19 ديسمبر، 2024 12:59 ص

الدين …. اداة تبرير سلطوية

الدين …. اداة تبرير سلطوية

تعاني النظم السياسية العربية من ازمة الشرعية. وهي ازمة معقدة في جوهرها، حيث ان استمرار هذه النظم لا يعتمد على رضاء المحكومين وتقبلهم له بقدر اعتمادها على القوة والقهر المادي والمعنوي. وتتجلى مظاهر هذه الازمة في ازمة الثقة بين هذه النظم وشعوبها، وتزايد اللجوء للعنف باشكال مختلفة، كأسلوب للتعامل السياسي، سواء من قبل النظام او من قبل المواطنين، والمحصلة النهائية لكل ذلك تتمثل في موجات العنف وعدم الاستقرار، والتدخل العسكري في الحكم.
وفي اطار هذه الازمة تسعى النظم السياسية العربية الى خلق وتدعيم مصادر للشرعية، اي للرضاء والتقبل السياسي من قبل المواطنين. ويعد الدين (الاسلامي) من اهم المصادر التي تلجأ اليها بعض هذه النظم بقصد خلق وتدعيم شرعيتها.
فما هي مسالك الاعتماد على الدين كمصدر للشرعية؟ وما هي حدود الاعتماد عليه؟
ثمة مسلك تلجأ اليه النظم العربية بقصد خلق وتدعيم شرعيتها السياسية، اعتماداً على الدين. وهنا يجب ان نأخذ في الاعتبار، ان الاعتماد على الدين ليس واحد بل يختلف من نظام الى آخر طبقاً لمدى تجذر الدين في وجدان الجماعة ودوره التاريخي في الدولة.
في بعض الحالات، كان الدين عاملاً اساسياً في نشأة الدولة العربية او بعث الحركة الوطنية من اجل الحصول على الاستقلال ، فان جزءاً من شرعية النظام السياسي يصبح متعلقاً بمدى ارتباطه بهذا الاساس العقائدي للدولة فأغلب دساتير الاقطار العربية تنص على ان الاسلام هو الدين الرسمي للدولة او على انه من المصادر الاساسية للتشريع، الا انها نادراً جداً تلك الاقطار التي تطبق تعاليم الاسلام في مجالات الحياة المختلفة.
والاعتماد على الدين (الاسلامي) في تنظيم مختلف جوانب الحياة في المجتمع، مرده، ان الاسلام تضمن مجموعة من المبادئ العامة والاحكام والتعاليم التي تغطي مختلف مجالات الحياة، لذلك يحاول بعض المثقفين في كثير من الاقطار العربية، تطوير اجابات اسلامية لقضايا مجتمعاتهم. فهناك قناعة بان الاسلام يتضمن الكثير الذي يمكن ان يقدمه في مجالات التنمية، كذلك، هناك قناعة لدى الكثيرين، بان الفشل الذي بني به الوطن العربي، لا يعود الى الاسلام بقدر ما يعود الى اخفاق المؤسسات والقيادات في الاقطار العربية.
 فالكثير من النظم العربية تلجأ الى استغلال الدين لتبرير سياساتها وتوجهاتها الفكرية، ويتم ذلك من خلال تدعيم الاطروحات الفكرية للنظام وممارساته العملية بأدلة دينية من القرآن والسنة. وكثيراً ما تتولى المؤسسات الدينية الرسمية وبعض رجال الدين القيام بهذه المهمة.
ففي اغلب الاقطار العربية يشرف رجال الدين على تطبيق احكام الشريعة ويشغلون كل المناصب القضائية والقرارات الهامة التي تستلزم الحصول على فتوى منهم. وهنا مصدر قوتهم، فيمكن ان يصبغوا الشرعية على قرار معين بتأييده بفتوى، ويمكن ان ينفوا الشرعية عنه بعدم اصدار الفتوى.
ان الكثير من الانظمة العربية تلجأ الى استغلال الدين كمصدر للشرعية، حيث تتخذ الدين كموجه لمختلف مجالات الحياة فيصبح بمثابة دستور اقتصادي اجتماعي سياسي لمختلف مجالات الحياة، وقد تلجأ االى الدين لتبرير اطروحاتها الفكرية وممارساتها العملية.. هنا تتجه نحو استقطاب رجال الدين والمؤسسات الدينية الرسمية.
