هناك إعتقاد سائد لدى العامة, بإن الديمقراطية تعني مصاردة الرأي المخالف للحاكم, ومن ضمن تعريفاتها التي يتقوّل بها كل من هب ودب: إنها حالة واحدة تعطي الحق لمن يحوز أكثر الأصوات بالحكم”..بغض النظر عن شكل النظام, وظروف البلد.
تشترك الديمقراطية في مضمونها أو إطارها العام, بالمشاركة الجماهيرية في صنع القرار؛ غير إن المشاركة تتخذ أشكالاً مختلفة, تعبرّ عنها أنواع الأنظمة التي تعتمدها الديمقراطية؛ فمثلاً في النظام الرئاسي يختار الجمهور رئيس الجمهورية بطريقة التصويت المباشر لمرشح ما, وضمن السياقات الدستورية المعتمدة في تلك الدولة.
تلك الحالة, لها تفصيلات دقيقة, لكن يبقى إطارها العام في سياق إختيار الشخص الخاضع لشروط الترشيح, والذي يحصل على نسبة محددة من أصوات الناخبين..
ما يهمنا هو النظام المعتمد في العراق, والمعمول به في العديد من دول العالم المتقدم؛ وهو النظام البرلماني, الذي يعطي حق الشعب في إنتخاب ممثليه للبرلمان, هذا الحق الشعبي, يتوقف عند هذا الحد, ولا يمكن إشراك الناخب في تشكيل الرئاسات التشريعية والتنفيذية.
سبب اللغط..!
بإعتقادنا, إن الإعلام العراقي لا زال قاصراً, ومقصراً في أحيان كثيرة في ممارسة دوره التوعوي والذي يهيء ذهنية الشعب لفهم صحيح لشكل النظام وطبيعة الحكم..إضافة إلى غياب دور الطبقة الوسطى من أي مساهمة في القيام بالدور المطلوب, والهادف لإنضاج الرؤية الشعبية لمتطلبات كل مرحلة, بعيداً عن الكلمات البائسة التي تستهدف عاطفة المتلقي دون عقله.
من الفائز..؟!
الكلمة تحتاج لمصاديق, بغية عكسها للأمر الواقع؛ لا داعي للتفصيل, فكل من تجاوز العتبة يكون مصداقاً للفوز والنجاح..في النظام البرلماني, ضمن الدول المستقرة, لا يمكن (أحياناً) تشكيل حكومة من (نصف زائد واحد), لذا يصار في هكذا حالات إلى تشكيل حكومة إئتلافية تضم مجموعة من الكتل تتفق على برنامج محدد؛ إما في حالة الدول المربكة التي لم تصل لمرحلة الإستقرار, سيما في العراق, حيث الإختلاف المذهبي والعرقي, والذي يؤهل تلك المكونات لتعطيل الدولة, فالجغرافية الموزعة بينها؛ لذا يجب اللجوء إلى الديمقراطية التوافقية لشمول جميع الجغرافية العراقية تمثيلاً داخل تلك الحكومة وتطمين المكونات الأخرى عبر إحتوائها ضمن بنية الدولة.
الإنتخابات العراقية, لم تفرز كتلة قادرة على الذهاب بمفردها لتشكيل الحكومة, ناهيك عن صعوبة الإنفراد في ظل الظرف الراهن الذي يتطلب من الجميع تحمل المسؤولية وإشراك أكبر قدر ممكن من الفرقاء..الحديث عن كتلة منفردة تقوم بمهمة تشكيل الحكومة, حديث مردود دستورياً, ولا يقوم على أي أسس عقلانية, فكيف لمن يمتلك أقل من ثلث المقاعد الفوز بالحكم؟!
الأمر يحتاج إلى توافقات, وتنازلات عابرة للإعتبارات الشخصية, ومنطلقة من المصلحة العامة, فضلاً عن كون مفاوضات التشكيل قد يرافقها إعتراض على شخص ما!..
إن تلك التوافقات تسير بمنحيين؛ الأول توافق وطني على شخص المرشح لرئاسة الحكومة, وهذا ما طالبت به المرجعية الدينية بقولها “تشكيل حكومة واسعة التمثيل” أي تضم كافة الأطياف العراقية وهذا لا يحصل دون حدوث تنازلات متبادلة. الأمر الثاني, هو تشكيل كتلة أكبر داخل مجلس النواب, تستطيع حصر المرشح ضمن مكون معين, وتسهيل عملية التفاوض لإنتاج حكومة قوية..من يمثل تلك الكتلة؟.
الوطني والقانون..من الأكبر؟!
