لدينا، نحن العراقيين، بعض الظواهر غير المفهومة. في الواقع لا تخلو حالة شعب منها، الا اننا نتفوق، فيما اظن، على غيرنا، وربما لن نجد قولنا الشائع “شي ما يشبه شي” عند غيرنا من الشعوب. بهذا الخصوص، لعل ما ينسب الى عبدالسلام عارف من اجابة واحدة تتمثل في جملة: “ثمانية ملايين” فقط، هي عدد نفوس العراق في حينه، على عبدالناصر عندما سأله اولاً كم عدد الشيوعيين لديكم؟ وثانياً كم عدد القوميين لديكم؟ وثالثاً كم عدد الاسلاميين لديكم؟، تختزل قابلية تقمص العراقي للشخصية التي تتطلبها الظروف التي يجد نفسه فيها. وهي برأيي صفة ايجابية تعكس قدرته على التأقلم والتكيف مع متطلبات الوضع السائد، غير ان الجانب السلبي في هذه الخاصية هي استغلالها من قبل الإنتهازيين.
قضية تلف العملة في مخازن البنك المركزي دليل صارخ. بغض النظر عن كون الحادث نتج عن اهمال وسوء ادارة او انه حادث عرضي محتمل الحدوث في ضوء تأثر البنى التحتية (بل والفوقية من بشر وحجر) للضرر عموما، بغض النظر عن ذلك فإن القضية اخذت اكبر من حجمها وحازت على اهتمام غير مسبوق من مختلف شرائح الشعب وعلى كافة المستويات، لا عتقد ان قضية مفردة واحدة قد حازته منذ 2003، مع انها قضية مقارنة بمثيلاتها تافهة وليس ذات قيمة.
نحن نتحدث عن تلف سبعة مليارات دينار (حوالي ستة ملايين دولار)، تلف وليس ضياع ولا سرقة ولا اختلاس ولا سوء صرف، بمعنى ان النقد المعني لم يذهب هباءا الى جيب او بطن احد الحيتان (للعلم الحيتان كما سنبين لا تعرض نفسها للخطر لهكذا مبلغ) ولم تتعطل من جرائه مصلحة ولم يتوقف مشروع ولا دخلت البلد بضاعة دون المواصفات وغير ثالخة للإستخدام البشري، اي لم يلحق البلد من خلالها اذى من اي تعامل تجاري غير محمود. كل ما هنالك ان البلد خسر ثمن طبع تلك العملة، واذا علمنا ان النقد التالف اقل من 0.0002% من حجم كتلة النقد المتداولة في السوق والبالغة أربعين ترليون دينار، لوجدنا انها لن تؤثر على السوق وان البنك المركزي بالتالي ليس بحاجة ماسة الى اعادة طبعها.
طبع الف ورقة من فئة 25 ألف دينار يكلف اقل من ستين دولار لأن هيكل الورقة النقدية العراقية اساسا ضعيف، وهي اغلى ورقة نقدية في حينه لأن عملة الخمسين الف دينار لم تكن قد صدرت في حينه. همذا نجد ان اقصى كلفة لطبع السبعة مليارات دينار التالفة تصل الى 420 مليون دينار وهو ما يعادل 350 الف دولار.
دون ان نعتبر ما ورد ويرد في هذا البوست دفاعاً عن أحد ولا تبريراً لحالة سلبية، اذا اردنا مقارنة هذه الخسارة التي يمكن الى حد ما تبريرها، ببعض السرقات العلنية المزعومة التي لم يلق اليها الجمهور والمتحمسون الآن لها بالا حاميا ولا اهتماما كبيرا، لوجدناها تافهة ولا تستحق عناء هذه الفورة الشعبية الهيجان الإعلام، بل ان البنك المركزي يهدر 120% من المبلغ التالف يومياً.
دعونا إذن لا نبتعد كثيرا ونبقى داخل البنك المركزي. هناك شيء لا ينتبه اليه الا المختصون يسمى مزاد العملة، يقيمه البنك يوميا فيما عدا ايام العطل والطوارئ. في هذا المزاد يبيع البنك المركزي كمعدل حوالي ١٨٠ مليون دولار يومياً بسعر ١١٨٤ دينار للدولار لكل المصارف العراقية، تقوم هذه المصارف ببيع الدولار بسعر يساوي ١٢٥٥ دينار ، حيث يربح المصرف ٧١ دينارا لكل دولار يقوم بشراءه ثم بيعه، بينما يخسر البنك المركزي اجمالاً حوالي عشرة ملايين دولار يوميا.
لمزيد من التوضيح. اذا اشترى إحد المصارف ١٠ مليون دولار يومياً، فان ربحه يكون ٧١٠ مليون دينار اي مايعادل ٦٠٠٫٠٠٠ الف دولار لذلك اليوم. اذا افترضنا ان العطل والظروف الطارئة لا تسمح بإقامة المزاد الا نصف المدة السنوية، اي 180 يوما فقط، فإن المصرف المحظوظ سوف يربح 108 مليون دولار في السنة دون ان يبذل نقطة عرق واحدة بينما سيخسر البنك المركزي (العراق) 1800 مليون دولار في السنة الواحدة وهي خسارة تعادل ثلاثمئة ضعفا للمبلغ التالف بالغرق.
الأدهى انه يتوجب على المصرف المشتري ان يزود البنك المركزي لاحقا بالبيانات اللازمة عن كيفية تصرفه بالدولار الذي اشتراه، الا ان اكثر من ٥٠ ٪ من الوصولات و الكوبونات مزورة كما أفاد رئيس اللجنة المالية في البرلمان احمد الجلبي في احد لقاءاته الشهيرة قبل رحيله بفترة وجيزة.
اما لماذا لا يتصدى احد لهذه العملية المريبة ويحرك ملف الفساد في مزاد العملة رغم انها من اوضخ عمليات السرقة المنظمة لإقتصاد البلد منذ ٢٠٠٦، فلإن المصارف المستفيدة، كما يقال، والتي تستحوذ على مزاد البنك المركزي العراقي، مرتبطة بجهات سياسية تموِّل من خلاله احزابها وميليشياتها وتعود عليها بالربح المالي على حساب اقتصاد البلد.
كان وزير المالية السابق هوشيار زيباري قد تحدث عن واحدة من حالات الفساد التي يبدو ان المزاد قد افرزها، وذكر في مقابلة تلفزيونية تقريرا مدعما بقرص مدمج لوّح بهما على الشاشة، اعده رئيس اللجنة المالية في البرلمان يفيد بأن شخصا واحدا قام بتحويل اكثر من ستة ونصف مليار دولار الى حسابه في بنك معين، لم يسمِّه.
المذيع عاد بعد ايام لينفي صحة كلام الوزير، علما ان الوزير لم يأتِ بشيءٍ من عندياته وانما تحدث عن تقرير أعده رئيس اللجنة المالية في البرلمان، نفى استنادا الى كتاب من احدى الجهتين المشتبه فيها، محافظ البنك المركزي بالوكالة، بدلا من ان يقول القضاء رأيه في الإتهام العلني. ثم لم يلبث الوزير نفسه ان طُرد من منصبه.
….. للحديث بقية.