بهدوء، ودون ايٍ توتر، أو مزايدة، أو إنقاص من قيمة أحد. دعونا نناقش وضع العراق بعد إحتلال الولايات المتحدة الامريكية له، فقد جرى تغيير النظام بشكل بنيوي. أي تم إستبدال النظام المركزي الشمولي الذي ينتهج النظرية الاشتراكية، بنطام تعددي ديمقراطي ينتهج نظرية السوق. ولسنا هنا بصدد المفاضلة بين النظامين، ولا بشأن أي منهما الأحسن، لحياة، ومستقبل الشعب العراقي، وهل إن الإشتراكية التي كان ينتهجها النظام السابق، وبموجبها يحصل الفرد العراقي على إشياء متعددة بشبه المجان، كالماء ،والكهرباء، والهاتف، والوقود، والغذاء، والتطبيب، والدواء، والدراسة للأولاد من رياض الأطفال الى الدراسات العليا، والابتعاث الى خارج العراق. وكان حاله كحال ايٍ من الأنظمة الشمولية التي سادت ارجاء من العالم، ونعرفها جميعاً. ولكننا، وبعد أن غُيِّر النظام، بفعل تأثير خارجي، وقوى أجنبيه، نريد أن نتطرق الى مسألة التداول السلمي للسلطة ، وهي من الشروط التي توفرها الديمقراطية، بين القوى السياسية على إختلاف توجهاتها، والإنتقال السلس لأدوات الحكم من طرف الى آخر، وذلك إستحقاقاً، للدستور، الذي نص على ذلك بكل صراحة، بإعتبار، إن هذا المبدأ هو من أساسيات الحكم في الأنظمة الديمقراطية.
أن التجربة المريرة التي انتكست فيها مسيرة الديمقراطية، وحصل فيها خرقاً فاضحاً، كانت، إبتداءاً، في اصرار السيد نوري المالكي على التمسك بالسلطة، لتشكل هذه الحادثة نكوصاً في المسيرة الديمقراطية، سيذكره تأريخ العراق الى وقت طويل، فعندما أعلنت المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات فوز القائمة العراقية برئاسة السيد أياد علاوي، رفض السيد نوري المالكي رئيس إئتلاف دولة القانون، مبدئياً، نتائج الإنتخابات. مشككاً بزعم وقوع عمليات تزوير فيها، ومعلناً إنه سيجري مشاورات من اجل تشكيل كتلة نيابية تحظى بالأغلبية، تمكنها تشكيل حكومة إئتلافية. وكأن السيد علاوي لا يستطيع تشكيل مثل هذه الكتلة. مستنسخاً بذلك، أي السيد المالكي، تجربة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاة، في تحويل نتائج الإنتخابات لصالحة، مستخدماً ضد المعارضة الإصلاحية ذراع السلطة، والحرس الثوري، في ممارسات دموية، على مرأى ومسمع من العالم. فيما أعتمد، السيد المالكي، على قرار من المحكمة الدستورية العراقية، في تفسير الكتلة الأكبر، الفائزة في الإنتخابات، وكان من الأفضل، على المحكمة أن لا تعطي رأياً فيه، وتسجل بذلك، دالةً، للطرف الآخر في العراق، أي السيد علاوي وكتلته، أن قبلها على مضض، متجنباً تعريض حياة العراقيين الى أخطارٍ، أكثر مما هم عليه.
