23 ديسمبر، 2024 6:27 ص

الدين بوصفه فعل أو ردة فعل

الدين بوصفه فعل أو ردة فعل

تعتمد نهضة الأمم على وفرة المعارف والعارفين، وهذه تعتمد على إدراك أهمية مواكبة متطلبات العصر. في عصرنا الراهن، أصبح إمتلاك المعلومة وإدارتها ضمن حسابات الزمن، معيارين أساسيين لتحقيق الصدارة بين الأمم. ولا بد لأية أمة من الأمم أن تستثمر أفضل ما لديها من موارد على نحو جيد لتتمكن في مرحلةٍ ما، ليس فقط من أن تكون حائزةً على المعلومة، أو أن تكون قادرةً على إخضاعها لإعتبارات الفائدة المتأتية منها في نطاقها الزمني المرسوم، بل أن تصبح تلك الأمة منتجةً للمعلومة وأن تكون هي من تضع لما أنتجته من معلومات بعداً زمنياً.

ولكي لا أسترسل أكثر في توصيف الفكرة على نحو مجرد، لنقل أن بلداً ثرياً يشتري المصانع التي ينتج فيها ما يسد إحتياجات أسواقه المحلية، فإن تلك المصانع لن تتمكن بأفضل الأحوال من كسر حدود طاقتها الإنتاجية التي وضعها بلد المنشأ كماً أو نوعاً. قد يبدو الأمر غريباً ولكننا لو أخضعنا ذلك المثال الى معياري إمتلاك المعلومة والزمن، فإن من إشترى تلك المصانع، لم يحصل سوى على معلومة واحدة وزمناً قصيراً من بلد المنشأ الذي هو بالتأكيد بمتلك مهارات إنتاجية متعددة وبطبيعة الحال المزيد من الزمن ليبيع بعضها لمن لديه المال، ليصبح الأخير سوقاً إستهلاكياً ليس إلا.

وبطبيعة الحال، فإن غايات البلدين تلتقي في صفقة تجارية من هذا النوع وتفترق في الأبعاد والنتائج، إذ أن من يمتلك المعلومة وله الفرصة على وضعها في سياق زمني، فهو يسعى لأن يكون في مصاف الأمم القائدة للحضارة الإنسانية المعاصرة. أما من يعكف على شراء معلومة واحدة صاغها أهل العلم والمعرفة في بلد ما على شكل مكائن لها زمن إنتهاء، فهو يهدف بالكاد الى الحيلولة دون إتساع الفجوة الحضارية بينه وبلد المنشأ. إن تلك الحالة هي بمثابة مرادفةٍ وصفية لموضوعة التبعية الحضارية التي لم تعد في عصرنا الراهن مجرد فكرةٍ أو كلمةٍ تقال، وإنما هي واقع ملموس أتاح إمكانية أن تعيش الأمم مجتمعةً في عصر واحد ولكن بأنماط زمنية مختلفة تتراوح التقدم والتأخر في لوحةٍ حضارية رسم تفاصيلها من هم أكثر علماً لمن هم أقل حظاً في إمتلاك ناصيته.

ولنضرب الآن مثالاً مكانياً، خاض التجربة الحضارية ببعديها في الصدارة تارةً وتابعاً تارةً أخرى. إنها بغداد، وأكتب عنها هي بالذات وأكتب عنها على نحو رمزي لأية مدينةٍ أخرى ينطبق عليها ذلك الوصف. كان شأن بغداد في زمن ما شأن أية عاصمةٍ من عواصم دول الصدارة المعرفية في عصرنا الراهن. إنه ليس أثر المكان ولكنه أثر الأقدار التي أحاطت به، فقد شاءت الأقدار أن كانت بغداد عاصمةً صناعتها العلم والمعرفة وإمتلاك المعلومة نقلاً وترجمةً وتهذيباً وتطويراً وإنتاجاً. وهذا هو ما جعلها في الصدارة أيام زهوها الذي طواه النسيان.

