الدين حين يتحول إلى أيديولوجيا قمع

الدين حين يتحول إلى أيديولوجيا قمع

من أخطر تحولات الدين في المجال السياسي أنه يفقد بعده الروحي والأخلاقي ليُختزل في خطاب قمعي. فالدين السياسي لا يكتفي بأن يكون حارسًا للسلطة، بل يتجاوز ذلك ليصبح أداة أيديولوجية لإسكات الشعوب. أي أنه لا يُستخدم لحماية الإيمان، بل لحماية النظام القائم.

أ‌. القمع بالنصوص: بين التقديس والتوظيف

السلطة لا تحتاج دائمًا إلى السيف، بل يكفيها أن تجعل السيف “مقدسًا”. وهنا تكمن خطورة التديين: تُستدعى النصوص الدينية لتبرير الطاعة وتحريم المعارضة، فيُصبح الخروج على الحاكم خروجًا على الله، ويُختزل الاحتجاج في كلمة “فتنة”، ويُجرَّم الإصلاح بوصفه “مؤامرة”.

النص القرآني والحديثي ــ بما يملك من سلطة معنوية ــ يتحول إلى أداة ضبط اجتماعي، بحيث لا يكون الحاكم بحاجة إلى تبرير دنيوي، بل يستعير غطاءً مقدسًا يعفيه من أي مساءلة. وهذا هو ما يسميه ماكس فيبر “الشرعية التقليدية-الكاريزمية”، حيث تُستمد السلطة لا من الكفاءة أو العقد الاجتماعي، بل من نسبتها إلى المقدس.

ب‌. القمع الرمزي: من بورديو إلى الواقع الإسلامي

وفقًا لمفهوم العنف الرمزي عند بيير بورديو، فإن السلطة الأخطر ليست تلك التي تُمارَس بالعنف المادي، بل بالعنف الرمزي: أي حين يقتنع الناس بأن خضوعهم هو “طاعة لله”، وأن معارضتهم للحاكم “إثم”. هنا يتحول القمع من فعل خارجي إلى قناعة داخلية، ويُعاد إنتاج الاستبداد من داخل وعي المجتمع نفسه. وهذا ما حدث في تجارب عديدة:

في العصر الأموي، جرى ترويج خطاب “طاعة أولي الأمر” حتى في ظل ظلمهم، مما حوّل الدين إلى آلية لضبط المجتمع.

في العصر العباسي، استُخدمت “محنة خلق القرآن” لتصفية المعارضين الفكريين باسم الدين، رغم أن القضية كانت سياسية بامتياز.

في أوروبا القرون الوسطى، وظّفت الكنيسة مفهوم “الحق الإلهي للملوك” لتجعل الطاعة للملك جزءًا من العقيدة الدينية.

ج. الأمثلة الحديثة: من الشرق الأوسط إلى العالم الإسلامي

إيران: أي احتجاج يُوصف بأنه “خروج على ولاية الفقيه”، فيُعتبر تمردًا ليس فقط سياسيًا بل عقائديًا، فتُسحق المظاهرات باسم حماية الدين.

السعودية سابقًا: رُوّجت فتاوى “تحريم الخروج على ولي الأمر” كذراع أيديولوجي لإخماد أي حراك، حتى المطالب الإصلاحية السلمية.

العراق: خلال انتفاضة تشرين، صُوّر المحتجون على أنهم “مؤامرة غربية” أو “منحرفون دينيًا”، ليُشرعن قمعهم عبر خطاب ديني-سياسي مزدوج.

د. المفارقة: الدين من تحرير إلى تقييد

الدين في جوهره رسالة تحرير: “فكّ رقبة”، “كلمة حق عند سلطان جائر”، “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”. لكنه في ظل التحالف مع السياسة ينقلب إلى أيديولوجيا قمع، حيث تُقتل الحرية باسم الطاعة، وتُصادر الكرامة باسم الحفاظ على الوحدة، ويُعاد إنتاج الاستبداد بغطاء مقدس.

أحدث المقالات

أحدث المقالات