18 نوفمبر، 2024 1:41 ص
Search
Close this search box.

الديموقراطية، لا تقوم لها قائمة في العراق، إلا بإقامة الخطاب الموحد

الديموقراطية، لا تقوم لها قائمة في العراق، إلا بإقامة الخطاب الموحد

عندما سقط نظام الصنم في العام 2003 استبشرنا خيرا بإنبثاق فجر عراقي جديد، ليبدد العتمة التي غط فيها العراقيون بظلام دامس لفترة ليست بالقليلة من الزمن الضائع، وهي السبب الاقوى من بين جميع الأسباب التي ساهمت في عزلتنا عن العالم الخارجي ومنعنا وبلدنا من مواكبة التطور بشتى انواعه، واستبشرنا خيرا بتوافد سياسي الخارج إلى الداخل العراقي وقلنا: إنهم سيجعلون من العراق دولة راقية وعظيمة على غرار الدول الأوربية المتطورة والمتقدمة حضاريا وبنيويا ومن كافة النواحي المتجددة الاخرى، على قدر اكتسابهم لخبرات علمية وسياسية وأعراف ناضجة اجتماعيا وأخلاقيا كما كنا نظن، وبحكم تغربهم وإبتعادهم عن الوطن والأهل كنا نتوقع منهم دفقا عاطفيا انسانيا وولائيا منقطع النظير لوطنهم ولمجتمعهم العراقي الجريح الذي ترعرعوا فيه، وجميع ما سمعناه عنهم مما يصح عليه القول من سمعة طيبة وصالحة بما إكتسبوه من تطور الغرب وتمدنه، فتوقعنا منهم أن يترجموا ذلك إلى نقل تلك التجارب إلى داخل البلد، وإلى نزاهة متميزة، والى ورقة عمل لعمل دؤوب ينتهجها سياسيوا العراق في الآن وفي المستقبل، لبناء الوطن الجريح، وفي رفد الدستور وتشريع القوانين التي يستفاد منها أبناء جلدتهم المنكوبين بشكل متوازن وعادل، وكنا حقيقة مبهورين بهم أيما انبهار، ولكن وللأسف جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، وكان لزاما علينا أن نعيد النظر بجميع تصوراتنا الخاطئة عنهم والقاصرة في عدم تشخيصهم على حقيقتهم التي جاءوا بها، وفرزهم وتشخيصهم وفق استحقاقاتهم عند الانتخابات، و”ما هكذا تورد الإبل يا سادتي.”
وترافق توافدهم في تلك الفترة التي أصبح فيها العراق سوقا لترويج الاستبشارات والاشاعات والدعايات لكل من هب ودب من المتسيسين والمتنطعين، وكان أغلبها يشير إلى أن العراقي قد امتلك وطنا حرا “سالما منعما وغانما مكرما” ومن حق العراقي أن ينعم ويعيش فيه أبيا وسعيدا ومحترما أسوة ببقية البشر من الناس في ارجاء المعمورة، ويتغنى به كوطن أم بما سيقدمه لمواطنيه من خير ورفاهية وسعادة وخير وأمن، ووفرة في سبل العيش الكريم، ومن هذه الاشتبشارات كذلك أن مفردات البطاقة التموينية سترقى إلى 43 مادة غذائية أو أكثر، وأن كل عراقي سيحصل على بيت مؤثث وسيارة بالتقسيط السهل والمريح، وأن الثروة الوطنية النفطية سيوزع فائضها إلى العراقيين بالتساوي، وآلية التوظيف في مختلف دوائر الدولة تتم بشكل انسيابي وعادل مع جميع شرائح المواطنين وبحسب الاستحقاقات الأكاديمية والكفائية لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، حيث وفي حال تطبيق هذه السياسات لم يبق في البلد من بعد ذاك الآن من فقير ولا مسكين ولا مضطهد ولا مظلوم ولا محروم إلا وأخذ حقه ونصيبه في هذه الدنيا كما كتبها الله له، وأن رقعة التربية والتعليم والصحة وباقي الخدمات ستكون في اعلى مراتبها وإمكانياتها على مستوى الشرق الأوسط، وأن العراق سوف يحتفل في يوم ما بعدم قطع التيار الكهربائي في معظم مدنه الكبيرة والصغيرة، ولو لساعة واحدة أسوة ببعض الدول المتقدمة أو على الأقل بمستوى دول المنطقة، وسمعنا الكثير والكثير وبالتفصيل الممل، وكثيرا ما تتزامن تلك الاستبشارات والوعود مع مواسم الانتخابات، بالضحك على ذقون الناخبين والتشويش على افكارهم، ومن ناحية أخرى استسذاج الشعب للوصول إلى غاياتهم الدنيوية الرخيصة، “والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين”و”من غشنا ليس منا.”
