أن المناورات السياسية التي تستهدف الحكومة العراقية ليست وليدة اللحظة، فقد مرّ عليها زمن ليس بالقصير لكنها وصلت الى ذروتها اليوم بالتزامن مع الظروف الحرجة والضاغطة التي يجابهها العراق، وتتجسد هذه المناورات فيما يقوم به الأضداد السياسيون من التفاف على الاستحقاق الانتخابي للسيد المالكي واستهداف للمنجز الديمقراطي المرتبط ارتباطا وثيقا وتلازميا مع مسار بناء الدولة في العراق الجديد .. وتسعى جميع هذه الأطراف لتصوير ما يجري من حراك مضاد على أنه محاصرة لخيار المالكي الطامح الى الولاية الثالثة. ومع أن الطموح المحسوب النتائج من حيث االقرب والبعد من المصلحة العامة والمنسجم مع النصوص الدستورية هو شرط أساسي في الشخصية القيادية لتكون قادرة على الانجاز، ألا أننا بصدد موضوع أبعد من ذلك وإن انطوى عليه، فهو بالطبع ليس خيارا خاصّا بالمالكي بل ومن حيث الاطار العام هو خيار ديمقراطي يُعد التنازل عنه استخفافا بالوعود التي أطلقها السياسي أمام الناخبين، أما مع ما يمر به العراق من وضع استثنائي خاص فيُعد مثل هذا التنازل بمثابة اطلاق رصاصة الرحمة على جمجمة النظام السياسي في العراق لتصبح الخيارات فيما بعد محصورة بين النكوص نحو الأساليب القديمة في إدارة وتداول السلطة أو تشظي العراق الى مراكز قوى متصارعة من الصعب حصر عددها وعديدها، تتدافع استقتالا على مراكز الثروة ومناطق النفوذ.
وتستدعي الضرورة هنا الى التذكير بأن الخلفية التي صنعت هذه المواقف المضادة للسيد المالكي من قبل اطراف التحالف الوطني الأخرى وعلى وجه الخصوص التيار الصدري والمجلس الأعلى تكمن في طريقة ادارة المالكي للأمور التي ألحقت بهم الضرر كثيراً، وأسهمت في تفكيك المناهج التجهيلية لكل منهما، حيث لم تمر مناسبة على السيد مقتدى الصدر إلا وتراه منهمكا يحث أبناء الشعب العراقي على مايرى فيه وسيلة للخلاص وهي (طاعتي طاعتي)، وأما السيد عمّار الحكيم فقد كان أكثر وضوحا في تحديد الكيفية التي تكون عليها الطاعة من خلال تلقين الحشود إهزوجة تعلو بها اصواتهم عند استقباله بهتاف (لبّيك يا حكيم)، وهو ما صدحت به الجماهير عند استقبالها الحكيم في أكثر من موقع وفي فترات مختلفة. وهناك اسباب أخرى تقف وراء المواقف المناوئة للحكومة تحكمها مصالح الطرفين (التيار الصدري/ المجلس الأعلى) مع أطراف خارجية، قد يُسهم تبني هذا الفعل المناوئ للمالكي في ديمومة تلك المصالح المادية لتغذية وجودهم السياسي.
في الحقيقة ان مشكلة السيد المالكي تكمن في ادارته للأمور خلال فترة حكمه بـطريقة تنطوي على شقين مزدوجين يحتملان التناقض للوهلة الأولى لكنهما متلازمين في الحالة السياسية العراقية لكي يتمكن الرجل الأول في البلاد من الشروع في بناء اللبنات الأولى للدولة وبلورة صورتها في العقل الجمعي للعراقيين على اختلاف انتماءاتهم، حيث أدار السيد المالكي الأمور بـ (أنفاس رجل الدولة/ التي تقيم الاعتبار لإستحقاقات الأغلبية) .. وهي في الحقيقة طريقة لاتحمل في طياتها أي صفة طائفية اطلاقاُ مقارنة بالنظام السياسي والنهج الديمقراطي المتبع، بل هي طريقة ادارية نابعة من رحم الواقع العراقي وتجسد الخصوصية التي لابد منها لمن لا يريد التفريط بالنظام الديمقراطي في مراحله الأولى أو الانسلاخ عن روح الواقع ومضامين الوقائع في العراق… أي رغم ما يبدو للمتابع من تناقض ظاهري في طريقة ادارة أمور الدولة لكنها تنطوي على تعاضد ضمني ايجابي جعله أكثر وضوحا ومكّنه من تحقيق درجة لا بأس بها من القبول على المستوى الشعبي لدى الفئات الأكثر استعدادا للانسجام مع المُثل الديمقراطية التي يدعو لها النظام السياسي في العراق الجديد.
