الدين السياسي عدو الإصلاح

الدين السياسي عدو الإصلاح

ا. الإصلاح كحاجة دينية لا كترف سياسي

الإصلاح في جوهره ليس ترفًا فكريًا ولا مؤامرة غربية، بل هو ضرورة دينية وحضارية. فكل دين يحمل في داخله بذور الإصلاح المستمر، لأن النصوص تُقرأ في سياقات متغيرة، والواقع يفرض أسئلة جديدة لم يعرفها الأسلاف. الأنبياء أنفسهم كانوا مصلحين ضد جمود مؤسسات دينية سبقتهم. وبالتالي، يصبح الإصلاح تعبيرًا عن حيوية الدين وقدرته على التجدد.

لكن في ظل الدولة الدينية، يُختزل الإصلاح في كونه تهديدًا سياسيًا؛ لأن السلطة لا ترى فيه مشروعًا لبعث الروح، بل خطرًا على شرعيتها القائمة على قداسة غير قابلة للنقاش. وهكذا يُحوَّل المصلح إلى “خائن” والمفكر إلى “زنديق”، وتُغلق أبواب التجديد باسم حماية الدين.

ب. لماذا يُخيف الإصلاح الدولة الدينية؟
1. الإصلاح يفتح باب النقاش: الدولة الدينية تريد خطابًا نهائيًا، مغلقًا، لا يقبل إعادة القراءة. أي محاولة للنقاش تزعزع سلطة “الحقيقة الرسمية”.
2. الإصلاح يُضعف الشرعية الرمزية: إذا كان النص قابلًا للتجديد، فهذا يعني أن قداسة السلطة القائمة عليه قابلة للتقويض.
3. الإصلاح يعيد الكلمة للعقل: الدولة تريد أن يكون المنبر الرسمي المرجع الأعلى، بينما الإصلاح يعيد الاعتبار لاجتهاد الفرد وحرية التفكير.

ج. الإصلاح في الإسلام الحديث: الداخل والخارج

منذ القرن التاسع عشر، برز اتجاهان إصلاحيان متوازيان في العالم الإسلامي:

1. إصلاح من داخل المؤسسة الدينية:

جمال الدين الأفغاني دعا إلى إحياء روح الإسلام في مواجهة الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي.

محمد عبده سعى إلى تحديث الفكر الإسلامي، وإعادة قراءة النصوص بروح عقلانية، وإصلاح مناهج التعليم الديني.

محمود محمد طه قدّم مشروعًا تجديديًا للشريعة يقوم على التمييز بين آيات المرحلة المكية والمدنية، لكنه أُعدم في السودان بتهمة الردة.

هؤلاء جميعًا كانوا ينطلقون من موقع ديني، أي من داخل فضاء الفقه والتفسير، ومع ذلك وُوجهوا بالتخوين والتكفير، لأنهم كسروا احتكار المؤسسة الرسمية لسلطة “التأويل المشروع”.

2. إصلاح من خارج المؤسسة الدينية:

طه حسين دعا إلى قراءة نقدية للتاريخ الإسلامي والتراث الأدبي، مستعينًا بمناهج حديثة.

محمد عابد الجابري قدّم مشروعًا لفحص “العقل العربي” ونقد آليات إنتاج المعرفة في التراث.

فرج فوده طالب بفصل الدين عن الدولة بشكل صريح، فواجه حملات تكفير وانتهى باغتياله.

هؤلاء لم يتكلموا كفقهاء بل كمفكرين، ومع ذلك تعرّضوا لاتهامات أشد قسوة: التغريب، الخيانة، الكفر. لأن نقدهم لم يقتصر على النصوص بل تعدى إلى بنية التحالف بين الدين والسلطة.

د. الإصلاح الديني في أوروبا: درس تاريخي

تجربة أوروبا تكشف بوضوح أن الدين حين يُحتكر من قبل السلطة السياسية والدينية معًا، يصبح الإصلاح مستحيلًا إلا عبر صدام كبير.

الإصلاح البروتستانتي (لوثر وكالفن): بدأ كمطلب لاهوتي ضد بيع صكوك الغفران وسطوة الكنيسة، لكنه تحوّل إلى ثورة اجتماعية وسياسية قلبت الخريطة الأوروبية.

الكنيسة الكاثوليكية رأت في الإصلاح تهديدًا لهيمنتها المطلقة، فلاحقت المصلحين بالحرمان والقتل.

لكن مع الزمن، أدى الإصلاح إلى فصل نسبي بين الدين والسياسة، وإلى ظهور قيم مثل حرية الضمير وحق الاختلاف.

الدروس الأوروبية مهمة للعالم الإسلامي: الإصلاح لا يضعف الدين، بل ينقذه من التكلس والارتهان للسلطة. أما الجمود فهو الذي يحول الدين إلى أداة قمع، ويُفقده بريقه في عيون الناس.

هـ. كيف يتحول الإصلاح إلى “خيانة”؟

الدولة الدينية تصنع معادلة مقلوبة:

نقد الفقه = هجوم على الدين.

نقد التراث = إضعاف الهوية.

نقد المؤسسة الدينية = تفكيك الأمة.

نقد الحاكم = خروج على الله.

وبهذا، يصبح الإصلاح – في نظر السلطة – جريمة مركبة: سياسية ودينية في آن واحد.

و. النتيجة: موت الدين الحي

حين يُمنع الإصلاح، يتحول الدين إلى قوالب جامدة. يُستعمل في الخطب والإعلام كأداة طاعة، بينما الناس يفقدون إيمانهم بجدواه. وهكذا، بدل أن يكون الإصلاح وسيلة لإحياء الدين، يصبح غيابه وسيلة لقتله. الدين يفقد روحه، ويظل قائمًا كشعار سلطوي لا كإيمان حي.