ولكن كل ذلك ما كان إلا أوهاما وسرابا وتضليلا، فبدت في حينه بوادر الحكم الاولى في البلاد من خلال اعتماد نظام مجلس الحكم كنقطة انطلاق اولى للعملية السياسية الجديدة في العراق على انقاض الحكم البائد، وبالتبشير في باكورة أعماله التأسيسية بايقاظ الطائفية المقيتة والفتن النائمة واتجهت بوصلة العراق السياسية والأمنية منذ ذلك الحين بالإنحدار نحو مستنقع التشتتث والفرقة والتفكك والتمذهب والصراع الطائفي المقيت، وجعل العراق كبلد غربة لمواطنيه، كما ونتج عن ذلك عملية سياسية ركيكة عرفت بخبث الأداء وسوء النوايا والقصور في معالجة التداعيات والأزمات، بل هي من يصنع التداعيات والأزمات، لأنها مفصلة بطريقة خبيثة للعراق قصدا، وهي حلقة من حلقات الاستعمار الجديد، وسلاح سياسي يفوق في نتائجه التدميرية بأس جميع الأسلحة التقليدية الفتاكة، مهمتها اضعاف العراق كقوة عسكرية وبشرية واقتصادية فعالة ومؤثرة في المنطقة، وكدولة قوية مقارعة للكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط، ومناصرة لحركات التحرر والشعوب المقهورة، وبذلك جعلت منه بعيرا وقد تكاثرت عليه السكاكين، وأن لاتقوم له قائمة بعد ذلك الآن أبدا، ومثل هذه العملية السياسية المختارة كمثل سترة داخلها لا يشبه خارجها، فخارجها ذي يافطات مضللة وشعارات براقة فيها رحمة ونعيم، كالديموقراطية والحرية وسيادة القانون والوطن واحد والوطن للجميع، وداخلها فيها عذاب شديد وبلاء وانتقام…. الخ.
من حيث كان المهندس السياسي المخطط لها، كان بارعا ماكرا في تصميم تلك العملية التي جعلت من العراق بلدا غير آمن ومسلوب الإرادة في القضاء على ظواهر الإرهاب والفساد بأنواعه وعاجزا عن تقديم الخدمات والوقوف على قدميه، والنهوض بنفسه وأبنائه أسوة ببقية الدول.
إذ قام هذا المهندس الافتراضي بتلقين هذا البرنامج بالاستهتار على انه ديموقراطية، وبالانفلات والتمرد السلبي على انه حرية، وبالفوضى على انها حقوق سياسية وأمنية، وبقية الخدمات ومنها الكهرباء، على “أن غدا لناظره قريب” -ويبشر بخير- وبالفساد والإرهاب على انهما فلتان طبيعي يرافق كل عملية سياسية مبكرة من حيث يمكن معالجتهما وتكييفهما مع القانون… وهكذا، مستغلين بذلك طيبة الشعب العراقي الذي ذاق الامرين، والذي اتهموا مشاعره بالنائمة، وأحاسيسه بالبليدة -هكذا يصفون هذا الشعب الجريح الذي عانى ما عانى من الويلات والحروب والحصار والدمار والقتل والظلم والحرمان من ابسط حقوقه المادية والأدبية، خلال أربعة عقود خلت من الزمن، وأتهم أيضا بالسذاجة وبعدم خبرته في السياسة التي جعلته راضيا وقانعا بما يجري عليه وحوله وهذا ليس عيبا في الشعب، إنما العيب في مجمل العملية السياسية والقائمين عليها وبالتطبيق المتعثر- وعندها تحولت احلامنا إلى سراب، وطموحاتنا إلى بؤس وخيبة أمل، وتحول استبشارنا بالخير إلى أستوحاشا بالشر بسبب التناقضات التي تحولت إلى نكوص حقيقي لأبناء هذا البلد، بل وسرت إلى أبعد من ذلك حتى شملت خطاب الأديان والمذاهب تحت مسميات هذه الديموقراطية المزعومة والعرجاء، فقتل خيرة شباب أهل البلد، كما وجرت التصفيات الجسدية لبعض الناس غدرا، وأبيحت الدماء والحرمات وإنتهكت الأعراض، وتحولت معظم أماكن العبادة ودور السكن إلى حاضنات للارهاب وإثارة للفتن، بل امتدت هذه الحواضن إلى ماهو أبعد من ذلك، الى مؤسسات الدولة الرسمية، وصار الخطاب فيها للدفاع عن رموز الإرهاب والفساد هو السمة المميزة لتلك المؤسسات وبشكل معلن دون ادنى خجل أو حياء من الله ومن الشعب وذوي الضحايا، ودون وازع من ضمير انساني ووطني وأمانة إلهية ووظيفية يجب أدائها. وبهذه الطريقة وصلت الجرأة إلى بعض السياسيين أن قاموا بالدفاع المعلن عن زعماء الإرهاب والفساد تحت ظل حرم الدولة -بضم الراء- في رواقها التشريعية والتنفيذية كأسوأ ظاهرة سياسية يمر بها البلد خلال تأريخه السياسي المعاصر.