لكن، وعلى العكس من ذلك فقد أنتج مثل هذا التوجه تعاضدا مضادا لحكومة المالكي على صعيد الأحزاب والتكتلات السياسية العراقية، وعلى سبيل المثال إصطدمت بعض الأحزاب الشيعية بالشق المتعلق بـ (أنفاس رجل الدولة) الذي انطلق منه في تفكيك الميليشيات التي استفحلت في الشارع العراقي بشكل يقزم الشخصية المعنوية لمنتسبي أجهزة الدولة ويجعل المواطن العراقي عرضة للإبتزاز، فضلا عن الخوف الناشئ لدى بقية المكونات العراقية من الشحن الطائفي والقتل على الهوية الذي مارسته هذه الميليشيات وخاصة ميليشيا السيد مقتدى الصدر والميليشيا التابعة للسيد الحكيم (ميليشيا بدر/ التي بقيت محتفظة بأسلحتها مواظبة على تدريبها رغم اعلانها منظمة مدنية)، اضافة الى ميليشيات مسلحة أخرى كانت تتقاسم النفوذ في بغداد وجنوب بغداد مع هاتين المجموعتين الرئيسيتين ليشكلا بالنتيجة معاً، الملاذ الآمن لقطاع الطرق والخارجين عن القانون والقتلة على الهوية في معظم الأحيان.. وقد كان من الصعب جدا على دولة فتية كـ (العراق) مجابهة هذا الحال، لولا طريقة الحُكم المشار لها، والشق الثاني منها خصوصا المتعلق في (اقامة الاعتبار لإستحقاقات الأغلبية) والذي فوّت الفرصة على الميليشيات وأفقدها القدرة على تعبئة الشارع الشيعي ضد الحكومة بذريعة (كفرها أو خروجها عن المذهب).
لذلك ليس مستغربا أن نرى المواقف المضادة من هذين الفصيلين اللذين جُردا من عناصر قوتهما على يد حكومة المالكي بطرق مختلفة، تارة بالمجابهة المباشرة وأخرى في تفكيك تلك الميليشيات من الداخل أو تحييدها ووضعها على سكة التآكل التدريجي.. إذن هو موسم الثأر من السيد المالكي وخاصة الشق المتعلق بأنفاس (رجل الدولة) الذي أدار به الأمور والذي لم يستفز هؤلاء فقط، بل تسبب أيضا في خلق الخصوم داخل المكوّن الكردي وتحديدا السيد مسعود البارزاني الذي لا يرى في مفهوم (الدولة العراقية) ولا يفهم من عبارة (حكومة بغداد) سوى شبحاً يطارده أين ما حلّ ورحل، أي كانت هوية الحاكم في بغداد أو الكيفية التي وصل بها الى الحُكم.
