18 ديسمبر، 2024 6:27 م

الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ -الحلقة الخامسة

الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ -الحلقة الخامسة

تداعيات الثورة الصناعية

يقلد اللبراليون ومعهم عدد غير قليل من الماركسيين واليساريين البرجوازية الأوروبية وساماً رفيعاً لدورها التأريخي المزعوم في بناء الديمقراطية البرلمانية، الأمر الذي يتطلب وقفه تأمل وقراءة منصفة للمسار التأريخي لتطورها. تستند الرؤية الليبرالية إلى الشعارات التي رفعتها الثورات البرجوازية ( الثورة الإنجليزية 1688 م ، والأمريكية 1775-1776 م ، والفرنسية 1789 م ) ، شعارات تدعو إلى الحرية والمساواة وحكم الشعب ، وهي تتغاضى -أي الرؤية اللبرالية – عن حقيقة أن المفردات التي تضمنتها تلك الشعارات لم تكن لتعني آنذاك تماماً ماتعنيه اليوم، فالمواطنة التي تترتب عليها الحقوق الممنوحة مشروطة بالعتبة القانونية لملكية الفرد، أي أن المشاركة بالعملية الديمقراطية مقصورة حصراً على أصحاب الملكية ، أما أولئك الذين لايملكون سوى قوة عملهم فليسوا سوى رعايا.

حتى بدايه القرن التاسع عشر لم يشمل حق الإقتراع سوى 3% من الرجال البالغين في بريطانيا، 4% من البالغين البيض في أميركا، وهناك قوانين في كلا البلدين تمنع حرية التجمهر والإجتماع والتظاهر وتنظيم النقابات والإضراب عن العمل، وحريه التعبير مشروطة بعدم المساس بالدولة أو أي من رموزها. أما في فرنسا فجماهيرية الثورة ألتي تميزت بإشتراك أغلبية فئات وطبقات الشعب، قد تلزم البرجوازية الحاكمة -ممثلةً بالجرونديين -على فتح أبواب المشاركة للجميع مكافأةً لاشتراكهم وتضحياتهم في الثورة، إلا أنها قسمت بدل ذلك الشعب ألى أربعة اصناف حسب دستور 1791 م يتحدد مقدار الحريات الممنوحة لهم حسب حجم ملكيتهم.
بأتباع الجرونديين سياسة السوق الحرة غير المقيدة دخلت البلاد في أزمة إقتصادية إلى حد إنتشار المجاعة، الوضع الذي استغلته الطبقة الوسطى _ ممثلةً باليعاقبة -لكسب شعبية كبيرة مكنتها من إستلام السلطة، فأصدرت دستوراً جديداً ألغى شرط الملكية، ونص على المساواة الكاملة ولكن على الورق فقط، فقد تم تعطيل الدستور إلى حين القضاء على ” أعداء الثورة ” في الداخل والخارج. وأصبح الإرهاب لغة اليعاقبة الوحيدة فسادت الفوضى في البلاد مما مكن البرجوازية -ممثلةً بالثرمودوريين -بالعودة ألى الحكم لتستعيد شرط الملكية للمشاركة السياسية في دستور يميني محافظ.

لا تهدف تلك المقدمة إلى طمس الدور التأريخي للبرجوازية في تأسيس الديمقراطية البرلمانية، فلا ينكر أن شعاراتها قد اجتذبت الطبقات الشعبية لتقويض نفوذ النبلاء ووضع اللبنات الأولى للديمقراطية، إلا أنها ما إن حققت هيمنتها حتى اغلقت الأبواب بوجه القوى الطبقية والإجتماعية التي تنامى نفوذها في أعقاب الثورة الصناعية بل قاومت وبالعنف أحياناً كل الحراكات والأنشطة السياسية المطالبة بتوسيع مجال الحريات والمشاركة الديمقراطية.
الديمقراطية البرلمانية التي إكتمل نضجها بتطور تدريجي في القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، لم يتحقق دون صراعات وثورات وتضحيات كبرى أجبرت الرأسمالية الحاكمة على التنازل وتشريع الإصلاحات تباعاً ” فالديمقراطية سليلة الثورات ” بتعبير جورج نوفاك.
الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا ثم انتشرت في أوربا وأميركا واليابان قد أحدثت تغييرات بنيوية بإعادة تشكيل التركيبة الطبقية للمجتمع، وستكون لها انعكاسات هامة في مسار تطور الديمقراطية خاصةً في بريطانيا.

