هذه هي الديمقراطية التي يتبجح علينا بها أعداء الإنسان والإنسانية عموما و قتلة الأحلام و خاطفو الطموحات….لهذا نتلحف السواد دوما على عدالة مغتصبة و أصوات مكمومة و أياد مكبلة بإسم حرية التعبير
متى يفهم الجلاد أن الإنسان الصحراوي لا يهاب القمع و سيبقى يكافح و يناضل في سبيل حياة كريمة مهما كانت ضريبتها
لطالما أكد المفكر جان جاك روسو أن الديمقراطية السلبية هي التي يقتل الحكام خصومهم باسمها كما يؤكد ذلك السباعي أن الديكتاتورية هي أبشع أنواع الردة في عصر الذرة هذا إلى عصر الاسترقاق الجماعي في العصر الحجري وهكذا فالشعارات الكاذبة إنما هي مطية الطغاة
كل التضامن مع جميع الأصوات الحرة المطالبة بالكرامة والحرية مهما كان جنسها و لونها، و أولها ما تبقى من مجتمعي الأبي
هل رأيت يوما حكما استبداديا ديكتاتوريا استطاع ان يحقق ارتفاعا في مستوي معيشة شعبه ونجح في نقل ملايين الفقراء الى الازدهار؟الاجابة بالقطع لا
هل رأيت يوما حكما استبداديا ديكتاتوريا استطاع ان يحقق ارتفاعا في مستوي معيشة شعبه ونجح في نقل ملايين الفقراء الى رحابة الرخاء والازدهار؟! هل عرفت ديكتاتورا حول بلاده الى جنة وارفة الظلال ينعم مواطنوها بالأمن والرفاهية والسلام؟! هل قرأت في التاريخ عن مستبد استطاع ان ينشر العدل والمساواة والحرية بين مواطني بلاده وأن يعيش في سلام مع جيرانه؟!
الاجابة بالقطع لا.
في افريقيا، ومنذ استقلالها الإسمي عن الاستعمار في ستينيات القرن الماضي، شهدت القارة السمراء – وفقا للإحصائيات الدولية- 186 انقلابا عسكريا من بينها 100 انقلاب ( ناجح وفاشل) خلال 10 سنوات من 1966 حتي عام 1976، لكن الفشل في الوصول الى مقاعد السلطة بالنسبة لبعض تلك الانقلابات ربما كان أفضل من الذين وصلوا للحكم عبر إراقة الدماء وإزهاق أرواح الأبرياء من المدنيين ليجدوا أنفسهم في مواجهة تحديات الدولة والمواطنين فلا يستطيعون التصرف فيها نظرا لان الحكم ليس من مهامهم. العسكريون بطبيعتهم لا يميلون للديمقراطية، والجيوش لا تصنع ديمقراطية ولا تقدر على تحمل أعباء التنمية. الجيوش في الدول الديمقراطية تكون حارسة للديمقراطية والدساتير، بينما تتولي النخب والسياسيين مهمة الحكم في الدولة تحت رقابة مباشرة من الشعب أو عبر النواب المنتخبين.
هل سمعتم أو رأيتم دولة في افريقيا-باستثناء جنوب افريقيا ذات الطبيعة الخاصة بمشكلة التمييز العنصري- تقدم نموذجا فى التطبيق الديمقراطي فى المجال السياسي؟! هل رأيتم دولة افريقية استطاعت ان تحقق معجزة اقتصادية تساهم في تحسين مستوي معيشة الملايين من أبنائها مثل البرازيل أو تركيا؟
الفارق هو الديمقراطية في السياسة. والليبرالية في الاقتصاد.
التنمية الاقتصادية ورفع مستوي معيشة الناس وتوفير أرزاقهم وحدوث الرفاهية الاقتصادية تعتمد بدرجة كبيرة على الديمقراطية فى السياسة. وبدونها لا تحقق أنظمة الحكم في بلدان العالم الثالث أو النامي أي شيء ذي بال لمواطنيها الكادحين الفقراء المهمشين.
هذا درس من دروس النظم السياسية في العالم.. الواقع يخبرنا بذلك. ولا تظن ان نظاما شموليا استبداديا ديكتاتوريا يستطيع ان يحسن من مستوي معيشة مواطنيه. البعض ربما يجادل بطرح مثال الصين التي تحقق معدلات نمو سنوية تصل الى 10 بالمائة وربما أكثر في بعض السنوات.
والرد هنا ان الصين لم تحقق هذه المعدلات التنموية العالية سوي بعد العام 1989. في هذا العام عادت جزيرة هونج كونج الى السيادة الصينية بعد فترة استئجار من جانب بريطانيا العظمي لمدة قرنين من الزمان. هونج كونج عادت لأحضان البر الرئيس ( الصين) وفق مبدأ: دولة واحدة ونظامان.
والنظامان هما: الاشتراكي المخطط في الصين الأم ( البر الرئيسي)، والنظام الديمقراطي في السياسة –الليبرالي في الاقتصاد في هونج كونج، والتعايش بين النظامين الاشتراكي المخطط والليبرالي الديمقراطي هو الذى ساهم فى تلك المعدلات المرتفعة للنمو في الناتج القومي الاجمالي للصين ككل.