أما على الجهة الأخرى وفي المُكون السُني تحديدا، لاقى الشق الأول من اسلوب السيد المالكي في ادارة شؤون البلاد كـ (رجل دولة) ارتياحاً كبيرا لدى الكثيرون، وتفهّم الكثير منهم الشق الثاني من الاسلوب الاداري أي:(اقامة الاعتبار لاستحقاقات الأغلبية)، بوصفه الخزين الجماهيري الذي وصل من خلاله الى السلطة، ألا أن عناصر البعث الصدّامي والمسؤولين الذين خسروا امتيازاتهم بعد سقوط البعث المهان ودول اقليمية رفضت وترفض الاقرار بواقع النظام السياسي الجديد في العراق وتحديدا التطبيقات الديمقراطية وما تفرزه من نتائج تتيح الفرصة لوصول الاغلبية الى الحُكم.. هؤلاء مجتمعون تمكنوا من الإساءة بشكل كبير الى علاقة الحكومة بهذا المكوّن خصوصا وبقية المكونات بشكل عام، وبطرق لا حصر لها، بدءً بالتصعيد الأمني والقتل العشوائي، مرورا بإختراق اجهزة الدولة وإغراقها بالتقاير المضللة والاخباريات الكاذبة التي تذهب بالأبرياء الى السجون وليس انتهاءُ بالترويج ونشر الفساد الاداري لتعطيل وتبديد وسرقة الأموال المخصصة للمشاريع الخدمية، كما دأب بعض الممثليين السياسيين لهذا المكون الأصيل في الحكومة والبرلمان على افتعال الأزمات واعتماد شتى السُبل الملتوية والحقيرة لإحداث الوقيعة بين المكون السُني والنظام السياسي في العراق الجديد، وآخرها إتخاذ المالكي ذريعة لبلوغ الهدف بإطلاق تسميات تنال من قيمة الدولة العراقية مثل (جيش المالكي، سُنة المالكي، شيعة المالكي وهلمّ جرا)، فضلا عن ما أسفرت عنه الأحداث الأخيرة من تعاطف لم يكن متوقعا من قبل هذه الاطراف السياسية المشبوهة مع العناصر الارهابية لتنظيم داعش.
اضافة لما سلف فقد وصل الفريق المضاد على اختلاف مشاربه الى يقين تام بأنه أمام مفترق طرق بأن يكون أو تكون الدولة في العراق، خاصة وان السيد المالكي اليوم مع ما يمتلك من خبرة سابقة ومنجز انتخابي يؤهله لتشكيل حكومة انجاز وليس حكومة تعطيل كسابقاتها، قد اكتسب الحصانة من الإبتزاز وفرض الفاشلين عليه، وبمعنى آخر ان الفرصة مع المالكي غير سانحة لجني المناصب وحصاد الإمتيازات كما كان عليه الحال مسبقاً، في الوقت الذي لم يتوانى أي منهم لإستغلال أي منبر اعلامي للتشنيع بالأداء الحكومي واطلاق صفة الحزب الحاكم في تضليل مفضوح للرأي العراقي العام، في حين ان واقع الحال يشير الى ان التمثيل الحكومي لحزب الدعوة الذي ينتمي له رئيس مجلس الوزراء هو الأقل تمثيلا في الحكومة بالمقارنة مع الأحزاب والكتل السياسية الأخرى فقد اقتصر على وزارتين غير سياديتين (التعليم العالي/ المرأة) فقط ، إضافة الى رئاسة مجلس الوزراء (المكبّلة بالشروط والإشتراطات).
من جانب آخر، وعلى الصعيد الخارجي، يبدو ان صمود بغداد أمام الاستهداف الداعشي الأخير أثار حفيظة بعض الاطراف الخارجية، فالصمود بهذه الطريقة يشي بأن العراق قد اتقن خوض وحسم المعارك المصيرية وبشكل قد يجعله أكثر استعدادا للحد من الاعتداءات المتكررة من قبل دول الجوار المناوئة للنظام السياسي في العراق، وبالمقابل أقل حاجة واعتمادا على الدول الاقليمية الحليفة له التي تخشى هي الأخرى على ما يبدو من وصول الدولة العراقية الى مرحلة الندية في مسار بناء الدولة العراقية على يد المالكي و (الاسلوب المزدوج في الحُكم) الذي استطاع من خلاله اجتياز الشراك الطائفية الكثيفة بطريقة احتفظت معها الحكومة العراقية بأصوات نسبة من المؤيدين لها داخل المكونات العراقية على اختلاف انتماءاتها.. والحال ينطبق أيضا على بعض الأطراف الدولية التي من المحتمل ان يكون قد انتابها ذات الشعور بعد شروع العراق في تنويع مصادر اسلحته والدفاع عن نفسه بنفسه بالإتكال على الله وقدراته الذاتية دون انتظار الفرج من الغير أو عقد الآمال المفتوحة على الاتفاقيات الأمنية التي لم تغني ولم تسمن من جوع رغم أقسى الظروف وأصعب التحديات التي واجهت العراق في التاريخ الحديث.