نشأة إتحادات العمال ودورها في الإصلاح الديمقراطي:

دخول المكننة الزراعية في المقاطعات الكبيرة ذات الإنتاج الغزير وقليل الكلفة، لم يترك مكاناً لصغار الفلاحين في السوق التنافسية مما إضطر معظمهم للعمل بالأجر لدى الرأسماليين في الريف، وينطبق ذلك أيضاً على أصحاب المهن في المدينة كالنجارين والخياطين والإسكافيين وغيرهم، فقد كانوا قبل الثورة الصناعية يتمتعون بمكانة مرموقة ووضع إقتصادي جيد لمهارتهم وغلاء منتوجاتهم التي كسدت مع الإنتاج السريع للمعامل الجديدة فتحول معظمهم إلى إجراء. أما غير المهرة من العمال فلم يصبهم من التكنولوجيا سوى البؤس وشظف العيش، فبينما كان الرأسماليون منهمكين فيما دعاه ماركس ” التكديس البدائي للثروة”، كان العمال يصارعون العوز وفقر الحال، أجور زهيدة وساعات عمل طويلة بمعدل 14 ساعة للبالغين، 11 ساعة للأطفال بعمر السادسة فما فوق، وقد كان أمراً مألوفاً أن يختطف الموت الأطفال مبكراً بسبب حوادث العمل أو الإعياء والمرض وسوء التغذية (رواية أوليفر تويست لتشارلس ديكنز تغني عن وصف الوضع المزري لأطفال العمال آنذاك) ناهيك عن حرمانهم التعليم. من رحم هذا الواقع برزت الحاجة إلى تنظيم العمال أنفسهم ضمن جماعات ضغط للمطالبة بالحقوق المهنية والسياسية، وقد ساعد على ذلك القدرة على التواصل فيما بينهم لوجودهم باعداد كبيرة ولساعات طويلة في معامل مكتظة. اقتصرت نقابات العمال في البداية على العمال المهرة لتمتعهم بوعي أكبر، ثم شملت كل العمال حتى أصبحت إتحادات العمال قوة مؤثرة، وقد تميز القرن التاسع عشر بأنتشار الحركات والأحزاب الإشتراكية أيضاً.

يعتبر العام 1830 م نقطة فاصلة في تطور الوعي العمالي في بريطانيا، فرغم تحريم القوانين للأنشطة النقابية والسياسية، لم تتوقف الإضرابات والتظاهرات المنظمة بتنسيق بين الإتحادات العمالية واللبراليين من الطبقة الوسطى والتي تطالب بتوسيع ألمشاركة الديمقراطية بجانب المطالب المهنية، فقد أدرك العمال أن لا إستجابة لحقوقهم المهنية دون تمثيلهم سياسياً. فماذا كان رد البرجوازية الحاكمة؟.
كان على البرجوازية الحاكمة أن توازن بين أمرين، فمن جانب لم تشأ اشراك الطبقات الدنيا بالحكم خشية أن تفقد مفاتيح التحكم بالعملية السياسية وإدارة الصراع الطبقي، ومن جانب آخر قلقها من أن يفضي عدم الإستقرار إلى ثورة، خاصةً وهي تراقب مايجري في فرنسا حيث سلسلة من الثورات والعنف، وقد شاع القول آنذاك ” إن عطست فرنسا اصيبت أوروبا بلفحة برد “، لذا ضربت بيد بالعصا الغليظة عبر إعتقال وإغتيال قادة المعارضة وكسر الإضرابات، وقدمت باليد الأخرى جزرة صغيرة تمثلت بقانون 1832 م الإصلاحي. قانون 1832 لم يلغ شرط الملكية للإقتراع، بل خفض حجمها القانوني مما سمح للطبقة الوسطى بصعود المسرح السياسي تاركاً العمال في عزلة الكواليس. ربما كان القانون محاولة لكسر التحالف بين الحركات العمالية واللبراليين من الطبقة الوسطى.
عدم الإستجابة لمطالب العمال وحرمانهم من التصويت والتمثيل السياسي، لم يثنهم عن مواصلة الكفاح بكل الوسائل بما فيها الأطر القانونية، فقد شهدت تلك الفترة إغراق أروقة مجلس العموم بعرائض المطاليب التي لم تجد إذناً صاغية من المجلس، وهذا مادعا إلى تشكيل الحركة الشارتية chartism وهي حركة سياسية عمالية تقودها مجموعة من أتباع الإشتراكي المثالي روبرت أوين. أعلن الشارتيون عن وثيقة حقوق مقترحة تطالب بحق التصويت للجميع بغض النظر عن الملكية، على أن يكون الإنتخاب سنوياً وسرياً تجنباً للرشوة وشراء الأصوات وإبتزاز الناخبين (الحالة السائدة آنذاك)، ومنح أعضاء البرلمان راتباً لتجنب الفساد الإداري. نظمت الحركة ندوات ومظاهرات ومجالس تثقيفية، وأصدرت الكثير من المنشورات حتى اكتسبت شعبية لم تنلها حركة من قبل، ورغم قمعها وإعتقال قادتها ومحاربة العمال من أعضائها برزقهم، إلا أن الحركة تمكنت من جمع ملايين التواقيع لتأييد وثيقتها، غير أن البرلمان رفض الوثيقة بحجة أن التواقيع مزورة.
رغم حل الحركة بقيت افكارها رافعة للوعي السياسي، ومنطلقاً لإستمرار كفاح الطبقات المهمشة لإشراكها في صنع القرارات السياسية، إلى الحد الذي إضطر فيه دزرايلي رئيس الحكومة اليمينية إلى طمأنة أعضاء حزبه في البرلمان قائلاً ” إن وجد العامل في بيته طعاماً وكساءً وعملاً دائماً فلا تخشوا صوته أؤكد لكم إنه سينتخبنا “، يكشف تصريح دزرايلي خشية الطبقة الحاكمة من أن العمال سيصوتون للحركات العمالية فيما لو سمح لهم بالإقتراع. بعد تصريح دزرايلي أقر البرلمان قانون 1867 م والذي منح حق التصويت للعمال المهرة فقط.، وهكذا يستمر تطور الديمقراطية وفق المنطق ذاته، أي كلما تعرضت البرجوازية الحاكمة لضغوط الحراكات العمالية واللبرالية اصدرت قانوناً اصلاحياً جديداً حتى إكتمال نضج الديمقراطية البرلمانية عام 1969 م مروراً بالقوانين : 1872 م قانون سرية الإقتراع، 1883 م المعاقبة على شراء الأصوات، 1911 م إلغاء حق الفيتو لمجلس اللوردات ، 1918 م حق التصويت لكل رجل بلغ 21 عاماً وكل إمرأة بلغت 30 عاماً، 1928 م مساواة الرجل مع المرأة بالعمر الإنتخابي، 1969 م التصويت الشامل لكل من بلغ 18 عاماً .

