كان الفصل بين الدين والدولة أو الدمج بينهما ، هو الموضوع الأ كثر اشتغالاً بين المفكرين والباحثين على امتداد قرون ، بداءاً من عصر الثورة الصناعية في أوروبا وإقامة دولة الرفاه والعقد الإجتماعي طبقا للنظريات التي تبنتها ( العلمانية ) الصاعدة .
لكن العلمانية وعلى رغم نجاحها في إقامة دولة مدنية لا يلعب الدين دوراً مباشراً في وظيفتها السياسية ، الا انها لم تستطع زحزحة الدين بمحمولاته الإجتماعية ، وان حجّمته بقوانين منعت ان يكون حاسماً في مسار الدولة ، التي أوجدت (دينها) الجديد المتمثل بالدستور .
لقد تشابه الدستور بجوهره مع الدين بنصّه ، فاذا كان النصّ المقدس – وهو أهم مرتكزات الدين – يلزم الإنسان بالطاعة لله والعمل بمقتضى ذلك النصّ في السلوك الإجتماعي ، ما يجعل الخروج منه بمثابة معصية تستوجب إيقاع الحرم في المسيحية أو الكفر الذي يتطلب العقوبة في الإسلام ، فإن نصوص الدستور هي أيضاً (مقدسة ) للحاكم وملزمة للمواطن الفرد ، إذ ينبغي على من يُنتخب حاكماً ، أن يقسم على احترام الدستور والعمل بموجبه ، وأي خروج عن ذلك، يعدّ بمثابة معصية تستوجب العزل أو المحاكمة ، كذلك يلزم المواطن التقيد بالقوانين المرعية الإجراء والمنبثقة بدورها عن نصوص ذلك الدستور.
أما في الأنظمة الثيوقراطية، فقد بقي الدين هو الدستور الفعلي الذي ينظم شؤون الحكم ويمنح الحاكم شرعيته ، لكن الإشكالات في النظم العلمانية كما في الأنظمة الدينية، بقيت واحدة في الجوهر .
لقد تواصل بنسبة واضحة ، تأثيرالمعتقدات الدينية على المجتمع وتحديد خيارات أفراده السياسية في الأنظمة الديمقراطية ، كما انبثقت أحزاب إتخذت أسماء دينية ( الحزب الديمقراطية المسيحي في ايطاليا – حزب المحافظين في بريطانيا – الخ ) كذلك ظهر تيار سياسي كبير في الولايات المتحدة سمي باليمين المسيحي ، أوصل رئيساً لقيادة أمريكا ( رونالد ريغان ) .
وعلى هذا ، واجهت العلمانية وأنظمتها ، مأزقاً في نظرية فصل الدين عن الدولة ، ففي حين فعلت ذلك في مواد الدستور ، بقي للدين تأثيره في السلوك السياسي لجموع الناخبين الذين يحددون شكل النظام وهيكلية الحكم طبقاً لذلك .
اما في الأنظمة التي تنادي بالدين أو تعتمد عليه ، فقد واجهت إشكالاتها منذ البداية ، حيث صعوبة الجمع بين متطلبات النصّ المقدس الثابتة ، وضرورات السياسة المتغيرة ، ما أسهم في إرتباك التطبيق في السياسة واستغلال الدين في إقامة الدكتاتورية ، وهكذا لم يربح الدين ممارسة سياسية متطورة ، ولم تطور السياسة نظرية فكرية تبعاً للمتغيرات .
لقد دخلت نظريات الفصل بين الدين والدولة كما في العلمانية ، أو اعتماد الدين في الدولة كما في الأنظمة الثيوقراطية ( حكم الدين ) حقل الفراغ ، ولم تستطع إيجاد مايمكن تفسيره في تأثيرات الدين المجتمعية / السياسية في الأنظمة الديمقراطية ، كذلك عجز منظرو الدين في الدولة ، عن إيجاد حلول منطقية للأزمة التي تعيشها الأنظمة الدينية.