وما كانت الصين لتحقق تلك المعدلات التنموية العالية فى ظل النظام الشمولي الاستبدادي، نظام الحزب الواحد. هذا رأيي، ويمكن للبعض أن يجادل ويطرح الأفكار المخالفة والمختلفة عما طرحناه فى هذا المقال. عظيم ، لما لا ؟!!
المهم هو ان الأفكار تواجهها أفكار أخري، والمنطق يقابل بمنطق آخر، ولعل هذا أساس حرية التعبير والديمقراطية. إذا كان الطغاة يتقبلون النقد والتعبير الحر عن الفكر ، ويتيحون الفرصة والحرية لوسائل الاعلام لتناول كافة الأفكار المتناقضة والمتعارضة. فى تلك الحالة سيكونون على استعداد لبدء نظام ديمقراطي يمكن فى النهاية أن يساهم فى رفع مستوي معيشة المواطنين فى المجال الاقتصادي!
أسوأ ما يمكن أن يحدث لمجتمع أن يعمل فى إطار من ديمقراطية، أو ما يعتقد أنه الديمقراطية فى حين ما يجرى من حوله عكس ذلك تماما، وهناك فارق ضخم ما بين تسيير أمور الحياة وجوانبها المختلفة وفقا لآليات ديمقراطية بمفهومها الشامل، وبين الحفاظ على الشكلانية الديمقراطية التى تحفظ ماء وجه الأنظمة، واعتقد أننا فى مصر عشنا طويلا فى مراحل متنوعة من أزهى عصور الديمقراطية المزيفة، وأعتقد أننا لسنا فى حاجة لشرح ما انتهت إليه هذه الديمقراطية المزيفة، وبالتالى علينا أن نواجه أنفسنا بموقفنا الديمقراطى العام، وموقفنا من الديمقراطية ومدى لياقتنا السياسية والمجتمعية فى تحقيق هذا المطلب الغائب منذ عصور، وكان الهدف العام من الموجات الثورية المتعاقبة التى شهدتها مصر خلال السنوات الماضية.
الاعتراف بغياب الديمقراطية، بداية حقيقية لفهم حقيقتنا، مأزقنا السياسى، خاصة أن قطاعا مثل الإسلام السياسى يقاوم الفكرة الديمقراطية بشكل عقيدى، حتى موافقته المؤقتة عليها قبل عزل مرسى كفر بها، وأعلن عن ذلك صراحة، فلا يبقى أمامنا إلا نقف مجددا عند ضرورة فهم الآلية التى تمكننا من الوصول إلى تداول السلطة بشكل سلمى، وأن تكون هذه الديمقراطية أكبر من كونها آلية، وحاملة لكل قيمها من حرية وشفافية، وقادرة على ضبط الحياة السياسية والقدرة على بناء نموذج تنموى يؤدى لرفاهية المصريين وتحسين أحوالهم المعيشية، فلم تكن الديمقراطية الحقيقية يوما ما، صناديق انتخاب أو انتقاد رئيس دولة، أو حتى تداول سلطة، بل تعمل فى تحقيق مصالح أى شعب بما يحلم به ويتمناه.
الخوف الحقيقى علينا، الارتكان لتلك الديمقراطية المزيفة، وكأننا حققنا المنشود، دون أن نعمل ونجاهد من أجل الوصول للديمقراطية التى تحقق النمو الاقتصادى الذى ينتشر الغالبية من فقر تزداد نسبته يوما بعض آخر، ديمقراطية تؤسس لمستقبل يحقق سلام اجتماعيا صادق لا نحظى بأى قدر منه الآن، وربما يجب أن يكون ذلك أحد أهم الأهداف التى نعمل من أجلها، فلا يمكن الاستمرار فى أى مشروع ديمقراطى دون أن يهدف للسلام الاجتماعى، ولا يعنى ذلك أبدا أن عبء المهمة يقع على من يتولى مقاليد الأمور فى البلاد، أو القوى السياسية التى تجاوره فى المشهد، بل هو أيضا مسئولية من هم خارج المشهد ويرفضونه، فلا يعنى إحساسهم بظلم ما أو اضطهاد أو هزيمة، إنهم لم يتسببوا فى سوداوية المشهد وفرض الديمقراطية الزائفة، وبالتالى عليهم المساهمة والمشاركة فى تحطيم المشهد والانتقال بنا جميعا إلى مشهد أكثر رحمة ورحابة، بنا جميعا أيضا، بشرط أن يؤمن الجميع أننا نسعى للديمقراطية الحقيقية ولا نستغفلها ولا نستغفل أنفسنا
ظن الكثير من المتفائلين أنه بمجرد إسقاط نظام صدام حسين في التاسع من إبريل 2003، وقيام القوات الأجنبية بإعلان الخيار الديمقراطي في العراق، سوف يستجيب المجتمع العراقي المقموع والمحاصر لثلاث عشرة سنة، وينخرط كلياً بهذا النمط الجديد من الحكم، وظنوا أيضاً أن المجتمع سيشرع لتلقُّف الخيار الديمقراطي الذي سيعوضهم عن عقود من التعطش والحرمان ومن الديكتاتوريات والتفرد في السلطة والحكم.
