18 ديسمبر، 2024 5:43 م

الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ

الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ

الحلقة الأولى
مقدمة:
بهدف الترابط العضوي للموضوع سأعمد إلى إعادة المقدمة في كل حلقة.

يعمل النظام السلطوي على مبدأ القوة الطاردة المركزية التي تلقي بعامة الشعب على هامش الفعل السياسي والإجتماعي والثقافي،بينما تبقي على حفنة من السياسيين في مركز صناعة القرار لتحتكر عملية البناء والتخطيط والإدارة، مما ينتج عن اعتلالات بنيوية خطيرة، تتمثل في هشاشة المؤسسات وتوتر الصراع بين الطبقات والفئات الإجتماعية والكيانات الثقافية،وقطيعة أو شبه قطيعة بين الأمة والدولة. بالمقارنة تعمل الديمقراطية بصيغتها المثالية على مبدأ الاحتواء لا الإقصاء، فهي تخلق فضاءات واسعة لمشاركة وتفاعل الجميع للوصول إلى حلول وسطية، من شأنها خلق حالة توازن بين مصالح الطبقات والمكونات الإجتماعية والثقافية، وبهذا تنتج مجتمعاً متماسكاً، وتفتح قنوات تواصل فعالة بين الأمة والدولة.
من نافل القول أن الأنظمة الديمقراطية هي الأمثل في إدارة الحكم وبناء المجتمعات، إلا أن فجوةً واسعة تجدر دراستها بين صيغتها المثالية والواقع الحقيقي للتجارب الديمقراطية، منذ مهدها الأول في أثينا إلى الديمقراطية المعاصرة التي تخفي ملامح شيخوختها خلف ماكنتها الإعلامية العملاقة، فبينما تعد الديمقراطية بتساوي الفرص للجميع ، يظهر جلياً أن البعض أكثر تساوياً من الأخرين حسب تعبير جورج أرويل الساخر.
إذا كان ماركس قد اشاد بالديمقراطية على اعتبارها مشروعاً حضارياً رائداً، فإنه لم يتوقف عن نقد الطبقة الحاكمة في تسخير آلياتها لشرعنة استغلالها وتغليب مصالحها على حساب عامة الشعب.

ديمقراطية أثينا :
تمتعت أثينا ق.م بتعدد مصادر ثرواتها من الفضة والإنتاج الغزير للحبوب وأشجار الزيتون والفواكه وأعداد هائلة من العبيد كقوة عمل شبه مجانية، إلا أن توزيع الثروة كان مجحفاً ، فقد استأثر الأرستقراطيون بالثروة وتمادوا في إستغلال الفلاحين،وقد مكنهم من ذلك مكانتهم الإجتماعية ونفوذهم السياسي وثرائهم الموروث بالنسب، والأهم من ذلك احتكارهم للدور العسكري في الدفاع عن المدينة وغزو المدن المجاورة، مما يشعرهم بالفخر ومشروعية الهيمنة على النظام السياسي. تجدر الإشارة هنا إلى أن من ينخرط في جيش أثينا آنذاك عليه أن يقتني من حسابه الخاص العدد العسكرية من عربات وأحصنة وبدلات معدنية ودروع وما إلى ذلك مما لم يكن بمقدور الفقراء شرائها، ومن ينضم للجيش من الفقراء يحتل مواقع غير قتالية ولا أهمية لها، فلا يكسبهم دورهم العسكري أي نفوذ ولا ينوبهم من الغنائم إلا الفتات رغم معاناتهم وقد تركوا أراضيهم بلا زراعة وخلفوا عوائلهم تتضور جوعاً.
بتكدس الثروة لدى الأغنياء وتدهور الحالة المعيشية للأكثرية من عامة الشعب، شهدت أثينا في القرن السادس ق.م أزمات إقتصادية حادة، فانتشلت المجاعة إعداداً كبيرة من الفلاحين ، وعم عدم الإستقرار وإختل الأمن وتراكمت الديون على الفلاحين حتى باعوا أنفسهم عبيداً للأغنياء.
من تقاليد أثينا في الأزمات أن تختار الأرستقراطية حاكماً تمنحه الصلاحيات المطلقة لعبور الأزمة، وقد اختير هذه المرة القائد الحكيم صولون الذي سيضع اللبنة الأولى لأول تجربة ديمقراطية في التأريخ.