ولزهو بغداد كان سبب أشد عمقاً من فكرة إمتلاكها ناصية المعرفة. إنه الإسلام الذي سبق ظهوره إنشاء المدينة، إذ شاءت الأقدار أن تُبنى بغداد وقد إشرأبت عقول المسلمين وقت بنائها بالغايات السامية التي من أجلها جاء الإسلام وهي بمجملها تدور حول جعل حياة الناس أفضل وأكثر ملائمةً لآدميتهم. إن إدراك مسلمي تلك الأزمنة لهذه الغاية، أكسبهم إلهاماً يقينياً حول ضرورة إمتلاك ناصية العلم، إذ أدركوا أن من إمتلكها أمسك ببعض مقاليد زمانه، فالعلم والزمن هما أداتي الصدارة في كل عصر وأوان. خلاصة ما أريد الذهاب إليه هو أن الإسلام كان الفعل الذي جعل عقول معتنقيه تعمل على نحو منظم وبنّاء حينما كانت نوايا العباد خالصةً لله تعالى لا تشوبها شائبة. وبمراجعةٍ يستطيع كل منا أن يجريها مع نفسه لبعض ما درسناه في المدرسة، لوجدنا أن جميع ما جاء به الإسلام كان يدعونا لتوجيه أنظارنا صوب المستقبل. وأكثر من ذلك، أن قصص الأمم الغابرة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم كان الهدف من ذكرها هو إكسابنا مزيداً من القدرة على السير نحو شيْ جديد كي لانعيد إختراع العجلة (مجازاً)، بل لنقدم نحن الى الحياة الإنسانية حاضراً أكثر نفعاً من ماضينا.

وبما أن مخيلة القلم تتيح لحامله السفر عبر الأزمنة ذهاباً وإياباً، فإنني سأقفز أكثر من ألف سنةٍ وصولاً الى عصرنا الراهن. وكأن أحدهم أُخرج من الجنة وزُجّ به في النار والمكان في كلتا الحالتين بغداد. أو كما يحلو لمخرجي بعض أفلام الرعب حينما يصورون أحدهم واقفاً وسط مكانٍ يحيطه الجمال والهدوء من كل صوب وفجأةً ينقلب كل شيء على نحو يوحي بجو عدائي كئيب يحاكي الخوف الجاثم في صدور الناس في عصرنا الحديث من أن تنقلب النعمة نقمةً دون سابق إنذار. شخصياً، أنا أحب القفز بين الأزمنة متعمداً لفت إنتباه القارئ الكريم الى هول الفاجعة، إذ أجد التدرج في السوء يجعلنا نعتاد وجود الخطأ والخطر من حولنا وهذا ما أود تسميته هنا (بلادةً تاريخيةً مزمنة) وهي ما نعانيه اليوم.

بغداد اليوم وكما كانت قبل أكثر من ألف سنةٍ مضت، حاضرةً من حواضر الدنيا، ولكنها هذه المرة في التأخر والسوء والإنهيار الذي لم يسلم منه بشر أو حجر. أهو تأثير المكان؟ وهل كان للمكان تأثير حينما كانت بغداد حاضرة الدنيا في العلم أيام زهوها؟ لا، لست أظن ذلك. إنه الإنسان وتحديداً عقل الإنسان وأسلوب فهمه المشوه لأكثر عنصر كان إمتلاكه نافعاً قبل ألفيةٍ ونصف ألفية من التاريخ. إنه تفسيرنا وفهمنا المعاصر لمعتقدنا الروحي. لقد أصبح الإسلام الذي كان يوماً فعلنا الى مجرد رد فعل، ورد الفعل كما تعلمون أيها السادة، أقل شأناً من الفعل، إذ تشوبه العاطفة بدل العقل. وبالنتيجة فإن الإنسان الذي لمس في الإسلام فعلاً كان فاعلاً، أما سليله المعاصر الذي فهم الإسلام على أنه ردة فعل، فقد أصبح مفعول به إن صح لي قول ذلك.