وبعد أن صدق الغرب طروحات سابقة للمعارضة العراقية في الخارج، صورت لهم أن تراكم الحكم الاستبدادي منذ الانقلاب العسكري عام 1958 وتحويل النظام إلى جمهوري – رئاسي، سيدفع العراقيين حتماً إلى التهليل لتلك اللحظة التاريخية، في التاسع من إبريل 2003 حين أنكب أحد العراقيين بمطرقته على تمثال الرئيس صدام حسين.
وستحاول هذه الورقة تسليط الضوء على مساعي العهد الجديد في الترويج للديمقراطية، من خلال سلسلة الإجراءات التي قام بها مجلس الحكم والحاكم المدني للعراق الأمريكي بول بريمر، آنذاك، ومتغيرات كتابة الدستور العراقي الجديد عام 2005، والممارسات التي قامت بها السلطات العراقية خلال فترة الاحتلال (2003-2011) ليتحول النظام من الرئاسي إلى البرلماني المتحاصص بدعوى إشاعة الديمقراطية، وترسيخها عبر كتابة دستور دائم ترتكز عليه ديمقراطية المحاصصة.
بعد التاسع من إبريل 2003، كانت العلامة الفارقة في العراق إعلان الدستور الجديد، وقبله تشكيل (مجلس الحكم)، الذي وزع إدارة البلاد بين المكونات والأقليات بنظام أشبه ما يكون انتداباً غير معلن (فبعد أربعة عقود من الاستبداد يتوقف استقرار العراق على تطوير مؤسسات سياسية متينة وحماية واضحة للأفراد وحقوق الأقليات، وبتثبيت حكم القانون والزواجر والضوابط في الحكومة يصبح الدستور حيوياً لصياغة مؤسسات العراق وحماية حقوق المواطنين)[].
وكانت إدارة الدولة الجديدة التي أنشأها السفير الأمريكي بريمر موزعة على مجموعة من السياسيين الذين عملوا تحت إدارة المعارضة السابقة، لتحاكي مشروع (تحرير العراق) الذي أصدره الكونغرس الأمريكي في أكتوبر 1998؛ ولهذا أعادت إدارة بوش تنشيط المعارضة العراقية في المنفى، لافتقارها إلى القواعد والمصداقية في داخل العراق بالذات، وجرى توحيد تلك الفصائل داخل المجلس الوطني العراقي LNC ومقره في لندن، وهو يضم شتاتاً من الاتجاهات[2].
ولهذا، حكم الساسة العراقيون الجدد، حسب تسلسل الحروف الأبجدية، ولمدة شهر واحد لكل واحد منهم؛ ليوصلوا بذلك رسالة إلى الشعب العراقي عن الحقبة الجديدة بأنها ديمقراطية لـ(مجلس حكم) جديد ومتنوع الأطياف، لكنه قرار وأسلوب غير مفهوم لدى الجمهور العراقي العام، الذي رأى أن حالة تغيير الرئيس كل شهر في ذلك المجلس تُعدُّ أمراً غير منطقي أو مقبول، وهو الذي تعوَّد على بقاء الحكام لأمد طويل، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، بل تسبب ذلك بمزيد من الفوضى، وتصاعد عمليات المقاومة إذ عجزت إدارة بوش من خلال العمليات والقوات السرية على وقف الفوضى في العراق مع ازدياد المقاومة في النصف الأول من عام 2004، وتصاعد الهجمات الانتحارية والتفجيرات[].
دخل العراق في هذه الحقبة إبان احتلاله عام 2003 بمرحلة من الفوضى التي وصفت بـ(الخلاقة) شهدت محاولات إعلان بدء عصر جديد، والتبشير بإشاعة الديمقراطية، بعد تاريخ مرير من الفوضى السياسية التي سبقت هذا التاريخ، وتميزت بسلسلة من الانقلابات، العسكرية حفل بها التاريخ العراقي، والتي أرُّخت بأول انقلاب عراقي في تاريخ العالم العربي عام 1936 على يد الفريق بكر صدقي على حكومة الفريق ياسين الهاشمي، ذلك الانقلاب الذي شاركت فيه وحدات من الجيش العراقي الموالي للفريق صدقي، وهو ضابط من أصول كردية، وأُجبر الملك غازي، آنذاك، على قبول مرشحه لرئاسة الحكومة بُعيد مقتل وزير الدفاع الفريق جعفر العسكري، حتى قُتل صدقي بعد أقل من عام وأجبر رئيس الوزراء حكمت سليمان على الاستقالة، ثم محاكمته وسجنه لمدة خمس سنوات[].