قد يكمن ذلك في ان النظرة إلى ثنائية الدين والدولة،باعتبارهما كينونتين مستقلتين ، يجري جمعهما أو فصلهما طبقاً لنظام الحكم المتبع ، لكن ماذا لو كانا في الأصل حقلاً واحداً بكينونة واحدة في وجهه الإجتماعي السياسي ؟ وبالتالي يمكن النظر إلى كلّ منهما بمقاربة مختلفة عما هو سائد .
في تفكيك أولي لمفردة الدين ، سنجد انها قد تكون مستمدّة من الإدانة ،حيث الخطيئة الأولى التي إرتكبها آدم وسرت مفاعيلها على ذرّيته ، التي تكاثرت الى درجة احتياجها إلى ظهور وسيلة للتوبة والسعي إلى المغفرة ،والتوبة في الجوهر لاتتم إلا عند الإقرار بالذنب أولاً ، لذا تحوّل الدين إلى إقرار واستغفار معاً – قبول الإدانة وطلب المغفرة – .
كذلك قد يكون الدين من الدَين بمعنى القرض ، فالله يقرض الإنسان الحياة لأجل محدود هي العمر المكتوب له قبل الموت ، وفي مقابل هذا القرض الإلهي ، يطلب من الإنسان الطاعة والصلوات وحسن التعامل مع الآخرين وأداء العمل الصالح وماشابه ، ثم يستردّ الله قرضه ليتحول الى هبة دائمة في الجنة إذا أحسن الإنسان التصرف في القرض الدنيوي ، ويتحول إلى عقاب – مؤقت أو دائم – في النار إذا أساء ، والله يطالب الإنسان قرضاً ” واقرضوا الله قرضاً حسناً ” أي اعملوا صالحاً لتستردوه ثواباً في يوم الدين – الآخرة –.
ذلك هوالجوهر في موضوع الدين .
أما الدولة ، فهي كذلك تقرض الكائن الإجتماعي – المواطن – حماية ومواطنة وحقوقاً ووسائل عيش وسواها ، مقابل مايؤديه من واجبات ، خدمة وعملاً والتزاماً بالقانون – الخ ، وهو ان أحسن التصرف بهذا القرض ، يتمتع بكل موجباته ، فيما يعاقب بعكسها .
أما السياسة ، فهي الوسائل والأساليب التي يمكن من خلالها تنظيم أداء الدولة في قروضها ، وأداء المواطن في السداد ، بحيث لايطغى أحدهما على الآخر، ما يسمح باستقامة المعادلة بين الجانبين – صاحب القرض والمستقرض – .
المقاربات للدين ، يمكن أن تتم من خلال اعتباره منجزاً إجتماعياً قابلاً للتغيير في جانبه الإجتماعي السياسي حسب الحاجة ، والمقدّس منه هو مايدخل نصّاً أو إستلهاماً في الدستور الوضعي ، أما النصّ الديني بعموميته ، فيبقى شأناً خاصّاً بالفرد .
لاتعامل مع النصّ الديني إذا احتفظ بقدسيته المجتمعية ، إذ انه والحالة هذه سيبقى عرضة للإستخدام من قبل المؤسسة الدينية بكل أشكالها وإشكالياتها – أكليروس كنسي أو كنيس يهودي أو مرجعيات إسلامية – وهذه بدورها تضع اجتهاداتها في المقام الأول على حساب النصّ ذاته ، ما يجعل منها سلطة فعلية تتحكم بمسارات المجتمع ،خارج ما أقره الدستور الذي ارتضاه المجتمع وصوّت عليه.
الدستور الوضعي يمكن تعديله ويحاسب فيه الحاكم وفق بنود واضحة ، أما النصّ الديني فيمكن شرحه لا تغييره ، ولما كانت الشروحات تختلف بين رجل دين وآخر حتى في المؤسسة الواحدة ، لذا تحدث تلك الفوضى التي تقود إلى اضطراب سلوكي مجتمعي حيث تنقسم الناس إلى طوائف ومذاهب، يرى كلّ منها ان الحقّ الإلهي إلى جانبه طبقاً لتفسيرات علمائه، التي تصبح بدورها بمثابة دين قائم بذاته، وهكذا ففي الوقت الذي يكون فيه دستور واحد يحتكم إليه جميع مواطني بلد ما وان تعددت أديانه وطوائفه ، يوجد في المقابل دساتير دينية متعددة بلاضوابط بينها سوى ما قد تجود به تفسيرات المجتهدين في هذه الملّة أو تلك ، وبالتالي لايمكن الإحتكام إليه سوى من قبل أبناء الطائفة المعنية ذاتها ، ليكون بذلك عامل تفرقة وتناحر، لا توحيد ومساواة كما هو الأمر في الدستور الوضعي .
