10 أبريل، 2024 3:19 ص
Search
Close this search box.

الدين محبة ، لا إلغاء، وتكفير، وهدم

Facebook
Twitter
LinkedIn

حين قال  رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع “أيها الناس إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب ” فإنّه بذلك وسّع الدائرة كثيرا ،ونبّه إن البشر كلهم أخوة بغضّ النظر عن دين كل فرد ، ولونه، ومعتقده ، والجماعة التي ينتمي إليها ، فدائرة الانتماء الأوسع تعيد الانسان الى آدم أبي البشرية، وفي هذا يقول الإمام علي(كرم الله وجهه)  (كل إنسان إن لم يكن أخوك بالدين فهو نظيرك بالخلق)، وهو مبدأ أممي بمعايير زماننا.

ووضع الإسلام معيارا مهما للمفاضلة بين الناس الا وهي التقوى كما جاء صريحا بالذكر ،وأكدها الرسول الكريم (ص) ” أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى”.

والتقوى هي القيم، والمكارم دون ريب، التي تدور حولها كلّ محاولات الإنسان منذ النشأة الأولى في البحث عن فضيلة ضالة تكمن في سجاياه. وبموجب ذلك المبدأ ، فإن الله سبحانه، وتعالى جعل الناس شعوبا لا لتتقاتل، وتتصارع بل لتتحاور، وتتعاون ،يقول تعالى في كتابه المحكم” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا “، وتعارفوا تجد من يفسرها بأن اختلطوا بأمشاج النسل، ونوّعوا مصادر السلالات.

وبيئتنا العربية منفتحة على بقية الأديان السماوية لوسطية موقعها، ومنتجها ، وتهاجن أهلها، وأذكر إنّ أوّل صديق مسيحي عرفته ، جمعتني به مقاعد الدراسة  أيّام الإعداديّة ،وتحديدا عندما كنت في الصف التاسع ، والذي شدّني إلى الاقتراب منه إنّه كان يقرأ روايات أذكر منها رواية “الشيخ والبحر” لهيمنجواي. فتلمست انه لا خلاف ولا اختلاف بيننا، فكل منا قد ورث من أهله دينه، لكن تجاذب السجايا أمر مشترك، ومناط بقوى خفية، لم نكشف عنها بعد ! فكان “شيخ” هيمنجواي مفتاحا لصداقة عميقة ربطتنا  ، فصرنا نتبادل الكتب ، والمجلّات ، والأحلام ، وقد لاحظت إنّه في درس “الإسلامية” اعتاد أن يطلب الإذن من المعلم ، ليسمح له بالخروج ، فسألته عن ذلك فقال ” أنا معفو من درس الاسلامية ،لأنني مسيحي”، قلت له ،مازحا ، “إذن أنت من “قوم عيسى” ؟مستذكرا مقطعا من موّال أغنية لناظم الغزالي ،فردّدنا معا :

 “سمراء من قوم عيسى من أباح لها ؟

قتل امرئ مسلم قاسى بها ولها

أردت بيعتها .. أشكو القتيل لها

رأيتها تضرب الناقوس قلت لها:

 من علم الخود ضرباً بالنواقيس”

وضحكنا ،ثم سألته “وكيف تحسب درجتك في الاختبار الوزاري ؟ أجاب” مسموح لغير المسلمين ترك أسئلة الإسلامية والإجابة عن جميع أسئلة اللغة العربية ” ، ولم يكن ثمة إشكال في هذا، فكنّا نجيب عن سؤالين من “العربيّة”  وسؤالين من “الإسلاميّة ” بينما يجيب التلاميذ من غير المسلمين على أسئلة اللغة العربيّة الأربع ، وطوال مدّة معرفتي به التي امتدّت لثلاثة أعوام ، كنا نتزاور في أعيادنا ، وأعياد النصارى ، نتجوّل بين المكتبات ،ودور السينما  ، والمساجد ، والكنائس ، على حدّ سواء ، إذ تختلط تكبيرات الجوامع مع رنّات أجراس الكنائس في سمفونيّة عذبة ، موئلها عنان السماء .