وكان ذلك مؤشراً للنظام الملكي أن يحُكم قبضته على السلطة والسيطرة على ثلاثة مراكز وبؤر في الدولة العراقية؛ وهي: القصر الملكي ووزارة الدفاع ومبنى الإذاعة والتلفزيون، فمن يقتحم الدفاع يسيطر على قرار العسكر، ومن يحتل الإذاعة يعلن البيان رقم واحد، ثم السيطرة على القصر الملكي كما حدث في انقلاب عام 1958، الذي تمادى فيه الانقلابيون في قتل وتصفية العائلة المالكة، وهو موضوع إشكالي طويل، عمَّن خطط ونفذ حادث تصفية الأسرة الملكية، وهكذا أسدل الستار عن أي حديث عن النظام الديمقراطي والتعددية السياسية والنزعة الليبرالية التي أراد الملكيون الهاشميون ورهط من أتباعهم الساسة المخضرمين تكريسها كمنهاج للحكم.
لكن ذلك الانقلاب حوّل البلاد إلى عالم “العسكرتاريا”، وحُكم المغامرين من الساسة في حياة حزبية لا تعرف غير طريق القصر الرئاسي لاقتحامه، الذي تكرر مرات عديدة طيلة الخمسين سنة من عمر الجمهوريين المغامرين، كما يصفهم المؤرخون، وحين تغير النظام الملكي الذي كان يسابق الزمن للبناء والإعمار من خلال (مجلس الإعمار)، الذي وضع المشاريع الطموحة لبناء العراق، ووُضِعَت بعدها حقوق الإنسان على الرف، كما نرى.
وبدأت الأحكام العرفية التي تولى العسكر فرضها على الشعب، واقتصر الحكم على مجموعة عسكرية أطلقت على نفسها (الضباط الأحرار)، متابعة للتوجهات القومية والإسلامية، الذين أنتجوا تنظيمات سرية، حتى استطاعوا أن يقلبوا نظام الحكم ويستولوا على السلطة في البلاد، وقد تكررت الانقلابات العسكرية وتغيرت عناوين الحاكمين مرات؛ لكن النتيجة الفارقة هي اندحار الديمقراطية وأفول مبدأ حكم الشعب بآليات دستورية، كان قد أرساها النظام الملكي في مطلع العشرينات من القرن الماضي.
وكلُّ هذا لا يمنع من القول إن الدولة العراقية كانت قد شهدت قيام مؤسسات برلمانية وإدارية وقضاءً مستقلاً، لكنها جميعاً كان تحت سيطرة الزعيم العسكري للانقلاب أو القائد السياسي الحزبي الذي يوزع أدوار السلطة وإدارة الحكم؛ فقد تدخل رجال الجيش وهم نتاج انقلاب عام 1958 في تفاصيل المجتمع وأدارته، وتركوا أبلغ الأثر على الحياة السياسية عموماً، إذ أغرقت البلاد في مرحلة ديكتاتورية وانفراد بالسلطة وتصفية للأحزاب المشاركة في “الجبهة الوطنية” لتنتهي بتمثيل شكلي، وبرغم المحاولات المستمرة لكتابة دستور عراقي ينظم السلطة و إدارة الدولة، لكنه ظل مؤقتا ً”[5]. ولعل أغلب ما حدث من انتخابات أو مجالس نيابية، والتي تعد إحدى صور العمل الديمقراطي، ما هي إلا شكليات صورية غير مكتسبة لشرعية تمثيل الشعب حقاً من وجهة نظر الباحث.
خلال دخول العراق في حقبة الاحتلال والإدارة الأجنبية خلال الأعوام (2003-2011) دعُيت الزعامات العراقية إلى كتابة دستور عراقي دائم على أنقاض دستور عراقي (مؤقت) ظل شكلياً كما أسلفنا لسنوات الحكم السابق لخمس وثلاثين سنة دون تثبيته، وسبق كتابة الدستور الدائم عام 2005 “إعلان قانون إدارة الدولة المؤقت” والذي مهد لكتابته، حيث دعا إلى الطابع الديمقراطي التمثيلي التعددي للدولة العراقية، وقد شرع العراقيون والأمريكيون، يمثلهم السفير الأمريكي في بغداد زلماي خليل زاد، في كتابة دستور جديد تم إقراره والموافقة عليه في استفتاء شعبي في الخامس والعشرين من أكتوبر 2005، وكان أول وثيقة قانونية عدّها بعض مؤيدي النظام الجديد نقطة تحول في الحكم بالعراق وانتقاله من الحكم المركزي السلطوي إلى النظام البرلماني، كما أشيع، لكنه لم يحظ بإجماع العراقيين، رغم نيله نسبة أغلبية تقدَّر بـ 78% من المصوّتين الشيعة والأكراد وبعض السنّة المنخرطين في العملية السياسية، مثل أتباع الحزب الإسلامي، لكنه فشل في الوصول إلى توافق وطني كامل مثلما تقر ذلك الدساتير وشرعة الأمم المتحدة، غير أن المشرّع أبقى الأبواب مفتوحة لإصلاح بعض الفقرات، ولاسيما المادة (40) والمادة (43) حول المناطق المتنازع عليها بين العرب والأكراد في كركوك؛ ما جعل البلاد في حال اعتراض وهيجان بمسوِّغ أن وثيقة الدستور لم تمثل كل الطيف العراقي وتوافقه التام الذي يضمن استمرارية الدستور.
