا وفي المضمون أمة ، وهنا يخرج الدين من كونه مجرد
طقوس فردية إلى إظهاره بصورة ظاهرة اجتماعية حية متحركة ، فالدين هنا تجده في
وعي الأمة يحملها على النهوض بواقعها الأخلاقي و الاقتصادي والفكري وغيرها ،
فمن طُبع على فهم الدين بالمستوى الأول لن ينسجم مع ما طرحه شريعتي وسيجده غريبا عما ألفه وتوارثه عن سلفه ، بل لايجد في أفكار شريعتي ما يستحق الثناء فضلا على الإعجاب بها ، لأنه وحسب صيروة الدين في ذهنه وما هو مرتكز عنده لم يأت بشيءٍ جديد وهكذا هي حكاية تفاعل العقل مع كل ما يطرحه الفكر في ساحته .
أما من كان يرفض أن يقتصر الدين في أصل وجوده على كونه مجرد طقوس وشعائر يكتفي بها الفرد وينهي بها حياته ليقابل الله بوجه ودود ، وليس هذا وحسب بل راح يفتش هنا وهناك عن ضالته بأن يكون الدين هو الحياة ، فالنمط الثاني يبحث عن فلسفة وجود الدين في كل حركة يؤديها ؛ لماذا أصلي ؟ لماذا أصوم ؟ لماذا أساسًا أنا موجود في هذا الكون ؟ ما هي وظيفتي ومسؤوليتي التي ارتبطت بغاية وجودي ؟ يبحث عن جواب في صفحة دين يمنحه فرصة أمثل لحياة أكمل .
وهذا ما يدعو النمط الثاني إلى التفاعل مع أفكار شريعتي لأنه وجد ضالته فيها وبقي النمط الثاني لايحرك ساكنا إزائها .ولكي نقترب أكثر مما نريد أن نوصله ، أعطي مقولة واحدة لشريعتي لأبين مفهوم الدين لديه وهل هو من النمط الأول أم الثاني :يقول: (( إني أفضل المشي في الشارع وأنا أفكر في الله على الجلوس في المسجد وأنا أفكر في حذائي(( النمط الأول : قد يرى في مقولته أنها استهزاء بالعبادة في المسجد بكل ما تحمله الكلمة من معنى وقد يستحق الرجل عليها ما يكفيه لأن يدخل جهنم بسبببها .ولكن لننظر إلى النمط الثاني كيف استقبل هذه المقولة :
أين الله ؟ سبحانه موجود في كل مكان لاتحده حدود ولايؤين بأين ولا يكيف بكيف ، فهو موجود في المسجد وخارج المسجد .لماذا نعبده ؟ لنتقرب إليه وهذا يعتمد على مدى معرفتنا له .وهنا نقطة الافتراق : وهي أن جوهر العبادة و روحيتها في اعتمادها على معرفة الله ، ولذلك فإن أي عبادة خارج إطار المعرفة هي هواء في شبك ولن تأخذ بيد صاحبها إلى بر الأمان .وهكذا هي الصلاة في المسجد التي يُفترض بها أن تكون في القمة من هذه الناحية وهي كذلك بعد أن توفرت لها شروط النجاح من حيث خصوصية المكان والانعزال عن الدنيا .لكن هناك من يدخل المسجد ودنياه معه فالدكان لازال مفتوحا والزبائن تترى تباع منه وهلم جرا ، هنا تدخل شريعتي : لأن العبادة فقدت قيمتها لينبهنا أن ديننا بخطر لأن العبادة التي هي واجهة الدين في علاقة الإنسان بربه إنما تسمو بصاحبها حينما ترتقي به في عالم الفكر فكل عبادة لابد وأن تحمل صاحبها وتسوقه على التفكر في آلاء الله . فالعبادة هنا فارغة من معناها الحقيقي فيكون الدين بها أيضا فارغا بل مشوها ولايستطيع أن يتحمل هذا الدين فارغ المحتوى عبئ الرسالة ومضامينها الحيوية
هذه مقولة واحدة لشريعتي تنطلق من فهمه للدين على أنه الحياة التي تتجسد في المعترك لتعكس صورة الرب وعلاقته مع خلقه ، وهي أيضا تصور فهمنا للدين ، وهو لايعدو إما فهمًا انكفائيًا له وما يترتب عليه من حصره في زاوية ضيقة وعزلة عن المجتمع ، أو فهمًا حركيًا ذاك الذي يحرك الدين في النفوس و العقول فيغدو نَظِرًا طريا متجددًا ، يابى ألا أن يكون في خدمة الحياة الإنسانية مصداقا لقوله تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين ) .