بعبارة أخرى هناك تلكؤ واضح في الجهود المفترضة لدعم المسار الديمقراطي، وتنصل أوضح عن بنود الاتفاقيات الدولية التي يرتبط بها العراق مع دول كبرى، ويلتقي ذلك مع رغبة الاطراف الداخلية التي يرى البعض منها في هذه المناسبة فرصة للثأر من المالكي ويرى بها فريق آخر لحظة مناسبة لتوجيه الضربة القاضية للنظام السياسي في العراق الجديد، وبما يترك مجالا للإعتقاد بأن الخشية من وجود حكومة قوية غير مكبلة الصلاحيات تكاد تكون العامل المشترك بين الاطراف الداخلية والخارجية على حد سواء.
مع ذلك، فإن أبصارجميع هذه الأطراف ترنو اليوم نحو ما يمكن اعتماده من قبل رئيس جمهورية العراق.. فهل يعتمد الأفلام الفيديوية والاجتهادات الشخصية والاتفاقات الجانبية أم يعتمد النتائج الرسمية للانتخابات في تحديد هوية الكتلة البرلمانية الأكبر؟ في حين وكما يدركنا الفهم أن أي اتفاق (حتى وإن كان موثقاً بطريقة ما) يبقى في عداد النوايا مالم ينتقل الى مرحلة الفعل وفاقدا للصفة القانونية مالم يمر عبر سلطة القضاء المختص بالشأن المتفق عليه، أو على الأقل اشتراط وجود قانون مُقر سلفا يخوّل الطرفين ويحدد بشكل واضح الحقوق والواجبات بين الطرفين.. وعلى سبيل المثال (قانون الأحزاب العراقي) في الحالة التي نحن بصددها اليوم.. ويتعلّق فهمنا للأمور بهذا الشكل في الجانب السياسي، بقرينة أن الوعود السياسية من قبل المرشّح للناخب والمدونة فيديويا هي أيضا بمثابة اتفاق بين طرفين وتحتمل المسائلة القانونية في حال الاخلال بها، فذلك أيضا ما يمكن القول به اذا ما تم الاعتماد الرسمي من قبل رئاسة الجمهورية على تصوير فيديوي يزودها به المجلس الأعلى والتيار الصدري كبديل عن النتائج الرسمية للإنتخابات في تحديدها لهوية الكتلة البرلمانية الأكبر، مع تأكيد السيد المالكي لرفضه أية وثيقة تحمل توقيعه تعكس اتفاقا مع الآخرين تحدد الكتلة الأكبر، وحتى مع التوقيع على هكذا وثيقة أو التصريح في اجتماع ما، فهل هناك الزام قانوني للسيد المالكي بالإستمرار وعدم التخلي عن ذلك الاتفاق في الوقت الذي يدرك بأن هناك ما هو أفضل وأكثر اتساقا مع المصلحة العامة للبلد، طالما ان هذا الاتفاق بقي حبيس القاعات المغلقة ولم يتم الاعلان عنه رسميا في الفضاء الرسمي المخصص لهذا الغرض وهو الفضاء البرلماني الذي يعطي الحق للآخرين باطلاق التسمية التي أكدّها الدستور “الكتلة البرلمانية الأكبر”.. ولا ندري ان فعلها الرئيس اعتمادا على (القيل والقال) وأغلظ الأيمان والدبلجة الفيديوية عند تحديده الكتلة البرلمانية الأكبر، فهل يعد هناك للتطبيقات القانونية والدستورية من معنى وهل تنتفي جراء هذا الفعل مهمة الرئيس الخاصة بحراسة الدستور؟.
عموما يمكننا القول في وصفنا لما يجري اليوم، بأن محاولة سلب السيد المالكي استحقاقه الانتخابي هو بمثابة الشروع في عملية يراد منها التعطيل القهري للديمقراطية في العراق وبما ينجم عن التعطيل من تداعيات أكيدة نتيجة التلازم الحتمي بين التطبيق الديمقراطي وبناء الدولة في العراق الجديد.