وأبدى كثير من القانونيين ملاحظات تقويمية عليه من بينهم ورقة الدكتور مالك دوهان الحسن وزير العدل الأسبق التي أشارت إلى أخطاء جسيمة في صياغة الدستور؛ ومنها (ورد في نص المادة السابعة عبارة “البعث الصدامي”، ونرى أن هذه العبارة تعطي السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة، وقد تتصرف تصرفاً قد لا يكون مرغوباً فيه، وقد تحصل ظروف جديدة تستدعي ألا تعالج الموضوع بهذا الشكل، وإنما تتركه لغرض اتخاذ موقف جديد)[].
وركز الدستور الجديد على فكرة المكوّن السياسي وإشباعه بعبارات طائفية وقومية تمجّد قسمة الغرماء الذين انتصروا متحالفين ضد النظام السابق؛ ما تسبب في تأسيس السخط المجتمعي وتعميق الشعور بالظلم، من خلال ما تضمنه من فقرات وبنود تتعارض مع طموحات واستحقاقات مكونات أخرى، في مقدمهم السنّة العرب، وعدم تمثيله الكامل للمجتمع العراقي بكلياته ومكوناته، وظلت كثير من بنوده كألغام داخل دستور استُعجِل في إقراره بدفع من المحتل ومن التحالف (الشيعي -الكردي) على حساب سُنّة العراق، الذين شعروا بأنهم معزولون وغير فاعلين في الدستور الجديد، وكأنهم يُعاقبون على انخراطهم في النظام السابق، رغم تضررهم منه.
إن الأسباب الحقيقية وراء تبني النظام النيابي كانت مستمَدة من رغبة الأحزاب الكبيرة في الهيمنة على عملية صنع القرارات الاستراتيجية، ومراكز صنع القرار بينها، وترسيخ مبدأ المحاصصة التي قامت عليها العملية السياسية بدءاً بتأسيس مجلس الحكم، إذ أتاح شكل النظام السياسي النيابي الذي تبناه الدستور الدائم للعراق، وقبله قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية – أتاح توزيع المراكز الرئاسية الثلاثة (رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء، ورئاسة مجلس النواب) على الكتل الثلاث الكبيرة المهيمنة على الحياة السياسية في العراق، ككتلة الائتلاف العراقي الموحّد، والتحالف الكردستاني، وجبهة التوافق، وأن توزيع مراكز القرار المهمة بين الكتل الشيعية والسنّية والكردية أدى إلى هيمنة الأحزاب الكبيرة الثلاثة أعلاه على عملية توجيه السياسة العراقية من خلال احتكار معظم الصلاحيات بشكل يخدم تحقيق المصالح الفئوية والعرقية على حساب المصالح الوطنية)[].
كما أفرد الدستور العراقي الدائم، الذي يُعد الوثيقة الوحيدة المعتمدة حالياً باباً خاصاً لما أسماه بـ (الحقوق والحريات) نص خلاله على الحقوق المدنية والسياسية التي أكدت على:
“أن العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس، أو العرق، أو القومية، أو الأصل، أو اللون، أو الرأي، أو الوضع الاقتصادي، أو الوضع الاجتماعي” (المادة 14 من الدستور 2005) وذهبت المادة التي تلتها بإقرار الحقوق بأن: (لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءً على قرار صادر من جهة قضائية مختصة) (المادة 15 من الدستور الدائم 2005)].
غير أن تلك الحقوق والحريات التي أعلنها الدستور كمنطلق للممارسة الديمقراطية تصطدم بواقع مغاير لبيئة إصدارها، من خلال السلوكيات التي يشهدها الشارع العراقي والممارسات التي تجعل تلك المواد بعيدة عن التطبيق بتأكيد كثير من المعنيين بالشأن العراقي؛ ما يثير أكثر من تساؤل حول فاعلية الدستور وجدواه في أن يكون مرتكزاً تشريعياً للديمقراطية في البلاد.
والإحاطة الشاملة للموضوع تحتم علينا طرح سؤالين: هل استطاع العراق أن يرسي نظاماً ديمقراطياً بشرت به الأحزاب التي تولت السلطة بعد إعلان دستور البلاد الجديد عام 2005؟ وكيف تبلور ذلك الصراع إلى الحد الذي خلق فوضى مجتمعية؟ بعد أن سعى النظام الجديد إلى اجتثاث خصومه، وحل مؤسسات الدولة باعتبارها إرثاً غير مقبول في دولة النظام الديمقراطي الجديد.
وليس ثمة شك في أن تجليات هذه الحقبة أفضت إلى متغيرات عدة، وخلقت أزمات لم تنتهِ (مع اشتداد الأزمة، ورفض الدستور الدائم الذي تم التصويت عليه والانتخابات في الخامس عشر من ديسمبر 2005 من جهة، وبين إصرار شعبي على ضرورة المباشرة بالتعديلات الدستورية فوراً وتطبيق المادة 142 بكل فقراتها من جهة أخرى، حيث دخل العراق نفقاً طويلاً لا فرصة للنجاة منه، هذا النفق في هذه المرة كاد ينهي العملية السياسية برمتها؛ لكونها انتقلت من الصراع الشعبي الموسوم بمقارعة العملية السياسية والدستور إلى صراع المؤتلفين تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية )].