ألغى صولون ديون الفقراء وحرر من باعوا أنفسهم عبيداً للأغنياء، وهي إجراءات سبقه إليها ملوك بابل في أزمات مشابهة في بلاد ما بين النهرين .( المفارقة المحزنة أن الإدارة الأمريكية في أزمة 2008 قد كافأت من كانوا سبباً في الأزمة من المصارف الخاصة وحيتان المال بمبلغ 700 مليار دولار ، بينما تركت ضحاياهم من الفقراء تحت رحمة المصارف التي صادرت بيوتهم لعدم مقدرتهم على دفع ديونهم )
لم يكتف صولون بذلك بل وضع دستوراً جديداً لتشكيل نظام سياسي سيكون فيما بعد أساساً لبناء الديمقراطية المباشرة.
حسب حجم الملكية وريعها السنوي قسم صولون مجتمع أثينا إلى أرستقراطية عليا، ووسطى ودنيا وأخيراً عامة الشعب وهم الأغلبية التي لا ملكية لها سوى قوة عملها. يتيح الدستور للعامة التصويت والنقاش في الجمعية العامة والمحاكم الشعبية ولكن لا يحق لأفرادها تسنم أي منصب أو وظيفة في الدولة فهى من حق الأرستقراطيين فقط، ويشغل المنصب بالقرعة على أن يكون اشغاله لمدة محدودة لإتاحة الفرصة للآخرين.
تبدأ مراحل عمل نظام صولون بإجتماعات يومية للمجلس التشريعي الذي يضع مشاريع مقترحة لكل ما يتعلق بالعلاقات الخارجية والحروب وبناء الجيش والمدينة وتوزيع الغذاء، ثم تجتمع الجمعية العامة -التي تضم العامة أيضاً – كل عشرة أيام لمناقشة المشاريع المقترحة من قبل المجلس التشريعي والمصادقة عليها ، بعد ذلك يقوم المجلس التنفيذي بوضع الآليات المناسبة للتنفيذ وإحالتها إلى دوائره الفرعية للعمل على انجازها.أما أحقية المشاركة في العملية الديمقراطية فتقتصر على البالغين الذكور من الأثينيين الأصلاء، ويستثنى منها العبيد ومن تحرر من العبودية حديثاً والنساء والمواطنون الذين تعود أصول أسلافهم إلى مدينة أخرى.
من الجدير بالإشارة أن صولون كان يهدف من بناء الديمقراطية حماية طبقته الأرستقراطية وتعزيز نفوذها كما عبر عن ذلك بوضوح بقوله:
” سيكون للعامة من المكانة مايكفي لحفظ كرامتهم وليس أكثر، أما الذين يتمتعون بالنفوذ والثراء الكبير فسوف احميهم من أي أذى، سأقف حاجزاً بين الطبقتين ولن اسمح لأحدهما بالتجاوز على الأخرى دون حق”.( سيرة صولون /بلوتارك ).

لم يستمر العمل بنظام صولون من بعده، فقد تناوب على حكم أثينا عدد من طغاة الأرستقراطية، وكان طموحهم في الحروب والتوسع قد ولد الحاجة إلى التوسع بالجيش والأسطول البحري، مما دعا إلى تجنيد وتدريب وتسليح أبناء الفلاحين. كان ذلك منعطفاً تاريخياً هاماً اكسب العامة نفوذاً وقوةً لا يمكن للارستقراطيين تجاهلهما، وقد حانت الفرصه الذهبية للثورة عام 508 ق.م حين تآمر عددٌ من الأرستقراطيين مع جيش اسبارطة للإطاحة بحاكم مدينتهم كليسثنيس الذي كاد ان ينهزم لولا دعوة العامة لنصرته ، واعداً بالرجوع إلى نظام صولون مع تعديلات لصالح الفقراء،وقد تم له النصر بهم وبر هو بوعده.
قسم كليسثنيس مجتمع أثينا إلى عشر قبائل على أساس مناطقي لا طبقي، على أن يكون المجلس التشريعي مؤلفاً من 500 عضواً عشرة من كل قبيلة، وقد منح حق الترشح للعامة إلى أي منصب أو وظيفة، وبهذا وفر النظام الجديد – ولو نظرياً- حقوقاً متساوية في المشاركة السياسية، فهل كان الأمر كذلك حقاً؟.
ما حفظ من التراث الإغريقي يشير إلى أن جميع الأسماء التي استلمت مناصب مهمه كانوا من الطبقة الأرستقراطية، ويشير أيضاً إلى تحالفات بين العوائل ذات النفوذ بما يشبه اللوبيات أو الأحزاب لتوظيف آليات الديمقراطية لصالحها، أما اجتماعات الجمعية العامة فقد هيمن عددٌ قليل من الأرستقراطيين على المناقشة وإبداء الملاحظات لمقدرتهم الخطابية ومستوى التعليم الذي يتمتعون به والذي لم يكن متاحاً للفقراء لتكاليفه الباهظة، فقد فتح آنذاك باب الإرتزاق لمعلمي المدرسة السفسطائية الذين تتلمذ على أيديهم السياسيون لتعلم تقنيات التأثير على عقول البسطاء ليس بالخطابة والإلقاء والتلاعب بالألفاظ فحسب، بل بإستخدام سفسطة فلسفية تقنع المتلقي أن القمر مثلاً مستطيل الشكل رغم اننا نراه مدوراً. بتوظيف تلك الأساليب والنفوذ والمال أصبح الفساد السياسي ظاهرة مستشرية يزخر بوصفها الأدب الإغريقي وخاصةً المسرحيات الساخرة لارنستوفانيس ( مسرحية الفرسان،السلم ، السحب، الضفادع….ألخ)، ربما يكون تفشي الفساد وتضليل البسطاء هو مادعا افلاطون إلى رفض النظام الديمقراطي والدعوة إلى حكم نخبة الفلاسفة والعلماء، ألم يحكم على استاذه سقراط بالموت في محكمة شعبية ضللتها بروباجندا السياسيين بإدعاء أنه يشكل خطراً على وعي الشباب والعملية الديمقراطية؟،وحقيقة الأمر أنهم لم يحتملوا انتقاداته اللاذعة للسياسين وتعرية جهلهم بأسئلته الملحة عن جوهر العدل والحق والحقيقة وما إلى ذلك.

ما تقدم من عرضٍ تأريخي موجز يوضح بجلاء أن الديمقراطية ليست هبة تمنحها الطبقة المهيمنة مجاناً، انما هي صورة عن مستوى الصراع بين الطبقات والقوى الإجتماعية في المجتمع ، وإن ما تنتزعه الطبقات الشعبية من حريات وحقوق سياسية يعكس مدى نفوذها وأهمية دورها بتماسكها وأهليتها الثقافية كقوة ضاغطة.