عندما نستذكر هذا الأمر، نريد أن نؤسس عليه، لأن الأحزاب الإسلاموية قد أعطيت فترة عقد ونصف من الزمن، لم تظهر خلال ممارستها للسلطة أنها تستطيع أن تحكم بشفافية، حكماً مميزاً، بمعالم واضحة للجميع، بل أنها قدمت، وللأسف الشديد، نموذجاً من الحكم غير الرشيد. نموذجاً متخلفاً، متداعياً، يفتقد الى أسس البناء، ويقدم تجربة، أقل ما يقال عنها، تجربة فاشلة بكل المقاييس. لم تستطع أن توفر للمواطن آمناً في ماله، وممتلكاته، ولا في أماناً على نفسه وعلى عائلته، وتعرض البلد، خلال فترة حكمها الى أكبر أنتهاك تعرض له في سيادته، حيث لم يعد قادراً، لا على حماية أرضه، وإجوائه، لا في صون حدوده، وتركت مدنه نهباً للإرهاب، ولا حتى في منع التدخل الأجنبي في قراره. ولم يشهد العراق، في ظل حكم هذه الأحزاب، أي تطور في المجال الاقتصادي، ولا في المجال الزراعي، ولا في المجال الصناعي الذي كان متميزاً، بل أضحت الدولة تعيش على هامش ريع النفط لا غير، حتى إن موازنة الدولة تقاس على سعر بيع النفط. كما إن التعليم، الذي يقاس عليه تقدم وتطور البلاد، اصبح في أردئ حال، ليتراجع حتى يصل الى إن دول العالم لم تعد تعترف بالخريج العراقي ولا بالشهادة العراقية، لإنحطاط التعليم، وتدني مستوياته. وتفشت الرشوة، وزادت المحسوبية، وتجذر سرقة المال العام، ولم تعد الأجهزة الأمنية قادرة على ردع المجرمين أو على فعل شيء، بفعل فسادها، أو تدني مهنيتها. ولم ينجو أي مرفق من مرافق الدولة من خلل فاضح أو مشين. هذه خلاصة تجربة الأحزاب الإسلاموية، فهي لم تقدم إلا تجربة فاشلة، ونتيجة لما قدمت، هي، فليس من حقها أن تطلب بمزيد من الوقت. ورحم الله أمرءاً عرف قدر نفسه.
الآن، وبعد هذا الحطام، والعراق مقبل على إنتخابات جديدة، نرى أن منطق الحال يقول، إن على العراقيين أن يضعوا لهم خارطة طريق، تبدأ، أولاً؛ بتغيير آلية الدوائر الإنتخابية، وبرفض إشكالية الإنتخابات المتمثل بالمفوضية العليا المستقلة للإنتخابات، والعمل على إستبدالها، بواحدة مستقلة، لا تدخل فيها المحاصصة، ولا الحزبية، ولا الجهوية، وإن يعتمد على تشكيلها من أطراف مستقلة، مشهود لها بالحيادية، والوطنية، والمهنية، وأن يعتمد في تشكيلها على أطراف متخصصة، وبإشراف الأمم المتحدة، سيما وإن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة يمارس دوره، وواجباته، لحد الآن في العراق. وأن تحظى المفوضية الجديدة بإحترام القضاء، من خلال مشاركة واسعة للقضاة في الإنتخابات.وثانياً؛ ان يأخذ الاعلام الوطني الحر بدوره المعهود به، في الوقوف الى جانب شعبه، في كشف من يريد بالعراق شراً، وأن يساند بكل ما لديه من قوة في تحقيق هذا المسعى، والاطاحة بقوى التخلف، والشر، في مسعى الى عدم ابقاء الحال على ما هو عليه، وأن يمارس دوراً تعبوياً كبيراً للشعب، وكسلطة رابعة. وثالثاً؛ العمل على أن يعلن الجيش ، وخاصة بعد أن عادت له هيبته بالإنتصارات الكبيرة على قوى الإرهاب، وكسر شوكته، ومعه جميع القوى الأمنية، وقوفها الى جانب الشعب، في مسعاه نحو أحداث أنتقال نوعي في مقاليد، وزمام الأمور، نحو الأفضل.
إن العراق، وشعبه، يستحقان حياة فضيلة، بل أفضل، وإنه لمن المعيب أن يبقيان الفترة السابقة بهذا التردي، يبيتان على ضيم، ويصبحان على قهر. وإن ابواباً من العزة، والكرامة، في ظل هذا السلوك في إدارة الدولة سوف تبقى موصدة، ولن تفتح له. وقد حان الوقت لقوى التحرر النيرة ، والمخلصين من أبناءه، أن يعملان على أن تخرج البلاد من هذا النفق المظلم الذي لم تعد له نهاية، ولا ضوء في آخره، تحت ظل هذه الأساليب المتخلفة، والبالية، في إدارة الدولة. وأن على من خاض هذه التجربة الفاشلة، أن يعترف بهذا الخطأ الذي كلّف البلاد الكثير، وضيع فرصاً لا يستهان بها، وأن لا تأخذه العزة بالأثم. فهذه هي شروط اللعبة الديمقراطية، الاعتراف بالهزيمة التي تلوح معالمها، والاقرار، بأريحية بالتداول السلمي للسلطة، والإنتقال السلس للحكم. وبعكسه، فإن اغتصاب السلطة، عبر أساليب باتت معروفة، والتأسيس لنظام أقل ما يقال عنه، غير ديمقراطي، هو بداية لمرحلة عنف، تزيد على مأساة العراق، مآسي أكبر.