تاريخياً لم يألف الشعب العراقي الديمقراطية، وإنما تعايش مع الاستبداد وألفه كأمر واقع لعقود طويلة، كما أن القيم الدينية السياسية التي أرسى دعائمها الإسلام السياسي الحاكم كانت قد ساهمت بتهشيم التجربة الديمقراطية، تدعمها في ذلك القيم الاجتماعية التي تتحكم بالقوة والتوريث وحكم الأبوّة والتمييز الجنسي، والتي لا تتسق مع القيم الديمقراطية. فعلى سبيل المثال كانت أنماط التصويت في الانتخابات العراقية الأربعة الماضية غير متوافقة مع الثقافة الديمقراطية؛ لأن أصوات الناخبين ذهبت باتجاه من يؤمن “بحاكمية الله زوراً لا بحاكمية الشعب].
ولا يجانب الصواب من يقول إن الديمقراطية التي ولدت في العراق بعد عام 2003 ولدِت مشوهة، إذ جاءت دون تدرج أو تراكم، في بلد كان محكوماً على مدى عقود بنظم شمولية ماعدا العهد الملكي، ومن يدير دفة الحكم اليوم، من معارضين سابقين للنظام، لم تكن لديهم عند إسقاطه على يد القوات الأمريكية أية خطة معدة مسبقاً، وقد كتبوا دستوراً على عجالة من أمرهم، يتقاسمون بموجبه السلطة، ولم يدُر بذهن أكثرهم أن الدساتير تكتب عادة لعقود من الزمن، لا لأسابيع أو شهور].
ومن الملاحظ أن ثمة تناقضاً بين المواد الدستورية ذات الصلة بالحريات، مثل المادة (37)، وبين الواقع الـمَعِيش، حيث تقر هذه المادة: (حرية الإنسان وكرامته مصونة، ولا يجوز توقيف أحد أو التحقيق معه إلا بموجب قرار قضائي، بل ويحرّم جميع أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية، ولا عبرة بأي اعتراف انتُزع بالإكراه أو التهديد أو التعذيب، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي أصابه وفقاً للقانون، على أن تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني). (الفصل الثاني من الدستور المادة 37)].
ولم يعد خافياً على أحد أن ما يحدث اليوم من انتهاكات لحقوق الإنسان وتغيّب الآلاف من المدنيين الذين تم اعتقالهم واختطافهم وعدم الإعلان عن أماكنهم، كما جرى في الموصل والصقلاوية في الأنبار، وجرف الصخر جنوبي بغداد، وخلف السدة شرقي بغداد وسواها، ومقتل المئات من الناشطين المطالبين في تظاهراتهم المكفولة بالدستور – يعبر عن غياب تام للممارسة الديمقراطية، حيث دعت منظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية إلى المطالبة بمحاكمات علنية لمرتكبي جرائم وصفتها بأنها بشعة بحق الشعب العراقي وانتهاك لمشروع الديمقراطية المعلن في دستور البلاد (يكشف خروقات وانتهاكات توصف بأنها مشينة لمواد الدستور، وهي تطرح إشكالية كبرى في تعامل السلطة مع الناشطين والمطالبين بالحريات، ويكشف أيضاً تعطيل مواد الدستور رغم نواقصه المعروفة، وتداخل ما هو طائفي ديني مع ما هو قومي إثني، ويعُد متناقضاً مع مدنية الدولة وأطُرها التي تنادي بالعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان)].
ومن هنا يمكننا الجزم بغياب الديمقراطية في العراق أصلاً، بحكم انعدام وجود من يؤمن بها في المعادلة السياسية التي تأسست على يد جنرالات الحرب عام 2003، ولم تنبثق بناء على رغبات وطموحات داخلية، وإنما تمت عبر صفقات خارجية فرضها المحتل، وبحسب الباحث سلام عادل، فإن تأسيس نظام ديمقراطي ينبغي أن يظهر بمبادرة نخبوية وشعبوية، ناهيك عن كون أحزاب “الإسلام السياسي” المُمسكة بشقيها، الشيعي والسنّي، لا تؤمن بالديمقراطية الحديثة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة أو شبه مباشرة، ولا تعتمدها أصلاً، وتعمل على استعادة دولة “الخلافة”].
غير أن الإشكالية الأخرى التي لا تقل تعقيداً عن مواد الدستور، هي ما تكشفه أزمة البناء الديمقراطي في العراق، والتي تتمثل بتكوين الأحزاب ونشأتها ودورها في التعبير عن المُختلف في الحياة الديمقراطية (الافتراضية)، فالأحزاب عموماً تتبنى نهجاً فكرياً وعملياً بقصد كسب المجتمع والمشاركة في الحياة السياسية، فإنها تفصل بين الالتزام بالمصلحة الوطنية العليا وبين المختلف عليه في أيديولوجيتها، ومن دون هذا الفاصل بين المشترك والمتفق عليه وبين المختَلف عليه في منهاج عمل الحزب كمؤسسة مجتمعية سياسية، ينتهي الأمر إلى ما انتهت إليه العملية السياسية في عراق اليوم، لذلك أعتقد أنه لن يظهر آباء مؤسسون لدولة عراقية بعد عام 2003، بل طلاب سلطة بلا فكر سياسي، وأي حديث عن المقدس والمدنس في العملية السياسية إنما يعدُّ نموذجاً لتبرير مفاسد المحاصصة الحالية].
