يتم تسخين الدين وتحضيره عند كل ضرورة سياسية بالنسبة للطبقة البرجوازية الحاكمة، وحتى في البلدان التي كانت في يوم ما يقف الدين امام تطورها الاقتصادي، واضطرت بالتخلص من على كاهلها، فمثلا عند اجتياح اللاجئين حدود البلدان الأوربية، راح يصرخ الرئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون بأنه يجب الحفاظ على الهوية المسيحية لأوروبا، فهو من جهة حاول التنصل من مسؤولية بريطانيا-فرنسا-ألمانيا في دعم الجماعات الاسلامية وجرائمها في سورية والعراق في حربها الوكالة في الشرق الأوسط بعد ما سمي بالربيع العربي، ومن جهة اخرى تقوية النزعة العنصرية ضد اللاجئين وتحريف أنظار الطبقة العاملة وعموم المجتمع عن سياستها الاقتصادية، بأن البطالة والتضخم سببه اللاجئين وليس السياسات الاقتصادية للطبقة البرجوازية الحاكمة. وليس هذا فحسب بل إن دعم الجماعات الاسلامية الارهابية في منطقتنا وتقوية شوكة الدين وفتح منابر المساجد والجوامع في البلدان الأوروبية المشارة إليها لتجنيد الشباب وإرسالهم الى سورية والعراق عبر التنسيق المخابراتي مع دول المنطقة، كانت جزء من استراتيجية البرجوازية العالمية بالتصدي إلى هبوب نسيم الحرية والمساواة والرفاه التي قدمت من مصر وتونس في ٢٠١١، فقد قتل وهجر ودمر سلاح الدين الذي دعمتها البرجوازية العالمية جيلا كامل من البشر، وسقط المئات من الابرياء في كل بقاع العالم، لقد كان بحق سلاحا فتاكا لا ينافسه غير السلاح النووي التكتيكي الذي طفى على سطح الخطاب السياسي والدعائي للحرب الوكالة الجديدة في أوكرانيا.
وفي منطقتنا، يحتفظ الدين اليوم، بمكانة قانونية وسياسية بالنسبة في المجتمع، ويتم تسخينه وتحضيره، ويتمتع بامتيازات اقتصادية وسياسية، وتحول الى صناعة ومؤسسة سياسية وتديرها وزارة الأوقاف وصفّ من الملالي واصحاب العمائم وعدد ليس قليل من حراس الدين، وتخصص لها ميزانية رسمية من موازنة الدولة تقدر في بلد مثل العراق اكثر من مليار دولار ونصف مليار دولار.
وتستمد عشرات قوانين الاخضاع الطبقي من هذه المؤسسة شرعيتها ورسميتها، فمثلا يتم تقديم مسودة من الأحزاب الإسلامية الى البرلمان، وهي مسودة قانون العطل الرسمية التي يصل عدد ايامها الى ١٥٢ يوم واكثر من ٩٠٪ منها مناسبات دينية، او احياء المناسبات الدينية وبضخ الأموال على المواكب الحسينية بالملايين من الدولارات واحاطتها بالتضخيم الدعائي والإعلامي، ، وكل ذلك من اجل اعادة إنتاج السردية التاريخية المظلومية الشيعية، لطمس أسباب فقر وعوز وحرمان هذه الجماهير المشاركة بالمناسبات الدينية من الخدمات الصحية والتعليمية وفرص العمل وضمان البطالة، وبالتالي لإدامة السلطة الطبقية السافرة للطبقة البرجوازية الحاكمة التي تمثلها الأحزاب الإسلامية.
وإذا ما انتقلنا إلى مكان اخر، فمثلا المادة ٥٧ التي تحرم المرأة من حضانة طفلها وتنقلها الى الاب، فهذه المادة القانونية هي اخضاع طبقي للمرأة، وتعني سلب المرأة حقها في الاختيار، وحقها في الانفصال، وبالتالي ارغامها العيش بكنف رجل لا تطيقه، والذي يعني سلب ارادتها بالتغيير وتعميم السلطة والفكر الذكوري الذي تعبر عنها الطبقة الحاكمة على المجتمع. ان كل هذه المواد القانونية تستند على المؤسسة الدينية المذكورة المرتبطة بالدولة، ويضفي الدستور الشرعية عليها.
ويجدر بالذكر هناك إعادة إنتاج ظاهرة الاسلمة الشيعية في العراق، بعد غياب ليس قصير اثر ضربات انتفاضة أكتوبر للبنية الاجتماعية للسلطة المليشياتية للإسلام السياسي الشيعي الحاكم في العراق، فمؤخرا نشطت المرجعية الدينية الرسمية في العراق في النجف وكربلاء والموصل بفعاليات ومهرجانات لبس الأطفال البنات من بلغوا عمرهم تسع سنوات الحجاب والذي يسمى بلغة الأدب الشيعي “سن التكليف الشرعي”، وبموازاته ظهرت جماعات تابعة لمقتدى الصدر تنظم المناسبات مفادها ان الصدر هو المهدي المنتظر أو حل مكان علي بن ابي طالب، وجماعة أخرى ينظمون القرعة فيما بينهم ليختاروا اسما لقتله و يقدم قربان الى مقتدى الصدر مثلما يذبح الشاة في مناسبات العيد الأضحى، وبين هذا وذاك اتحفنا قيس الخزعلي زعيم ميلشيا عصائب اهل الحق، بالكشف عن حقيقة ظلت مخفية لعقود من الزمن، بأن من قتل علي بن ابي طالب هو الموساد الإسرائيلي.
