18 ديسمبر، 2024 8:16 م

الديمقراطية والمجتمع الإستبدادي!‏

الديمقراطية والمجتمع الإستبدادي!‏

يرى رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرتشل، الديمقراطية بأنها “أفضل الخيارات السيئة”، ‏وربما يقترب هذا الرأي الصادر من أعرق ديمقراطيات العالم، مع الرد الذي الذي أصدره صموئيل ‏هنتنغتون بكتابه “صراع الحضارات” على تلميذه فرانسيس فوكاياما الذي أعتبر النظام الغربي بنسخته ‏الأمريكي هو النهاية التي وصلتها البشرية في مسار العدالة، وهو بذلك يدلل على قيمة النظام الغربي في ‏إحلال السعادة على الأرض. صدام الحضارات يضع صيغة جديدة للصراع الإنساني، ولعله يحاول التدليل ‏على حركيّة التاريخ المستمرة ويرفض وضع حدّ لإنتاجية العقل. ‏
مع ذلك، تبقى الديمقراطية حلماً بشرياً تتوق إليه جميع المجتمعات التي تعاني غياب العدالة وإنعدام المساواة ‏وتردّي الحريات. بيد أنّ الأحلام، في كثير من الأحيان، تبقى خيالاً يداعب أجفان السهارى لإستجلاب النوم. ‏
إذا لم تعمل المجتمعات على إستحضار القيم الديمقراطية في حياتها اليومية؛ لن تفرز بيئات تلك المجتمعات ‏سوى مزيداً من الأنحراف والنزوح صوب الفوضى، فتحدث عملية تقنين وتشريع لجرائم كبرى يساعد ‏النظام الديمقراطي على ترسيخها وتعميقها بأعتباره نظام جبان في مواجهة المجتمع. ‏‎
فالتغيير الهرمي الذي يستهدف السلطة، يبقى قاصراً ما لم ينبثق من القاعدة، وهذه يجب أن تحمل مستوى ‏فهم مقارب لمستوى النظرية في النظام الديمقراطي، وفِي حال حدث مثل ذلك التغيير الهرمي، فهو ينجح في ‏حالة بقاء النظام الجديد مشابه في طبيعته للنظام القديم، وهنا يكمن سبب نجاح الإنقلابات العسكرية ‏والثورات الآيدلوجية التي تفرض لوناً واحداً من التفكير والتوجه، فآليات ووسائل الإنقلابات منسجمة مع ‏المجتمعات المستبدة ومفاهيمها في الغلبة وسيطرة الأقوى. ‏‎ ‎أما في حالة أختيار النظام الديمقراطي، فيجب مراعاة طبيعة المجتمع أو تطويره بالإتجاه الذي يضمن ‏إنسجامه مع النظام. ويأتي ذلك من خلال مقاربة نظرية معينة أو صياغة نظرية تتماهى مع النظام ‏الإجتماعي الذي يعد الأصل, فالدولة ومؤسساتها هي مرآة المجتمع، ولابد لها من شعب كأحد شروطها. وهذا ‏لا يعني إنزال النظام السياسي إلى مستوى الواقع الإجتماعي كما ليس العكس؛ إنما إخضاع النظرية ‏السياسية والواقع الإجتماعي وتطويع أحدهما للآخر بما يكفل الوصول إلى المنتصف بحيث تكون النتيجة ‏زوال الأعراف الديمقراطية المتقاطعة كلياً مع المجتمع، وإلغاء التقاليد والعادات الإجتماعية البدائية ‏والمتخلفة طوعاً للدولة.. بمعنى تحطيم المجتمع تشريعاته البالية والمتعارضة مع صيغة النظام الجديد، على ‏إعتبار ذلك التشريع حالة بدائية، وبوجود القانون المتطور الذي يتحقّق بوجود الدولة الديمقراطية، فلا داعي ‏لما هو بدائي. ‏
الديمقراطية لا تختزل بنظام سياسي فحسب, بل تشمل مجمل جوانب الحياة؛ لذا تتمظهر مشاكلها بعدم ‏الإستقرار التام وفشل محاولات الإصلاح, طالما بقي التقاطع بين البنية الثقافية للمجتمع والقيم السياسية ‏للنظام الديمقراطي للدولة. وهذا القطع العضوي في جسد الكيان, يؤسس لدولة منافقة مرهقة غريبة الأطوار ‏في أداءها. فالحكومة التي ينتجها المجتمع, تتملّق جماهيرها المشبعة بعادات إستبدادية, سواء كانت في ‏الريف أو المدينة.. وربما يظهر جلياً ذلك الإزدواج في المراس العشائري؛ إذ تعتبر العشيرة مظاهر التسلّح ‏والنزاعات المسلحة جزءاً من شخصيتها المعنوية ويرتبط بكرامتها وعزّتها وإستمرار نفوذها, وهي بذات ‏الوقت تشارك في صنع القرار السياسي عبر تأثيرها الحاسم في الإنتخابات التي تعد دعامة من دعائم ‏الديمقراطية. ‏
ثمة واقع آخر نعيشه بعمق غير ما نراه من المظاهر الديمقراطية, وهذا الواقع بحاجة إلى مواجهة شجاعة ‏تبدأ من تحرير النفوس من العقد المستحكمة والسلطات المعيقة لحركة التحرّر الإنساني بغية توفير الحد ‏الأدنى من شروط النظام الديمقراطي, وإلا فحركة التاريخ في العراق لن تأخذ شكلاً غير مسارها الدائري!‏