فلسفة الدين والحالة هذه ، ستكون حقلاً مستقلاً يبقى إشتغاله مادون تقديم إجابات قاطعة للإنسان بخصوص مصيره الآخروي ، ومن ثم يتحول الإيمان الى قضية شخصية قد لاتكون بحاجة الى وجود مؤسسة لتنظيمها وضبطها بالضرورة ، كما هو الحال في موضوع السياسة والدولة ، حيث الإنتظام في دستور منبثق من اشتغالات فلسفية ، تختلف معياراً ومنهجاً واستنتاجاً ، عما تشتغل عليه فلسفة الدين باعتباره قضية شخصية لا مجتمعية كما أسلفنا .
لكن ماذا لو تحوّل الفصل هنا ، ليس بين الدين والدولة ، بل بين الفرد والمجتمع ؟ وهي نظريات لم تثبت نجاعتها كذلك ، باعتبار ان الفرد كائناً إجتماعياً ، فقد أشكلت الماركسية حين حاولت إذابة الكينونة الفردية لمصلحة الجماعة ، في مقابل أزمة العلمانية التي جعلت الفرد في الإعتبار الأول .
تلك حالة يمكن تلمّس حلولها في مظاهر الذوق والهوايات التي تتمايز بين إنسان وآخر ، فلاخلاف ان الذوق والهواية حالة شخصية ، إذ بإمكان الفرد أن يحبّ لوناً دون غيره أو يستمع إلى موسيقى معينة ، كذلك قد يمارس هواية من نوع ما ، وكلها نشاطات فردية وان دخلت في إطار اجتماعي ، لكنها لاتؤثر في علاقة الفرد بالمجتمع ، مادامت تمارس ضمن ضوابط القانون والحرية الفردية .
ولما كانت الهواية والذوق قابلان للتطور وفقاً لتطور الفرد في ثقافته وتجربته الحياتية ، كما انهما يشكّلان جزءاً رئيساً من شخصيته عبر مراحلها العمرية والمعرفية ، لكنهما في كلّ حال ، لايعتبران بالنسبة له ، شيئين مقدسين لاينبغي تجاوزهما أو اعتناق هوايات أخرى بديلة ، كذلك يمكن النظر الى المعتقدات الدينية من منظورها الفردي ، إذ تصبح والحالة هذه بمثابة ( ذوق ) فردي قابل للتطور أو التبدل حسبما يراه الفرد عبر مراحل حياته ، من دون أن يُلزم في منظومة دينية موروثة تحتّم عليه البقاء ضمن جماعة محددة ،ذلك لأن المعتقدات الدينية حين تتغير وظيفتها الإجتماعية من الإلزام إلى الاختيار ،تتغير تبعاً لذلك وظيفتها الفردية ، لذا يصبح اعتناقها في جماعة ، كما في اجتماع أصحاب الهوايات المشتركة ، إنجذاباً حرّاً أوافتراقاً دون إكراه .
ذلك ما نرى تجسيداته في حقّ الطلاق في الإسلام ، انه أبغض الحلال عند الله ، لكنه يعتمد على قاعدة جوهرية في السلوك المجتمعي والفردي على حدّ سواء( إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) فإذا كان التصرف بالخليّة الإجتماعية الأهم في حياة الأفراد ، يتمّ على هذه الشاكلة ، فلماذا لاينتقل ذلك إلى اختيارات الفرد في حريته المعتقدية ؟ .