غير أن نمط الأحزاب الفاعلة الآن في المشهد السياسي العراقي يكشف عن خوائها وفقرها لبرامج معلنة، وغياب مشروع حضاري تتنافس من خلاله في الانتخابات، التي اقتصرت على شعارات يصفها المراقبون بأنها جوفاء لا تملك عمقاً حضارياً أو مشروعاً مرحلياً قصير المدى أو متوسطاً، بل تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية البعيدة عن مسارات المجتمع الذي لا يراها سوى خلال فترة تسبق الانتخابات المغلّفة بالطائفية والوهم والدعاية الصاخبة، والمفارقة التي يمسكها عليها القانون والدستور معاً أنها لا تعلن عن مصادر تمويلها، وإشغالها لمقارّ الدولة السابقة بالاستحواذ القسري أو بالانتقام والاجتثاث، وهذا سلوك وإجراء غير قانوني (بزرت مكونات إثنية وطائفية عديدة أزاحت المفهوم الوطني والانتمائي للعراق، وأبدلته بانتماء إلى الطائفة أو العرق أو غيرها؛ ما عجل في ظهور عدة أحزاب سياسية لها مسمياتها لا تحتوي من الوطنية العراقية إلا العنوان، في حين تقوم في داخلها على مصالح الفئة أو الطائفة أو القومية، ولما كانت تلك الأحزاب ضعيفة في بنيتها الفكرية وفي انتمائها الوطني فإنها غير قادرة على البقاء من دون ارتباط بدولة أجنبية أو مؤسسة استخبارية].
المظهر الآخر للديمقراطية في العراق يتمثل في الانتخابات التي تجرى دورياً كل أربع سنوات وكيف تراجعت المشاركة فيها عددياً، في آخر جولة لها وهي الرابعة في عام 2018، إلى أقل من %20، وشهدت إلغاء نتائج فوز القائمة العراقية عام 2010 حين أُقحِمَت فكرة غير معتمَدة في الدستور النافذ، وهي ما يسمى بـ”الكتلة الأكبر” خلال انتخابات عام 2010، ثم عادت لإبطالها في انتخابات عام 2018، في سابقة لم تشهدها الانتخابات المماثلة حيث رجحت المحكمة الدستورية أصوات ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري كامل المالكي، أمين عام حزب الدعوة الإسلامي، البالغة 89 نائباً، على نتائج القائمة العراقية المنافسة برئاسة الدكتور إياد علاوي البالغة 91 نائباً، وقد فسرت من قبل رئيس القائمة العراقية التي لا تعتمد الفكرة الطائفية، وهي تمثل النسيج العراقي بكل أطيافه حول ما حدث؛ بأن (هناك أجندات لدول إقليمية قد أصبحت واضحة وفي مقدمتها إيران في التجاوز والضغط على القرار السياسي والاستراتيجي في العراق، كما وقفت ضد القائمة العراقية وقررت عدم السماح لها بأن تستلم الحكم عقب فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2010 وضغطت على رئاسة الجمهورية وأقنعت الولايات المتحدة بذلك )].
لقد أبرزت تلك الانتخابات أيضاً في مراحل لاحقة، هيمنة الميليشيات على صناديق الانتخابات وتزويرها إلى حد حرقها، حين تمت الاعتراضات على نتائج الانتخابات الأخيرة عام 2018 كما جرى لصناديق مركز الرصافة في بغداد. إن تاريخ المفارقات والأعمال التي لا تمت بصلة للنهج الديمقراطي حوَّل تجربة العراق على يد أفراد وكيانات غير مهيئة أصلاً لإدارة الدولة ولا يمتُّ تاريخها وسلوكها إلى كونها تعلمت الديمقراطية أو مارستها في السابق، إلى تجربة مفرغة من المحتوى نتيجة عدم إيمان الزعماء والسياسيين بها.
والملاحظ أن أغلب أعضاء الطبقة السياسية في العراق لا يؤمنون بالديمقراطية كنظام وممارسة؛ فجماعات “الإسلام السياسي” التي تقود الدولة تتبنى فكراً إسلاموياً طائفياً، وهذا ما يتعارض مع التأسيس الصحيح للديمقراطية. أضف إلى ذلك، فإن تحليل السلوك الذي انتهجته القوى الإسلاموية التي تولت البلاد بعد عام 2003 يكشف عن عدم إيمانها بدولة المؤسسات ومبدأ الفصل بين السلطات الذي يعد أساس النظام الديمقراطي، فضلاً عن صعود الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية والدولة ونظامها الذي رسخته القوى السياسية، مما غيّب مبدأ مساواة الجميع أمام القانون وفي الحقوق والواجبات. وبالإضافة إلى ما تقدم، شكلت الأحزاب، التي أمسكت بعملية صنع القرار، عبئاً كبيراً، بل وتسببت في نشوء الصراعات والأزمات واستشراء الفساد والصراع الداخلي وأسهمت في تأخر محاولات مراكمة العمل الديمقراطي في العراق].