لم يشر كتاب المحكمة الإتحادية, أو ينوّه إلى وجوب تقديم طلب لتحديد الكتلة الأكبر؛ إنما وحسب تفسير المحكمة سنة 2010 “إما الكتلة التي تكوّنت بعد الإنتخابات من خلال قائمة واحدة, دخلت الإنتخابات بأسم ورقم معينين وحازت على العدد الأكثر من المقاعد, أو الكتلة التي تجمعت من قائمتين أو أكثر من القوائم الإنتخابية التي دخلت الإنتخابات بأسماء وأرقام مختلفة ثم تكتلت في كتلة واحدة في مجلس النواب, إيهما أكثر عدداً, فيتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشح الكتلة النيابية التي أصبحت مقاعدها النيابية في الجلسة الأولى لمجلس النواب أكثر عدداً من الكتلة أو الكتل الأخرى بتشكيل مجلس الوزراء”..وفق هذا التفسير, فإن التحالف الوطني هو الكتلة الأكثر عدداً, ولعل الإعلان الرسمي الذي تلاه رئيس التحالف, وبحضور جميع قادة التحالف الوطني, ومن على أغلب الفضائيات؛ يعد قرينة إثباتية قوية, يتعامل معها القانون والمحاكم.
من جهة أخرى, فأن الكتلة المكونة لدولة القانون, وأبرزها كتلة بدر وكتلة مستقلون, أعلنت إنسجامها التام ضمن إطار التحالف الوطني, ولرئيس كتلة بدر النيابية عبارة صريحة جداً ولا تحتاج لتفسيرات أو تكهنات “إن كتلة بدر الكتلة الثانية في دولة القانون, وسنسعى لتماسك دولة القانون, ضمن إطار التحالف الوطني الذي نسعى أن يتحول إلى مؤوسسة فاعلة”..من هنا يتضح, إن أي لغط يدور حول الكتلة الأكبر, يجافي الواقع, لذا فموضوعة الكتلة الأكبر محسومة لصالح التحالف الوطني.
التحالف يختلف..والمرجعية توّجه!
لا يمكن إختزال دور المرجعية الدينية, في سطور, غير إن الدستور ضمن لها حق النصح والإرشاد, وهذا الدور يأتي من ثقة الشعب والقوى السياسية, بقدرة المرجعية على التأثير المباشر, وطريقة تعاملها الحكيمة مع الجميع..بعض الإعتراضات تبني موقفها على فهم خاطئ لمعنى مفهوم الديمقراطية, فأي نظام لا ينسجم مع الدستور, يفقد شرعيته؛ بيد إن الدستور وفي المادة الخامسة عشر ذكر الدور المرجعي في تفكيك الأزمات والتدخلات الحاسمة “للمرجعية الدينية إستقلاليتها ومقامها الإرشادي كونها تمثل رمزاً وطنياً ودينياً رفيعا”.
الدور الإرشادي, تكرر بصراحة ووضوح في الإنتخابات الأخيرة وماتلاها من أحداث, إبتداءً من المطالبة بالتغيير, مروراً بفتوى الدفاع الكفائي, ووصلاً إلى الدعوة لـ “عدم التشبث بالمناصب, وإختيار حكومة ذات تمثيل واسع ومقبولية وطنية”.
ماذا تعني المقبولية الوطنية..؟!
المقبولية الجماهرية, في النظام البرلماني, قادرة على إيصال الشخص إلى قبة البرلمان, لكنها تفتقد إلى صلاحية تحديد من يترأس (البرلمان, الجمهورية, والحكومة) فتلك الإرادة الشعبية, تختزل بإرادة برلمانية تتكون من 328 نائب؛ هؤلاء هم من يختار رئيساً للبرلمان من ضمن أعضاءه, وهم من ينخبون رئيساً للجمهورية, وليس بالضرورة أن يكون المرشح قد وصل إلى البرلمان..الأخير يكلّف مرشح الكتلة الأكبر بتشكيل حكومة تحظى بتصويت البرلمان وموافقته, أيضاً لا يشترط أن يكون مرشح الكتلة الأكبر قد إشترك بالإنتخابات؛ بمعنى إنّ الحديث عن مقبولية شعبية, ناتجة من الإنتخابات البرلمانية, لا تغيّر بالمعادلة شيئاً؛ إنما المقبولية الوطنية هي التي تحدد شخص المرشح, وهذه تقوم على أسس مهمة, منها التجربة والحكمة, والشجاعة في الإعتراف بالأخطاء والقدرة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات, بغية تحريك الركود المصاحب للعملية السياسية, وهذا كله لم يتحقق طيلة الحقبة الماضة, فضلاً عن رغبة الأكثرية النيابية التي دخلت بشعار تغيير الحكومة.
الخطوط العامة معروفة, وتمثل خريطة طريق حاسمة لإختيار شخص الرئيس؛ فيتوجب على التحالف الوطني, المعني الأول بكلام المرجعية والمسؤول عن الوضع السياسي والأمني, البحث الجاد في رفض محاولات العودة إلى الوراء, والتخلص من عقدة الأشخاص وفرض القناعات الخاطئة, في مرحلة تاريخية لا يماثلها خطراً في تاريخ العراق المعاصر.