في خضم نقاش مع عدد من الأصدقاء، قال احدهم ان المجتمع العراقي متخلف، وان أغلبيته تؤمن بالخرافات والغيبيات والدين، وقلت له اعطني مجتمعا تسوده الحرية بالمعنى المطلق، وفيه فرص عمل او ضمان بطالة بما يتناسب مع القدرة الشرائية للسوق، حينها قل لي هل سيبقى تصورك على المجتمع العراقي نفسه.
وفي التحليل الأخير، فان شخص مثل قيس الخزعلي الذي لا يتمتع باية موهبة من أي نوع، نجده يتحدث دون أي احترام لعقله قبل عقل مستمعيه، وفي العقد الثاني من الالفية الثانية الذي بات الذكاء الصناعي يزيح البشر من أعمالهم، ويهدد حتى بوجودهم، يقول الخزعلي بأن من قتل علي بن ابي طالب وهو الخليفة الرابع هو الموساد الإسرائيلي، فهو يحاول الربط بين السردية التاريخية لمظلومية الشيعة وهويته المزورة (المقاومة والممانعة)، من أجل تجديد انتاجه السياسي والبقاء عائما على المشهد السياسي العراقي.
ان إعادة إنتاج السردية التاريخية المظلومية الشيعية، وإعادة انتاج الطقوس “الشيعية الدينية” هي حاجة الحركات السياسية في خضم صراعها الطبقي مع الطبقة العاملة لإرغام الأخيرة للخضوع لها والحيلولة دون المطالبة بحقوقها وتحسين وضعها والذي يعني بالأخير استقطاع جزء من أرباح الطبقة البرجوازية التي تعبر عنها تلك الحركات السياسية. إن الطبقة الحاكمة تستمد سلطتها وشرعيتها المزيفة والخادعة من محي الصفة الطبقية والإنسانية عن المجتمع، ومن صالحها تقسيم العمال على أساس شيعي وسني ومسلم وغير مسلم وعربي وكردي وتركماني واشوري، كي تستطيع زجهم في حروبها الدينية والطائفية والقومية، والتعمية على عدائها السافر للطبقة العاملة بغض النظر عن اللغة التي تتحدث بها او تنتمي لها، لقد شرعت هذه الطبقة النتنة بتقديم التسهيلات تحت عنوان قانوني سمي (جولة التراخيص في القطاع النفطي) من اجل مص عرق عمال العراق من قبل الشركات الامريكية والفرنسية والإيطالية والصينية والروسية والبريطانية والكورية، في حين تدعي بأنها جاءت لتخليص ( الشيعة) من مظلوميتها التاريخية.
ان البرجوازية تصور للمجتمع بأن الصراع الجاري في المجتمع بين افكارك وافكاري وافكار الغالبية التي تتحدث عنهم بأنه صراع فوقي، وصراع بين الخير والشر، وليس له اية علاقة بين الحاجات البشر الاقتصادية التي تعبر عنها الصراع الطبقي، وبالمناسبة ان مثقفينا الليبراليين ينطلقون من التصورات الانفة الذكر حول الظاهرة الدينية في العراق على سبيل المثال، والذي تنتج عنها أجواء من الإحباط واليأس والاستسلامية وإشاعة الفردية واللاجدوى في صفوف المجتمع، وتفضي بالأخير سلب الارادة الثورية وثلم نصال النضال الثوري للطبقة العاملة والقوى الثورية والتحررية في المجتمع من أجل التغيير، وتكون النتيجة النهائية لهذا التصور هو الغلبة لاستمرار البرجوازية في السلطة.
ان التحليل الأخلاقي لانتشار اية ظاهرة دينية أو الخرافات او الغيبيات ليس هو نتاج أفكار البشر بل هو نتيجة منطقية للأوضاع الاقتصادية، فالحصار الاقتصادي الذي دمر البنية التحتية للمجتمع وثلاثة حروب واحتلال والإفقار الممنهج والعوز والفاقة بشكل مدروس ومخطط من قبل الطبقة البرجوازية الحاكمة المتمثلة بالأحزاب الإسلامية، هي وراء المشاركة الواسعة للجماهير في المناسبات الدينية، وليس بسبب انتماءاتهم الدينية أو معتقداتهم كما يحلو للمثقفين البرجوازية تصويرها (ولهذا ليس الموضوع مسالة تثقيف، بل مسالة القدرة الاجتماعية لهذه الظواهر، وموضوعة نجاعتها وسعيها للتطابق مع صراع الطبقات وميزتها للمجتمع الراهن. ولهذا، فان اشياء مثل القومية، الدين، الليبرالية، التمييز على أساس الجنس، العنصرية، الشوفينية والذكورية وغيرها، بالنسبة لنا، ليست ظواهر جاءت من ذات الانسان أو حصيلة تاريخ الانسان. نعم! انها حصيلة تاريخ الانسان، كل شيء حتى الملابس التي نرتديها عليها صبغة الملابس التي ارتديناها في التاريخ. بيد أنها اليوم سلعة تنتج وتباع، ولأننا نشتريها، فإنهم ينتجونها اليوم ويبيعوها. ان هذا يوفر لنا الفرصة لنرى الطبقة الحاكمة التي خلفها. ان الدين وأمثاله ظواهر راهنة. انه يسمح لنا برؤية الطبقة الحاكمة التي خلفها، لا الطبقات الهامشية، ولا التواريخ المزيفة التي يدونها لنا) منصور حكمت-الندوة الثانية-مجلة (المد-العدد ١١). ويؤكد ماركس في الأيديولوجية الالمانية (وانه لا يمكن بصورة اعم للبشر أن يتحرروا ما داموا لا يتمكنون من الحصول بصورة كلية على المأكل والمشرب والمسكن والملبس بنوعية وكمية متناسبتين) أن ((التحرر)) هو فعل تاريخي وليس فعلا ذهنيا، وهو يتحقق بفضل شروط تاريخية).