هكذا كنّا في العراق ،مسلمين ، ومسيحيين ،ومن سائر الأديان الأخرى أخوة ، متعايشين ،حتى جاء المتطرّفون حاملين سمومهم ، ومعاولهم ليهدموا الكنائس ، ويهجّروا من تقاسمنا معهم خير الوطن، ومآسيه، والتصقنا بجذر مشترك في عمق أرضه، فالمسيحيّون سابقون للمسلمين على أرض وطني، وربما جاء أجدادي من أروماتهم، فما الضير في ذلك!، أسلم جدّي يوما، ولم يسلم جدّهم ، ومن المفارقات المخزية لدعاة “التأسلم” بأنهم تناسوا أن المسيحيين من الكتابيين، وقد نالوا تقدير المسلمين الأوائل واحترامهم ، ونقرأ في صدر الإسلام كيف ضيّق سادة قريش على المسلمين الروّاد في نشر الدعوة ،حتى أشار عليهم الرسول (ص) أن يهاجروا إلى الحبشة ، وكان من احتضنهم النجاشي مسيحيّا ، فأكرمهم ،ورحّب بهم .ونقرأ (عهدة) سيدنا عمر لأهل إيليا(القدس)، ونقرأ كيف تعامل الإمام “علي بن أبي طالب ” (رض)  مع نصارى قطربل التي سبقت بغداد، وهو عائد من النهروان، حينما نصرهم على واليهم المسلم.. الخ من الأحداث التي ترسم أجمل ملامح تراثنا الذي نعتد به أمام العالم اليوم.

لقد وردت في القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة التي تؤكّد هذا  المنحى الذي وسم الإسلام بأسمى سمات الأنسنة ،ونقرأه في قوله تعالى “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون*وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين”  المائدة 81-85

.لقد حفظ تراثنا أخبار النصارى التي تأسست على أكتافهم المدن الإسلامية، كالكوفة، ودمشق، وبغداد ،وكيف تحولت كنائسهم إلى مساجد بطيب خاطر، وتراض مفعم بالإيثار، والقيم، فكل المساجد الأموية في دمشق، وحلب، والموصل، وحرّان لم تنشأ إلا من كنائس سابقة .لقد عاشوا هؤلاء المتجذرون بالأرض، والثقافة المشتركة في كنف الدولة الإسلامية في عصورها الزاهرة، وكانت لهم مساهماتهم الواضحة، وأتذكر في السياق إنّ مسجد مدينة سامراء الجامع العباسي، المشهور بمنارته(الملوية) هي من أمهات إبداعات المعمار دليل بن يعقوب الكوفي النصراني، الذي أسكن الأئمة العلويين في بيته في حي العسكر فأصبحوا يلقبون(العسكريين)! .

إلى جانب صداقاتي بالمسيحيين جمعتني صداقات بأخوة من ديانات أخرى :صابئة مندائيين ، وازيديين ، ويهود عراقيين ، وكان الفضاء الإنساني يجمعنا في لقاءاتنا ،وحواراتنا ، وعملنا ، وهو فضاء أكّدت عليه تعاليم ديننا .

إن ضيق أفق الجماعات المتشددة المبرقعة  بأهداب الدين الحنيف ،جعلهم يكفّرون ليس فقط أصحاب الكتب السماوية الأخرى بل حتى المسلمين أنفسهم من مذاهب، وآراء لم تشذ عن روح الدين، وهذا تأكيد على إن الذين يعرفون الله ،و يخشونه ” عرفانيون ” يجلّون عباده كيفما كانوا، فهم صنيعه، ومنه ، وإليه يرجعون ، ومن ضمنهم أصحاب الديانات السماوية ، بينما الذين يتوجّهون الى غايات أخرى نائية عن الله تعالى ، وسماحته، ولطفه،  وجماله، ورحمته ، فإنهم يلغون الآخرين بصفاقة وفضاضة، لأنهم غير مدركين بأنّ الدين محبة، وجمال، وسلام، ووئام بين البشر.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب