18 ديسمبر، 2024 9:14 م

الديمقراطية في مفهوم وتجربة الأحزاب والحركات السياسية الشيعية

الديمقراطية في مفهوم وتجربة الأحزاب والحركات السياسية الشيعية

عُرف عن الفقه الشيعي ظاهرة التعدد في مرجعياته الدينية ، وبالتالي جعل موضوع الإجتهاد ، ركناً من أصلب  أركانه ، إذ طالما كان ظاهر الأمر يشير الى أن الفكر الشيعي لايؤمن بالتكفير ولايُخرج أحداً من ( الملّة) أيّاً كان مايتبناه من رأي .
ذلك ما اعتبر من الدلالات على ( ديمقراطية ) الفكر الشيعي وقدرته على التعامل مع مستجدّات الواقع السياسي في حال تسلّمه السلطة ، إذ ستتاح للحريات ان تعبّر عن نفسها وللتعدد أن يكون هيكلاً رئيساً في ثقافة بناء الدولة .
لكن النظرة المتفحصة الى المرتكزات الأساسية في النظرة الى موضوع الحاكمية في الفكر الشيعي ، تؤكد انه يعتمد كذلك (1) على (الحقّ الإلهي ) الذي أوصى نصّاً بحاكم عادل يتوارث أبناؤه الحكم من بعده .
لا ولاية للأمة على نفسها ، ولاحقّ للمسلمين أن ينتخبوا حاكماً من بينهم ، أو يستبدلوه إن لم يستطع القيام بواجباته في أداء مهمة الحاكم ، لكن مادام الحديث يدور عن السياسة لا عن العقيدة ، وبصرف النظر عن الشخصية الموصى بها ومقدار عصمتها وقدسيتها ، فإن الإستناد إلى مبدأ (الحقّ الإلهي ) ليس جديداً في التاريخ البشري، ولا مقتصراً على شعب دون غيره ، فقد عرفتها مضموناً وشكلاً ، كافة الحضارات القديمة والمعاصرة ، إذ ليس هناك من ملك أو حاكم عبر التاريخ، الا ونودى بحكمه على مبدأ مشابه ، إبتداءاً من ملوك سومر وأكد وبابل ، مروراً بالفراعنة والفرس والرومان ، وليس انتهاء بآخر ملوك أوروبا قبل الثورات التي رافقت عصر النهضة ، ومن ثم قيام دولة الرفاه والعقد الإجتماعي .
أما عند العرب ، فقد سادت مقولة ( المستبدّ العادل) باعتباره الشكل الأمثل للحاكمية التي تستطيع حفظ الأمة وإقامة العدل بين الرعية .
 إن الله رحوم بالعباد ، لذا حدد لهم وليّاً يحكمهم ويقوم بشؤون دينهم ودنياهم  ، ولما كانت ظروف العرب آنذاك ، ولحيثيات وملابسات كثيرة ، قد منعت حصول الأمر كما ورد في النصّ القرآني والحديث الشريف ،لذا إنحرف الحقّ عن أهله ، وأصبح الحكم بيد آخرين تحولّ معظمهم الى طغاة ومستبدين استخدموا القوة والجبروت في سبيل الحفاظ على حاكميتهم .
تلك هي خلاصة النظرة الشيعية إلى مسألة من أكثر مسائل الحياة تعقيداً وتشابكاً ، بل انها تزداد تعقيداً وصعوبة في كلّ مرحلة  تاريخية ، نتيجة لتشابك حياة الشعوب وتعدد مستويات المهام التي على الحكومات القيام بها  .
وعلى هذا تركت الكثير من الأسئلة معلقة من دون إجابات : حاسمة في التاريخ،  وملائمة للحاضر، منها : إن الأولياء الموصى بهم نصّاً عقيدياً ، محددين عدداً بإثنى عشر من الأئمة المعصومين ،  فإلى أين تؤول الحاكمية بعد ذلك ؟
تتعلق الإجابة بالمخلصّ الغائب ، الذي يبقي المعصومية قائمة وممتدة في الزمن ،  وبالتالي لاحدود للوصاية في النصّ والحديث ، إلا بظهور المخلصّ ، ليجعل من ثم الحاكمية مطلقة حيث ( يملأ الأرض عدلاً بعد ان ملئت جوراً ).
ذلك هو الحلّ لإمكانية وصول الولاية القدسية إلى نقطة مفصلية تتطلب البحث عمّا بعدها ،اما في المسألة الأخرى التي تتعلق بالتصرّف حيال الحكم في ظلّ غياب المخلصّ ، فقد دخلت الإجتهادات الشيعية في مدرستين رئيستين ، مثلت أولها  ولاية الفقيه ، وفيها يوكل أمر الإشراف على الحاكمية إلى وليّ فقيه من علماء الدين المشهود له بالأعلمية والإجتهاد ، وهو يمتلك صلاحية توجيه الحكومة الزمنية وإلزامها العمل وفق مشورة لها الكلمة الفصل فيما يخصّ الخطوط العامة للسياسات الحكومية –  الداخلية منها والخارجية – بل وقد تقوم مقام الدستور، الذي لاتجوز مخالفة بنوده لمتطلبات العقيدة المحروسة من قبل الوليّ الفقيه .
تلك النظرية على صعيد الممارسة ، قد تتشابه في محصلتها العامة، مع الديمقراطية المتّبعة في بعض الأنظمة العربية ( المغرب – الأردن – الكويت – البحرين)  حيث تمارس ديمقراطية مضبوطة على أيقاع مايرتضيه الملك أو الأمير صاحب ( الحقّ) الحصري في تحديد منسوب الديمقراطية ومدى تطبيقاتها وصلاحيتها في هذه المرحلة أو تلك .
لكن مامدى قبول الديمقراطية  للعمل تحت الوصاية ؟
لامعضلة في الإجابة ،الديمقراطية والحالة هذه ، أما أن  تبقى (كرنفالاً) شكلياً لإخفاء الدكتاتورية ، واما أن تنتفض على وصايتها لتخرج من ثم إلى فضاءات تقترب فيها من حقيقتها .
لقد سلكت المجتمعات  الأوربية طريقاً آخر، إحتفظت  فيه ب( ملوكها ) باعتبارهم رموزاً تاريخية تملك ولاتحكم ، كما حافظت اليابان على إمبراطورها بالصيغة ذاتها ، لكن ذلك ترافق مع نهضة شاملة في الثقافة والصناعة والإقتصاد والمكتشفات العلمية والفكر السياسي ، استطاعت بالمحصلة  أن تبني نظاماً يحضر فيه القديم ( موروثياً)  وينهض الجديد معرفياً ، ينظر الجديد إلى قديمه باحترام ، ويقرّ القديم بإحقية الجديد على إدارة  الحكم وشؤون الحاضر، مع التخطيط للقادم .
ذلك ما لم يحصل في الولاية الفقهية التي وجدت تجسيداتها في إيران ، حيث انشداد الجديد نحو عصره ، وتمسّك القديم بمثال عقيدته ، لتصبح( العقيدة ) بمضمونها السياسي  ، بمثابة قيود تجعل الديمقراطية ترواح وفق رؤية يقينية يمثلّها الوليّ الفقيه ، الذي يستمدّ ولايته وبالتالي مشروعية الوصاية ، من موروث عقائدي مطلق ،لايمكن تجاوزه أو التراخي في تطبيقه ،  وإلا فقدت الولاية مرجعيتها ومبررات الدور المنوط بها .
المدرسة( الوصائية )  الفقهية ، تستبطن في جوهرها مايخالف البناء الديمقراطي ، وبالتالي فإن أفضل ما تقدمه ، قد لايتجاوز كونه مرحلة إنتقالية تلعب دوراً وسيطاً في التحول من الدكتاتورية المطلقة  ، إلى الديمقراطية المفتوحة ، لكنها(الولاية )  كفيلة بإجهاض التجربة الديمقراطية برمتها ، إذا استمرت بالعمل وفق المتّجهات التي لا تأخذ بنظر الإعتبار مقدار ماقد يطرأ على المجتمع ونظرية الحكم من تطورات .
الولاية الفقهية بمثالها الإيراني ، مرهونة في مكانها وشروط قيامها ، إذ انها تتطلب مجتمعاً متجانساً عقيدياً بأكثرية راجحة ،  ولايُحتمل ظهورها في مجتمعات متعددة طائفياً أو دينياً وإلا طبعت الدولة بطابعها الخاصّ .
ان الديمقراطيات – خاصة الحديثة منها – بما هي المحدِدة لنظرية الحكم ، تأخذ الأكثرية  بمدلولها السياسي المتبدّل ، وليس بطابعها الإثني أو الطائفي، وإلا تحولت إلى حالة قهرية إستبدادية لاتسمح في المجال أمام نشوء وتطور مفهوم المواطنة- وهي أسّ الديمقراطية وعمودها الفقري – إذ ستقسم مكونات المجتمع إلى مستويات متفاوتة يختص ّ مستواها الأعلى – الأكثرية –  في حقّ  الحصول على الحاكمية الدائمة ، فيما تحصل المستويات الأدني  – الأقلّ عدداً – على مشاركة في الحكم غالباً ماتكون من الصفّ الثاني أو مايليه ، مايخلق بمحصلته إهتزازات وعدم استقرار ، وذلك لتبادل الشعور السلبي الذي يفرزه واقع كلّ من الطرفين ( الكِبر في الحاكمين ، والقهر في المحكومين ) .
ان الأكثرية بالمفهوم أعلاه –  الإثني أو الطائفي أو الديني – قد لا تكتفي بفرض سيطرتها السياسية التي تستجلبها عن طريق صناديق الإقتراع وحسب  ، بل تحاول نشرمفهومها وثقافتها ولغتها ورؤيتها للدولة ، بل وهويتها كذلك ، ما يخلق مزيداً من الرفض أو التذمر عند الأقليات ، التي ستبحث عن شبيهها في بلدان أخرى ، ليزيد من ثم في قلق الهوية الوطنية وتفكك المفهوم .
في التجربة العراقية ، هناك ثلاثة اتجاهات رئيسة في الحركة الإسلامية الشيعية ( حزب الدعوة بتفرعاته المختلفة – التيار الصدري وما انشقّ منه – المجلس الأعلى الإسلامي وحلفاؤه )وهؤلاء جميعاً يمارسون ديمقراطية إنتخابية بمحمول طائفي ، رغم الإتكاء على شعارات معلنة ،  في العمل على  الإنشداد نحو هوية عراقية.
قبل التاسع من نيسان 2003، لم يتبلور في خطاب وأدبيات هذه الحركات  ، منظور واضح للديمقراطية ، كان الخطاب يتمحور حول مظلومية الشيعة والجهاد ضد الحاكم الجائر، وبهذا المعنى فإن الديمقراطية كانت بمثابة (غزو) خارجي ينبغي التعامل معه ، مادام يحقق الهدف – إزالة المظلومية والوصول إلى السلطة -.
على ذلك الإعتبار ، لم تدخل الديمقراطية في صلب الثقافة – فكراً أو خطاباً – لتلك الحركات ، لذا بقيت الممارسات في جوهرها ، أشبه بالتعامل مع المؤقت الذي يمكن تجاوزه في سبيل تثبيت حالة دائمة ،أولى معالمها أن  تجعل فيها الكلمة الفصل ، ليس للأكثرية الطائفية وحسب، بل لإحدى هذه القوى باعتبارها الأكثر أحقّية في تمثيلها للطائفة ( الحاكمة بصفتها تلك) .
من ناحية أخرى ، كان  ذلك (المؤقت ) ينتابه القلق من إنقلاب الحال ، وبالتالي قد يشهد انتكاساً يعيد الأمور الى ماكانت عليه ، لذا وكما تتعامل الإنتفاضات الطارئة مع الحدث ( راجع مقال : غوغائية الحكّام ،نظامية الشعوب – جريدة المواطن 29/5/2011 ) تعاملت هذه القوى مع الحكم باعتباره وسيلة لتقوية النفوذ المادي بمعناه الشخصي ، فتغلبت عقلية التجاري ( الصفقة  )  على رؤية السياسي (الدولة ) (2) في معادلة يمكن تلخيصها بمايلي : اللحظوي المتحصل، لا الرؤيوي المؤمّل .
وعلى الرغم من أن نظرية ( ولاية الفقيه ) تلحظ تواجداً  نسبياً في محور المجلس الأعلى وحلفائه ،  فيما يذهب حزب الدعوة والصدريون الى محاولة إستنباط نظرية سياسية تحتمّها الخصوصيات العراقية ،  إلا أن أيّاً من تلك الحركات ، لم يطور في مفهوم الديمقراطية  ليرفعها  من ثم إلى مستوى المنتج في  الفكر السياسي الإستراتيجي  ، لذا بقيت ترواح عند حدود الخطاب بتكتيكاته  والسلوكيات بضروراتها – ماظهر بجلاء بعد انتخابات 2010 ومفاوضات التكليف بتشكيل الحكومة – .
لقد أدّى الإنتماء الى أحدى هذه القوى دوره ، حيث أوصل المنتسبين إلى مواقع تتيح لهم الحصول على الثروات وتحسين أمورهم الخاصّة ، على حساب المصلحة العامة غالباً ، وبالتالي فإنتماء من هذا النوع ، يفقد جدواه  في البناء الديمقراطي ، بمجرد إنتهاء (مهمته) ، لذا لاغرابة في حصول انشقاقات وإعادة  جدولة وتركيب ،شهدتها هذه القوى ، إتخذت بمعظمها تلك الوجهة ( البحث عن الخاصّ ) وليس إعادة اصطفاف يمليه التغيّر في البرامج السياسية  ، كما تفترض الحياة الديمقراطية .
كانت تجربة القوى المذكورة  في الحكم ، قد اتخذت من حيث السلوكيات ، منهجاً مشابهاً لما سار عليه ( البعث) – الولاء على حساب الكفاءة – ذلك ما قاد إلى تقاسم في مستوى المواقع الحكومية ، لامعنى للكفاءة وحدها ،إذا لم تكن مرفقة بإنتساب وتزكية ، ماخلق (طبقية ) من نوع جديد – أو متجدد على وجه أدق – .
لقد تحولت  مهمة الحكومة ، من إدارة الإجتماع العام ، إلى تكريس وحراسة المنافع الخاصة لتلك الجيوش من الموظفين وأصحاب الإمتيازات  ، وبالتالي خلقت مجتمعاً غير منتج (طفيلي ) في السياسة ، وعبء في المجتمع ، ذلك لأنه يعيش وضعاً غريباً من نوعه ، فهو على هامش الديمقراطية وفي صلبها في الوقت عينه ، إنه هامشي في مستوى عطائه وعمله ، لكنه يكتسب من الديمقراطية كلّ ميزاتها التي يضخّمها بدوره لتتلاءم مع متطلباته.
القوى الإسلامية بمنظورها الشيعي ، قد تقف على أعتا ب تحولات مهمة ، إن لم تستطع التفاعل معها ، فستواجه المزيد من الإشكاليات في الدور السياسي ، ذلك لأن الواقع العراقي يلزمها إيجاد أو تطوير نظرية في الحكم ، لا تستلهم ولاية الفقيه لإستحالة تطبيقها  في العراق من جهة ، ولمأزومية تلك النظرية وإشكالياتها السياسية مع الديمقراطية من جهة أخرى  ، كذلك على الحركات الإسلامية العراقية  ان لا تنطلق وتعود من ثم إلى موضوعة ( الحاكمية النصّية ) في الحكم ، بمعنى العمل وفق الإنتظار لحين ظهور دولة المخلصّ،  إنها بحاجة لرسم مقولة  من نوع : (دولة العدل ، لاتلغي دولة العدالة ) وبالتالي فحقوق الإنسان ، ينبغي ان ترتقي إلى مستوى الإيمان العقائدي ، ولا تتوقف عند الإستخدام السياسي: لامشروعية خارج ماتقرّ ه الناس ،تلك هي خلاصة الديمقراطية  .
ذلك قد لايكون خياراً في ظلّ تشابكات الوضع العراقي ، إذ ان تطورات العملية الديمقراطية  قد تجبر الحركات الإسلامية الشيعية على انتهاج العلمانية في السياسة،  والعقيدة في الدين ، وهي مهمة ليست مستحيلة بذاتها ،   لكن الدخول إليها  يخلق إرباكاً   لايبدو على تلك القوى انها استعدّت لتجاوزه  حيث مازال كلّ منها يعتقد إنه الأفضل والأصلح ، للعقيدة والسياسة على السواء ، وتلك هي أهم المعضلات  .
في جانب آخر، تندفع نظرية الفداء في مفهوم الإجتماع الشيعي ، لتكون لها الأولوية على حساب موجبات الإصلاح الفكري أوالعقيدي بما تتطلبه مرحلة بناء الدولة ،حيث تواجه الحركات الشيعية المتصدية للحكم ، معضلة المواءمة بين حاجتها لاستثمار الجهد والوقت في إعمار البلد ووضع مرتكزات الدولة ، وبين الإستمرار في السير على نهج (نظرية التضحية ) وبالتالي إرتفاع وتيرة الطقوس العقيدية إحياءاً وزمناً وجهداً ، ما يتعارض مع إنجاز المهمات الملحّة ، نظراً لما تسببه من شلل في وتيرة العمل ، وتكريس الجهد  من أجل توفير الأمن والخدمات لملايين من الناس تجتمع في أمكنة محددة وفي آن واحد .
 ذلك يعني في محصلته ، إنشداد الحركات السياسية الشيعية نحو العقيدة على حساب الدولة ، ومن ثم التصرّف وفقاً لسلوكيات المعارضة ،ملقية تبعات الإخفاق على الجهات الحاكمة ،رغم انها شريكة في الحكم ، مايقود الى إزدواجية معيارية وسلوكية في آن ، فهي لاتستطيع السير خارج مايريده الجمهورالشيعي عقيدياً ، نظراً لحاجتها إليه في إثبات قوتها الإنتخابية وأحقّيتها في الحكم ،  لكنها لاتستطيع كذلك الإستمرار في انتهاج سياسة الإرضاء ، لأن من شأن ذلك ان يقود إلى فشل في تحقيق ماينتظره الجمهور من الدولة ، لذا تلجأ إلى (تكتيات ) تحاول فيها الجمع بين امتيازات السلطة دون تحمل مسوؤلياتها ، وإرضاء الناس دون طموحاتهم ، وذلك بالدفع نحو المزيد من الإستغراق في الشعائرالعقيدية ، كبديل عن الإنجازات العملية .
ان نظرية الفداء عند الشيعة ، تتقارب في بعض أوجهها، مع تضحية السيد المسيح بنفسه فداء للإنسان  ، كي يكون بمقدور الإنسان  الخلاص من آثامه طبقاً للمعتقدات في الديانة المسيحية ، لكن الحركات السياسية في الدول (المسيحية ) جعلت من تلك العقيدة موضعاً فردياً لاعلاقة له بالدولة  ، فحلّت إشكالية التعارض بين سعي الإنسان نحو الخلاص الأخروي ، وعمله في النجاح الدنيوي .
ان تضحية الإمام الحسين بنفسه في واقعة كربلاء، إنما جاءت لتكون بمثابة الفداء لخلاص الأمة من آثامها وخطاياها ، لذا فإن إحياء الطقوس العشاورائية التي تدفع العقيدة نحو أولويتها وتجسديها كجزء من سلوكيات عامّة ، تشكلّ من ثم بديلاً للإهتمام في موضوع بناء دولة مدنية يترك أمرها للحركات الإسلامية والمؤسسات العقيدية،  كي تديرها بما يرضي جمهور المؤمنين ، الذين ستغفر ذنوبهم بمجرد الحرص على إحياء الشعائر والإرتفاع في ذلك درجة الذروة ، لتؤدّي التضحية الحسينية دورها في تطهير الإنسان مما ارتكبه من خطايا (3).
لكن ما لم تتوقعه تلك الأحزاب والحركات ، الجمهور ذاته الذي سبق له  انتخابها ، قد  ينتفض ضد ممارساتها في الحكم .
(*) إقتصرالمقال على التجربتين الإيرانية والعراقية في الديمقراطية ، ولم يتطرق الى تجربة حزب الله في لبنان ، رغم انه ينتمي الى المدرسة الأولى ( ولاية الفقيه ) وذلك لخصوصية حزب الله كحركة مقاومة ، اما حركة أمل ،  فهي تستمدّ فكرها السياسي من طروحات الإمام محمد مهدي شمس الدين ،  الذي طالب فيه باندماج الشيعة في واقعهم الوطني وضمن خصوصيات كلّ بلد .
(1) لاتختلف الحركات الإسلامية الشيعية عن مثيلاتها السنية الا في طريقة الحصول على الحقّ الإلهي ، ففيما تشترط الشيعية إماماً معصوماً بنصّ مقدس وحديث نبوي – عقيدياً  –  أو من ينوب عن المعصوم – سياسياً – تستند الحركات السنية على مشترطين : اما القدرة والشوكة ، أو البيعة  بالإمارة ، وفي كلتا الحالتين ، فالحاكم – المبايع أو المستولي – واجب الطاعة ، فيما يذهب الشيعة بوجوب طاعة المرجعية الفقهية،  أو الوليّ الفقيه .
(2) في التاريخ العراقي الحديث ، مالت الكثير من الشخصيات الشيعية العراقية الى ممارسة  الأعمال الحرّة من صناعة وتجارة  وغيرها ، وذلك على حساب العمل السياسي ،  كآل القاضي وكبّة ومكية والدامرجي وسواهم ، اما المشتغلون  في السياسة  من الشيعة ، فكانوا بمعظمهم من ممارسي تلك المهن أو مالكي الأرض  .  
(3) تحثّ على المسيرات العقيدية  نحو العتبات المقدسة ، مقولات من نوع :(لاتمسّ النار زائر الحسين ) (ثواب الزيارة يغفر ماتقدم من ذنب وما تأخر )—الخ .