ولكن الى اي مدى تستطيع هذه الانظمة ان تعتمد على الدين كمصدر للشرعية؟ بمعنى آخر، ما هي تلك المجموعة من الظروف والمحددات التي تدعم دور الدين كمصدر للشرعية، وتلك التي تقلل من دوره، وتجعل النظام / الانظمة عرضة لمظاهر ازمة الشرعية؟
يتضح ان هناك نظماً سياسية عربية تجعل من الدين مصدراً اساسياً لشرعيتها، الا ان هذه النظم تعرضت وتتعرض لكثير من مظاهر عدم الاستقرار، الامر الذي يضع العديد من علامات الاستفهام حول مصادر شرعية هذه النظم، ومدى فاعليتها في توفير مقومات الاستقرار والاستمرار.
وفي ضوء مظاهر ازمة الشرعية التي تعاني منها بعض الانظمة العربية التي تعتمد بصفة اساسية على الدين كمصدر للحصول على الشرعية يمكن القول ان هناك مجموعة من المحددات تتفاعل فيما بينها لتحدد نجاح النظام في الاستناد الى الدين كمصدر لشرعيته، وتتمثل هذه المحددات في: وجود اتفاق عام حول دور الدين في المجتمع، والمنطلق الاساسي لهذه الاطروحة هو انه كلما كانت هناك درجة اعلى من الاتفاق بين القوى الاجتماعية المختلفة حول دور الدين في المجتمع تزايدت ايضاً شرعية النظام السياسي الذي يربط نفسه بتصور الجماعة عن دور الدين والذي يسعى لترجمته في الواقع العلمي، لكن مثل هذا الاتفاق العام لم يحدث في معظم الاحيان، حيث تتباين مواقف القوى المختلفة من الدين كمجموعة من القواعد التي تمتد لتنظم مختلف مجالات الحياة وليس كمجموعة من الطقوس اليومية التي يمارسها المسلم طبقاً للأطروحات الايديولوجية التي تتبناها هذه القوى، وطبقاً لمصالحها الاقتصادية والاجتماعية، فقد ترى جماعة ما ان اتجاه النظام الى تطبيق احكام الدين يتعارض مع توجهاتها الايديولوجية ويضر بمصالحها، لذلك ترفض التوجه الديني للنظام. وقد ترى جماعة اخرى، ان اتجاه النظام لتطبيق احكام الدين اقل مما يجب. ومن هنا، يكون الدين سلاحاً ذا حدين. ففي الوقت الذي يلجأ فيه النظام السياسي الى الدين للحصول على الشرعية، فان بعض القوى الاخرى قد تعارض على اساس ديني فتلجأ الى الدين لتبرير معارضتها للنظام او قد تكون هذه القوة دينية بالاساس، وخبرة الانظمة العربية تؤكد الاطروحات النظرية السابقة.
ففي الوقت الذي لجأت فيه الكثير من الانظمة العربية الى تبني اطروحات اسلامية وعقد مؤتمرات اسلامية، شهدت هذه الانظمة حركات اسلامية مسيسة تناصب النظم القائمة العداء، وبعض هذه الحركات تتبنى فلسفة العنف في الاطاحة بهذه الانظمة.
فالنظام الذي يلجأ الى الدين كمصدر للشرعية خاصة عندما يأخذ هذا اللجوء شكل الالتزام بالدين كدستور اقتصادي، اجتماعي، سياسي، يتوقف نجاحه بدرجة كبيرة على مدى الاتساق، وعدم التناقض بين شعاراته وممارساته. فعندما تأتي الممارسات الشخصية لمن هم في قمة النظام والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي يتبناها متسقة مع ونابعة من الاساس العقائدي والقيمي الذي يرتكز عليه، فلا شك في ان ذلك غالباً ما يؤدي الى زيادة وتعميق مصداقيته لدى المواطنين. اما عندما يكون هناك تناقض بين القيم والشعارات التي يطرحها النظام وبين ممارساته العملية، فان ذلك غالباً ما يؤدي الى انخفاض مصداقيته لديهم وبالتالي ينخفض تاييدهم ومساندتهم له، وتبرز قوى اجتماعية تناصبه العداء وتسعى للاطاحة به، وتجد تبريراتها في ان النظام يمارس النفاق ويخون اماني الجماعة، ولا يعبر عن جوهر عقيدتها الدينية.