“وهذي واحدة من الظواهر المدانة التي تشكل بؤرة من بؤر الضعف التي تعاني منها الحكومة في تحقيق الأمن، وهي ذات المشكلة، التي اضطرت الجماهير أن تقول بما في ما معناه من خلال التظاهر ورفع الرايات البيضاء في جملة ما تقوله :
“عمي ما نريد العنب، أنريد سلتنا”، ونريد العمل بسلم الرواتب، وتخفيض رواتب الرئاسات الثلاث، وإلغاء رواتب أعضاء مجالس المحافظات والمجالس البلدية والمحلية، في مظاهرات سلمية حضارية بيضاء عمت جميع المحافظات العراقية خلا خمس محافظات وخلا ممثلي الشعب، في الحادي والثلاثين من شهر آب المنصرم، وفي اعتقادنا هذه تمثل التظاهرة الاولى من بين سلسلة مظاهرات تمثل مطالب الشعب الواجبة التنفيذ من الحكومة.”
وإذا كان هناك تعثرا في العملية السياسية الديموقراطية كما هو اسمها في الظاهر، فيعود ذلك للأساسيات المتمثلة في ارادة الشعب الذي بمثله البرلمان، وطبيعة النظام الذي بمثله الدستور، والحكومة التي تنفذ كل ذلك، بالاضافة للدور الكبير والساند الذي يقدمه المثلث المحوري المتآلف من الدين والمال والاعلام.
وجميع هذه الاساسيات هي عبارة عن معادلة تتوقف نتائجها على حاصل ضرب طرفها الايمن بما يحمله مبدأ “الخطاب الموحد” من قيمة رقمية عددية، فإذا كانت هذا الرقم “صفرا” عندها ستكون النتيجة “صفرا”.
فتلك أمريكا ما صارت دولة عظمى إلا بفضل خطابها الموحد رغم ترامي اطرافها وتعدد أثنياتها وكثرة نفوسها وحداثة تاريخها.
وكذلك الهند، “الجمهورية الفدرالية البرلمانية الديموقراطية” مثال آخر لتوحيد الخطاب، إذ تتكون من ثماني وعشرين ولاية، وسبعة أقاليم اتحادية، تتعدد فيها الاثنيات والقوميات والأديان والمذاهب والأحزاب والمنظمات إلى ما يفوق التصور، ويبلغ فيها عدد اللغات واللهجات إلى 1652، فتوحدت بخطابها أيضا رغم أن مساحتها تضاهي مساحة قارة، كما وتجاوز عدد نفوسها المليار وربع المليار نسمة، وهي بذلك لاتبدو عليها آثار تفكك واختلال وتدهور في الوضع الأمني، ولا تبدو عليها اعراض الأمراض السياسية والتجاذبات .
وما أحوجنا إلى توحيد الخطاب في كل شيء في هذا الوطن الواحد، ونتساءل لماذا أغفل المشرع هذه الجنبة الحيوية المؤثرة على نتائج الأداء السياسي الديموقراطي؟
أما خطر بباله المثل القائل: ” السفينة إذا كثرت ملاليحها تغرك”؟ وإن كانوا مخلصين! فكيف إذا كانوا على غير ذلك، فالمصيبة أعظم، و”أقمش”.