لم يكن إختياري للتجربة البريطانية بسبب كونها مهد الديمقراطية البرلمانية فحسب، بل لأن مسار بنائها لم يتخلله الكثير من العنف، ورغم ذلك لم ترخ البرجوازية الحاكمة قبضة احتكارها للحكم إلا تحت ضغوط هائلة من قبل الحركات الإشتراكية والليبرالية (بلغة الطبقات البرولتاريا والبرجوازية الصغيرة). أما أوروبا فلم تر الديمقراطية النور إلا بعد ثورات سالت دونها الدماء، فحسبنا أن نتحدث عن ثورات 1848 م التي انطلقت في فرنسا ثم تمددت لتشمل معظم دول أوروبا، وكان لماركس وأنجلز دور رئيسي فيها. انطلقت تلك الثورات بالتنسيق بين الأحزاب الإشتراكية والشيوعية واللبرالية مطالبةً بالحريات والحقوق الدستورية والعدالة الإجتماعية، وقد تم قمعها بوحشية.
بإستثناء فرنسا لم تحقق الثورات اهدافها مباشرةً، إلا أن الطبقات الحاكمة أدركت عدم قدرتها ألإستمرار بأنظمتها السياسية بعد الآن، خاصةً أن اللحاق بالتقدم الصناعي الذي حققته بريطانيا لا يمكن إنجازه دون ترتيب اوضاعها الداخلية،و لذا انهت دول شرق أوروبا ووسطها نظام القنانة، كما قرر الأباطرة والملوك الحكم وفق دساتير تمنح المواطنين بعض الحقوق والحريات المدنية.

الديمقراطية البرلمانية ليست الإبن الشرعي للرأسمالية بل ثمرة صراع طويل للطبقات المهمشة في سعيها لإنتزاع حقوقها وتجذير الديمقراطية وتحقيق العدالة الإجتماعية منذ بدايات القرن التاسع عشر، وقد كتب انجلز في أصل العائلة (النسخة الإنجليزية) ” الصيغة المثلى للدولة -الجمهورية الديمقراطية -أمست شيئاً فشيئاً ضرورة لابد منها ضمن طبيعة العلاقات الإجتماعية المعاصرة، انها الدولة الوحيدة التي سيجري ضمنها الصراع الأخير والحاسم بين البروليتاريا والرأسمالية “.