كل ذلك الإرث من الفوضى الذي أنتجته سنوات الاحتلال وما تلاها من سنوات حكم المحاصصة الطائفية لم يقدم حلولاً ناجعة لحياة كريمة للعراقيين، نتيجة هدر الجهود وضياع موارد البلاد والتفريط في زمن البناء، وبالتالي فإن الديمقراطية لم تقترن بعملية سياسية محسوبة النتائج، ولم تتمكن من توظيف موارد البلاد في البناء وإعمار الإنسان الذي أنهكته الحروب والصراعات، بل وصل الأمر إلى تصدع الهوية الوطنية العراقية الموحدة والجامعة والمتسامحة.
ومن هنا، نذكّر بمشروع الباحث والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان “استعادة الهوية العراقية الغائبة”، حيث يرى: (أن تبدأ بضرورة إقرار صيغة قانونية لـ”المواطنة المتساوية” والمتكافئة؛ وذلك بإجراء تعديل شامل للدستور، واستبعاد صيغة التقاسم الطائفي الإثني، التي اختبأت وراء مصطلح “المكونات” فهي لا تعني سوى المحاصصة، التي كانت أحد أسباب فشل العملية السياسية.
ولعل إقرار مبدأ المواطنة في دولة تعتمد قواعد الحق وحكم القانون دون أي تمييز ولأي سبب كان، سيكون أحد عناصر استعادة الهوية العراقية الموحدة في مجتمع متعدد الثقافات، لكنه من المستبعد قيام ذلك في وقت قريب، فمن الصعوبة بمكان الوصول إلى صيغة مماثلة في المدى المنظور؛ لعدم توافر إرادة سياسية موحدة، ولأن هناك قوى ومجموعات طائفية وإثنية مستفيدة ستخسر الكثير من مصادر نفوذها وقوتها، وستحاول التمسك بصيغة المحاصصة وعرقلة أي جهد لاستعادة الدولة لأحد مصادر قوتها الأساسية، حتى لو ادعت أنها ضد نظام التقاسم الطائفي والإثني، مع التأكيد على أن بعض مواد الدستور جامدة ويصعب تغييرها دون توافق سياسي مسبق، وهذا يجعل الأمر صعباً إن لم يكن مستحيلاً دون تغييرات جذرية وجوهرية تشمل إعادة النظر بمجمل النظام السياسي في العراق].
يرجح الكثيرون بأن العراقيين وصلوا اليوم إلى استنتاج مفاده: بأنهم لم يتمكنوا من العيش مجدداً في دولة مركزية، وفي ظل نظام شمولي، كما كانوا عليه إبان النظام السابق، الذي قادهم في مغامرات الحروب الطويلة وغزو الكويت وانتهاك حقوق الإنسان، والصدام مع المجتمع الدولي، وتلقي سيل من قرارات مجلس الأمن وعقوباته. وفي الوقت نفسه، ونتيجة التنوع المجتمعي دينياً ومذهبياً وعرقياً، وعمقه الحضاري الموغل في القدم الذي بلور تكوين إثنيات متعددة، يتطلع الشعب العراقي إلى نظام لا مركزي ديمقراطي، يصون الوحدة الوطنية ويحول دون تمزيق البلاد إلى دويلات مدن وحكومات محلية متناحرة من خلال إشاعة مفاهيم المكونات والفيدراليات القومية والطائفية. فهناك دعوات لمراجعة القوانين التي فُرضت خلال حقبة الاحتلال والمحاصصة، حيث (لا يبقى أمام العراقيين لتفادي الانقسام إلا قيام القيادات العراقية، من خلال لجنة التعديلات الدستورية، بإجراء تعديلات جوهرية في مواد الدستور المتعلقة بصلاحيات السلطة الاتحادية وصلاحيات الأقاليم لحصرها وإعادة بنائها، ووضع ترتيبات جديدة تضمن وحدة العراق كدولة].
وختاماً، فإن التغييرات الجوهرية التي يطالب بها أغلب العراقيين اليوم، وهي أن يستعيد الشعب هويته الوطنية ويتوقف التدخل الإقليمي المتعدد الأوجه، وخاصة من إيران وتركيا، ويتوقف نهب موارد البلاد المائية والنفطية؛ لكي يتمكن العراقيون من أن يحكموا أنفسهم ويتحكموا بموارده، فمهما يكن شكل الديمقراطية فلابد أن تعتمد على دستور يحظى بالتوافق المجتمعي، ولا يُفرض بأي شكل من الأشكال من قوى الغلبة السياسية، كما جرى في عام 2005، حين كانت البلاد تعيش حالة الصدمة التي حالت دون رشد وعقلانية القرارات التي صاغت ذلك الدستور المفرِّق لوحدة المجتمع، مع ضرورة إجراء تثقيف مستمر للأصول الديمقراطية وسبل التعبير عنها، من خلال الإيمان بالانتخابات النزيهة التي تجريها أحزاب تملك شرعية وجودها قانونياً ودستورياً.