نخلص في القول إلى أن الخطاب الموحد سيقضي قضاء مبرما على جميع التحديات والتداعيات والتجاذبات، الشأن الذي يجعل من الديموقراطية نموذجا صالحا وآلية نافعة ومؤثرة في الوصول لتحقيق الأهداف وتطور نظام الحكم، وستكون فاعلة في دعم العملية السياسية والأمنية والاقتصادية والعمرانية والخدماتية ودعم نظام الحكم في البلد على أكمل وجه، ويقينا أن الضرر الناتج من عدم توحيد الخطاب هو أشد خطرا من بين جميع إضرار التحديات والتداعيات الاخرى المحيطة بالعملية السياسية، مثال ذلك تغليب وتقديم المصالح الشخصية والتنظيمية والسياسية للكتل والأحزاب على مصلحة البلد العليا وتطلعات شعبه في اتخاذ القرار أوعرقلته داخل قبة البرلمان وفي معترك الحياة الوطنية في سوح ومختلف ميادين البلاد التنفيذية الاخرى تحت يافطة الديموقراطية، لذلك نرى أن أغلب مؤسسات الدولة أصبحت شبه مشلولة ومتعثرة في اداء واجباتها الملقاة على عواتقها وعدم الايفاء بالتزاماتها الوطنية والشرفية.
وعامل أو هاجس آخر وهو الأشد خطرا في اتخاذ القرار، المتمثل في اعاقة وعرقلة تمرير مشاريع القرارات التي تقدمها بعض الكتل في أروقة البرلمان للتصويت عليها، والتي ربما تسهم في عملية التطور والارتقاء بالبلد أو قد تصب في مصلحة الشعب بمجمل شرائحه الكبيرة والصغيرة فيه، فيعرقل هذا المشروع من قبل كتل أخرى خوفا من نجاح مشروع القرار ويجير لصالح الكتلة صاحبة الاقتراح وبالتالي زيادة شعبيتها في الانتخابات اللاحقة على حساب الكتل الاخرى، وبهذه الطريقة الفجة أصبحت معظم القرارات والأنظمة والقوانين معطلة ومكدسة في سلة المهملات وعلى الرفوف، ولم ترى النور لفترات طويلة إلا بعد اجراء مفاوضات ومساومات وتوافقات عميقة وتنازلات وتعديلات عبر مختلف الطاولات، أو قد لاتصدر او لا ترى النور بشكل نهائي لعدم الوصول إلى نتائج ترضي جميع الأطراف و”على هل الرنه طحينج ناعم” ياديمقراطية، والله يرحم الخطاب الموحد بعد أن تحشرج صوته في صدره ومات!!
ختاما فآلية الديموقراطية تعتبر من الآليات المرموقة التي تتيح للشعب أن يحكم نفسه بنفسه إذا أحسن تطبيقها وأجيد تدبيرها، لا للإستخفاف به وتسفيه أحلامه، وإلا ستكون وبالا على نظام الحكم ومعرقلة للعملية السياسية ومجافية للشعب الذي أبيحت أصوات أبناءه تحت ظلالها.
وإصطباغ هذه الآلية بصبغة الزين أو الشين، بعود ذلك لعدة سمات ومن أبرزها وأهمها الخطاب بجميع انواعه الدينية والسياسية والمؤسساتية والفردية، فإذا صلح الخطاب صلحت معه الديموقراطية، وإذا فسد فسدت معه.
وهو بمثابة القائد الخطير أو الربان والسائق الأمين لهذه الآلية الخطيرة الذي سيوجهها اينما يشاء، ويسمو بها وعلى ظهرها من ركب بها من علية القوم وسفراءهم لبلوغ الأهداف وتحقيق اماني الأمة، فالديمقراطية في العراق لاتقوم لها قائمة، إلا بإقامة وحدة الخطاب، وب” اعتصموا بجبل الله جميعا ولا تفرقوا”.
وصدق أمير المؤمنين وبعسوب المسلمين وهو القائل (ع) “وإنما أنتم إخوان على دين الله مافرق بينكم إلا خبث السرائر وسوء الضمائر”.

أحدث المقالات