تكمن مشكلة الإنسان المسلم المعاصر في إضاعته البوصله التي أتاحها له الإسلام ليسترشد طريقه نحو المستقبل، فأصبح المسلم اليوم يوهم نفسه بإتجاهات هي على عكس ما ترمي إليها الغايات السامية للدين الحنيف، فتقدم الماضي على الحاضر في تسلسل أولويات المسلمين فأضاعوا المستقبل، فأخذوا يبحثون في الماضي عن إجابات علّها تسعف ظمأ تأخرهم الحضاري. حقيقة الأمر هي أن المسلم المعاصر بعد أن أضاع بوصلة دينه، تدرج من بانٍ للحضارات الى نابش للقبور، ثم إستقر به الحال الى حفّار لقبور تكفي لدفن حاضره ومستقبل أجيالٍ لم تولد بعد.

خلاصة ذلك هو أن بغداد لم تعد مكاناً لإمتلاك المعرفة والمعلومة وتوظيفها في سياق زمني يضمن الصدارة كما هو الحال في برلين اليوم مثلاً، التي أدرك إنسانها الغاية السامية المتمثلة بجعل أرضه مكاناً أفضل والفرق هو أن الإنسان هناك عثر بفضل تجربته الإنسانية المحضة على البوصلة التي أضاعها المسلمون بإنشغالهم عن غاية ما جاء الإسلام لأجله. مؤلمة، أليست كذلك؟ إن خسارة العالم الإسلامي في سياق البناء الحضاري أكبر بكثير مما يعنيه صراع الحضارات أو خسارة معركة هنا أو حرب هناك. المسألة لا تقاس بمن يمتلك الصاروخ الأقوى، بل تقاس بمن تمسك ببوصلته التي أوصلته يوماً الى موقع القيادة في العالم، ديناً كانت أم تجربةً إنسانيةً صرفة. لقد أضعنا بوصلة ديننا الذي أوصل بغداد قل أكثر من ألف سنة الى ما وصلت إليه برلين اليوم.

الدين إن فهمناه في سياقه الصحيح وفي حدود غاياته السامية، فإنه بلا مبالغة سيفعل فعل آلة السفر عبر الزمن مقارنةً بتجربةٍ أنسانية مجردة ربما يحالفها الحظ في أن تصل الى نتيجة إيجابية في سياق قدري ما أو قد لا تصل، إذ لا توجد ضمانات. إنه وسيلة أساسية ونعمة ربانية لا تقدر بثمن. يبقى أن ما وصل إليه الغرب من حضارةٍ معاصرة كان للقدر يد فيه إذ نهلت الحضارة الغربية المعاصرة الكثير من ميراث الحضارة التي كان الإسلام سبباً في نهضتها قبل أن يفقد ورثة المسلمين الأوائل البوصلة في زحام التاريخ. أن ورثة الحضارة هم أهل العلم الذين هم بناتها أيضاً أياً كانت أعراقهم أو سبيلهم لبلوغ تلك الغاية وهذا هو الجانب الأشد تأثيراً في دورة حياة الأمم وفي توارثها النهوض.

صحيح أنها مسألة أقدار ولكن ليد الإنسان نصيب وفير في رسم ملامحها ولأجل ذلك لا بد لنا أن نكف عن إتخاذ ديننا وسيلةً لحفر القبور، وأن نعمل على أن تستعيد عقولنا وضمائرنا البوصلة التي نستطيع بها إعلاء بنيان المستقبل وتلك هي رسالتنا الأكثر أهميةً والأسمى غايةً التي من أجلها خُلقنا، حينها سيعود الدين فعلاً وليس مجرد رد فعل، وحينها لن نشتر المصانع من أحد، بل نحن من سينتجها، وحينها سنمتلك أغلى الثروات وأهمها، المعلومة والزمن، وحينها ستشير الإحصائيات العالمية أن المدينة التي هي في صدارة النهوض الحضاري إسمها بغداد.