وفي هذا الاطار، يكمن احد اسباب بروز المعارضة الدينية ضد النظم الحاكمة في العديد من الاقطار العربية، حيث يزداد الاحساس لدى هذه الحركات بان هذه الانظمة لا تأخذ من الدين (الاسلام) سوى الشعارات والشكليات فقط، وممارساتها وسياساتها تشوه الجوهر الحقيقي للدين. ففي الوقت الذي ترفع فيه هذه الانظمة شعارات اسلامية تتسع الهوة بين الطبقات بصورة حادة وتمارس هذه النظم القهر والتعذيب بصورة منظمة، بجانب ضعف القنوات الرسمية للمشاركة وانفراد الحاكم او مجموعة محدودة على قمة السلطة بعملية صنع القرار، يضاف الى ذلك انتشار الفساد السياسي والاجتماعي. وكلها امراض وانحرافات اجتماعية وسياسية بعيدة عن الاصول الاساسية للاسلام. ووصل الامر الى حد قيام بعض هذه الجماعات بتكفير هذه الانظمة وبعضها وسع دائرة التفكير لتشمل المجتمع ككل.
ان محاولة هذه النظم- الثورية ادعاء او الرجعية- العودة الى نوع من الشرعية الاسلامية كعنصر او رافد من روافد شرعية النظام كموضوع للاستهلاك العام سياسياً هي عودة كاريكاتورية، لانها تسعى من خلال تحقيق المطابقة الشكلية بين الصورة الخارجية لممارسة السلطة وبين القيم الثقافية الاسلامية الراسخة الى ان تختفي القطيعة الفعلية المطلقة بين اهداف هذه السلطة ومصالح الطبقة المرتبطة بها وبين اهداف الجماعة، واحسن مثال على هذه الحقيقة هي ان الصبغة الاسلامية التي تعطيها لنفسها تتعارض مع الافكار الجديدة الثورية والعدلية للقيم الاسلامية التي يتسلح بها التيار الاسلامي ذاته.
انه، مهما كانت درجة تجذر الدين في الوجدان الجمعي، ومهما كانت درجة ارتباط النظام بهذا الدين، فانه مطالب بالاستجابة لحد ادنى من المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية لكافة المواطنين. ولقد ادركت النظم التي تعتمد على الدين كمصدر للشرعية حجم المخاطر التي تعترضهما، فالدين سلاح ذو حدين، فراحت تبحث عن مصادر مكملة للمصدر الديني.
وكان الانجاز هو الاساس الذي لجأت اليه هذه النظم فتبنت برامج طموحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبعضها تبنى بعض مظاهر الشرعية الدستورية حيث يوجد دستور وبرلمان ونشاط حزبي، الا ان الكثير من هذه التجارب اجهضت او وضعت امامها العراقيل من قبل القوى التي ترى ان مثل هذه التطورات تشكل تهديداً لمصالحها، بالاضافة الى محاولات تحقيق التناغم بين عناصر التقليدية وعناصر الحداثة، فرفعت شعارات مثل الوطنية والاستقلال والعدالة… وفي نفس الوقت حافظت على مصالح ومشاعر القوى التقليدية التي لا تزال تشكل قاعدة اساسية لهذه النظم.
وبعض الانظمة العربية لم تغفل اهمية السياسة الخارجية كرافد للشرعية، فراحت تستجيب ولو بحدود معينة لدعاوى التضامن العربي وتؤكد على القضايا المصيرية واعتبارها كقضايا عربية واسلامية، وتستضيف المؤتمرات وتمارس الوساطات وتقدم الدعم المادي للاقطار العربية والبلدان الاسلامية غير النفطية… ورغم اهمية هذه المصادر الا انه توجد بعض العوامل التي تقلل من دورها في تدعيم شرعية هذه النظم.
اولها- ان عمليات التحديث والتنمية في الكثير من هذه المجتمعات تتم على النمط الغربي مع ملاحظة ان هذا ليس هو النمط الوحيد للتنمية وليس بالضرورة ان يكون اكثر ملائمة لظروف المجتمعات العربية. ولقد اكدت خبرة الكثير من البلدان على ان اي استراتيجية للتنمية لا تنبع من واقع المجتمع ولا تأخذ هويته وخصوصيته بعين الاعتبار غالباً ما تكون نتائجها محدودة، وقد تكون سلبية، كما ان عمليات التغريب تخلق المزيد من الصراعات والتوترات الاجتماعية داخل المجتمع، حيث تمثل تهديد للقيم والقوى التقليدية التي لا تتردد في رفض عمليات التحديث على النمط الغربي.