يولد الإنسان في خلية إجتماعية تعتنق ديناً أو معتقداً معيناً تورثه لوليدها ليبقى يدور في فلكه طوال حياته – روحياً وسلوكيا وتشكلاً نفسياً ، وان تخلّى عن ذلك طقوساً وشعائر- في الوقت عينه ، ينشأ لديه ذوق معين في النظر إلى الأشياء ، يؤثّر كذلك في سلوكه وتشكّله الروحي والنفسي ، ذلك لأن الذوق يعتبر جزءاً رئيساً من مقومات الشخصية كما هو المعتقد الديني، الا إن الفارق بين الإثنين يكمن في قدسية الديني وثباته النصّي والمجتمعي ، في مقابل حركية الذوق وتطوّره الشخصي ، فالذوق ملك فردي مرتبط بالذات ، فيما الدين كينونة مستقلة مرتبطة بالجماعة ، وفيما يتعامل الإنسان بحرية مع الذوق ، فإنه يتعامل بالطاعة مع المعتقد ، حيث لايملك من خيار إلا أن يرفضه مع تحمّله تبعات ذلك الرفض، أو يقبله بموجب تعاليمه المقدسة كدين ، وهنا يظهر التعارض بين لا حرية الإنتماء الفردي للدين ، وبين جوهره كمعتقد فردي .
ان الإنسان لايجد حراجة في تبّدل ذوقه ورؤيته الجمالية ، ولايشعر بقلق نفسي تبعاً لذلك التطور أو التبدل في الذوق ، كما لايواجه إشكالية في علاقاته الإجتماعية، ولا اصطداماً بالمؤسسة الدينية كما يحدث في حال قيامه بتبديل معتقده الديني مثلاً.
لكن ، أليس الدين في النتيجة خلاص فردي ؟ بمعنى ان عبادة الله وطاعته ، لها هدف دنيوي يتمثل جوهرياً بحسن المعاملة مع الآخرين وحياة مصحوبة بالتوفيق ، وهي حالة فردية أولاً ، وآخروي تتمثل بثواب أو عقاب بصفة فردية ( لاتزر وازرة وزر أخرى ) ، وهو مايوفره حسن الذوق في الدنيوي – المعاملة الطيبة والحياة الراضية – ويعجز عنه في الآخروى ، ولما كانت طرق الوصول إلى الإطمئنان الروحي عديدة ، ومثلها طرق الوصول الى مرضاة الله ، لذا يمكن البحث عن الموانع التي تعيق تحول المعتقد الديني بصفته خياراً فردياً يمكنه أن يشكّل ذوقاً وينظر إليه كذلك في حركيته وتطوره ، وهو مايحتاج إلى مقاربات أخرى قد تكون من خارج حقول الإشتغال في كلّ من العلمانية المنادية بفصل الدين عن الدولة ، والمؤسسة الدينية المنادية بإدماج الدين بالدولة (1) ، وهو المأزق الذي دخلته القوى العراقية بشقيها الرئيسين ، حيث توجهات علاوي الملتبسة، باعتمادها على أداة لم تثبت علمانية حقيقية( حزب البعث ) ، ودينية المالكي الحائرة بين ماتفرضه الدولة من أنساق فكرية سياسية ، وبين الإنشداد إلى الأفكار التقليدية القديمة في حزب الدعوة .
(1) إذا كانت قرون عصر النهضة، توصف بأنها (عصر الثورات الدينية ) فإن القرن العشرين يمكن وصفه ب(قرن الثورات الآيديلوجية ) فقد شهد ظهور آيديلوجيات كبرى طبعته بطابعهاالخاصّ وهي على التوالي – الشيوعية – ( القومية ) النازية – الفاشية.
اما القرن الحالي ، فهو قرن الثورات التكنولوجية .
ورغم ان كلّ من تلك الثورات قد خلق أجياله ، الاّ إن أيا منها لم يستطع الحسم في موقع الإنتصار ، فقد تداخلت أجيال الثورات الدينية ، مع أجيال الثورات الآيديلوجية اللاحقة
وهاهي أجيال التكنولوجيا ، تعود تدريجياً الى آيدلوجيا تها ومعتقداتها الدينية والإثنية ، مستغلة منافع الثورة التكنولوجية لنشرها ، كما استخدمت أجيال الآيديلوجيات في القرن العشرين ، منجزات الثورة الصناعية في حروبها .