ثانيهما- ان عمليات التحديث وما يرتبط بها، زيادة التحضر، وانتشار التعليم، والتعرض لوسائل الاتصال… تؤدي الى بروز قوى اقتصادية واجتماعية جديدة لها مطالبها. وهنا يطرح السؤال حول قدرة هذه النظم على استيعاب هذه المطالب والاستجابة لها. ويطلق البعض على هذه القوى اسم الطبقة الوسطى الجديدة، وتشمل اولئك الذين حصلوا على قدر من التعليم، واندرجوا في مسالك مهنية وتخصصية، واعضاء هذه الطبقة لا يسعون من اجل امتيازات اقتصادية واجتماعية فحسب بل يسعون ايضاً من اجل المشاركة في العملية السياسية، سواء بتقليد المناصب السياسية او بالمساهمة في التأثير على عملية صنع القرار. وهنا تكمن المشكلة. ففي الوقت الذي تسعى فيه هذه القوى من اجل المشاركة السياسية، فان طبيعة العملية السياسية في تلك الدول لا تسمح الا بمجالات محدودة للحركة امامها، حيث تحتكر العوائل المالكة للسلطة والنفوذ في المجتمع. وقد ترفض فكرة المؤسسات الوسطية او تسمح بها بعد ان تنتزع فعاليتها. وهنا تبدو اهمية الاثار السياسية لعمليات التحديث الاقتصادية والاجتماعية بعين الاعتبار فيجب ان تتزامن التنمية السياسية بمعنى العمل على ايجاد المؤسسات السياسية وتطويرها لتستوعب القوى الجديدة بحيث تشارك في العملية السياسية بصورة سلمية ومنظمة مع جوانب التنمية الاخرى.
ثالثهما- ان طبيعة استراتيجيات التنمية وممارسات الكثير من النظم التي تستند الى التقاليد والدين للحصول على الشرعية، ادت الى تزايد الوجود الاجنبي في هذه الدول وتعميق تبعيتها للخارج، وهذا لا بد ان ينعكس بشكل او بآخر على شرعيتها في الداخل.
انه على الرغم من اهمية الوسائل التي تلجأ اليها الانظمة العربية التي تستند الى الدين كمصدر اساسي لشرعيتها لخلق وتطوير مصادر مكملة ومساندة للشرعية الا انها تتم بطريقة غالباً ما تقود الى خلق المزيد من التناقضات والاختلالات داخل المجتمع، واذا كانت بعض هذه النظم قد استطاعت ان تحقق حتى الآن درجة ملحوظة من الاستقرار، فانه يجب ان يؤخذ في الاعتبار عنصران هما: الوفرة المالية التي تمتلكها بعض هذه النظم بحكم مبيعات النفط والاجهزة الامنية والعسكرية المتطورة التي تمتلكها، والتي تعد حماية للنظام من مهامها الاساسية. لكن هذا لا يمنع من ان تكون هذه التناقضات والاختلالات، مصادر كامنة لازمة الشرعية اذا ما استمر النظام غير قادر على معالجتها واستيعابها، وذلك بتطوير ذاته وايجاد تلك المؤسسات والقنوات التي تتمكن القوى المختلفة من خلالها ان تعبر عن نفسها وتوصل مطالبها بصورة سليمة ومنظمة.
ان اي نظام سياسي في الاقطار العربية، لا يمكن ان يعتمد على الدين (الاسلامي) كمصدر اساسي للشرعية السياسية الا اذا توافرت العوامل الآتية:
1- بلورة نموذج اسلامي للتنمية بمعناها الشامل كعملية مجتمعية بحيث يمثل بديلاً للنماذج الغربية التي ثبت فشلها في اغلب الاقطار العربية، وبعض البلدان الاسلامية. وهذه مسؤولية رجال الفكر الاسلامي، وقد آن لمثل هذه العناصر ان تبعث الاصالة الحضارية للامة، وتطور اجابات اسلامية لمشكلاتها الراهنة.
2- ايجاد القنوات والمؤسسات والاجراءات التي يكمن من خلالها وضع التصور الاسلامي للتنمية موضع التنفيذ المحكم والفعال، فأي تصور اسلامي للتنمية يعتبر محدود الاهمية ما لم ينفذ بفاعلية.
3- وجود درجة عالية من الاتساق بين ممارسات وسياسات وقرارات النظم الحاكمة وبين الشعارات التي ترفعها، لأن هذا كفيل بخلق المصداقية وتعميق الثقة ودرء شبهة استغلال الدين وشكلية الالتزام به من قبل النخب الحاكمة.
في ضوء غياب العوامل السابقة، فان محاولات الانظمة السياسية لاستغلال الدين (الاسلامي) كمصدر للشرعية، لا يمكن ان تستمر طويلاً، وسيبقى العنف وعدم الاستقرار، وفقدان الشرعية، والتغيير، والتبعية، من اهم سمات هذه الانظمة القهرية…
[email protected]