إن للمستوى الثقافي دورا مهما في واقع المجتمع, والنظام السياسي كراعٍ لمصالح المجتمع ليس بالمؤسسة التي يشغلها ملائكة لا نحتاج كمواطنين أن نراقب أداءهم ونزاهتهم وانجازاتهم , ولم نتعرف , أو نسمع عن سياسي ظهر كمعجزة بيولوجية إذ وجد فيه العقل , والعقل فقط , لا غير , سياسي بلا نفس أمارة , وميول بشرية , ونزعات انفعالية , وحواس تتأثر بالمغريات ، وما أكثر المغريات في السياسة، ولو كان السياسيون ملائكة منزلين من عالم كامل لما اضطر المجتمع لتأسيس منظمات مجتمعية وأحزاب ومعارضة , ولما اختلف الرأي وانقسم إلى آراء , ولو كان السياسي ملاكا لاحتاج نظامه إلى مواطنين ملائكة , ونحن مواطنين وسياسيين ننتمي لعالم البشر.
مرّ على نظامنا الديمقراطي – والديمقراطية أنواع ومستويات – أكثر من عقد , تعرفنا فيه إلى نمط من الحكم لم نعهده نحن الأجيال التي ناهزت الثلاثة عقود من العمر قبل مجيء الديمقراطية , ففي عام 2003 بلغت من العمر السابعة والعشرين , أي أنني تعايشت مع نظام الحاكم الواحد لمدة سبعة وعشرين سنة , إذ تجاوزت الطفولة والمراهقة ودخلت في بداية أواسط العمر , وهذا الردح من الزمن ليس بالهين تجاوزه بسهولة وسلاسة والانتقال إلى وعي وسلوك جديد يتناسب مع المستجدات السياسية النوعية , وأن طرأ تغيير في ثقافة المجتمع فهو تغيير مؤلم ومتعب , إنه كعملية جراحية عميقة من دون تخدير , والخطورة شاخصة في كل لحظة , فالتدرجات الصحيحة للعملية لم تؤخذ بالحسبان , ومن الحب ما قتل .
جاءت الديمقراطية على حين غفلة , ديمقراطية اجتياحية , صحونا فجأة على صوتها وهي تصرخ : أنا سيدكم الجديد .. وجرت المراحل بسرعة لم تمهلنا للتعرف جيداً وعميقاً على سيدنا الجديد , وبلا مهلة للنضوج ركضنا إلى تلبية النداء الصارخ للديمقراطية الصارخة القادمة من أرض السيمفونية الصارخة , وما زلنا نستمع للاسطوانة رغم أن صانعيها رحلوا من أرضنا وواقعنا , وتركونا ننصت إلى هديرها وزئيرها.
يتصرف البعض بغطاء – ديمقراطي – اصطنعه لنفسه منطلقاً من رؤية تأويلية فضة تُبيح له سلوكيات فوضوية لا تُقيم للحرية بمعناها السامي أي قدر واحترام , والفوضى هنا هي الإرباك الذي صاحب الفهم المجتمعي للديمقراطية فظهر الخلل واضحاً بالسلوك كنتيجة للفهم الخاطئ , واستتبع الإرباك نوعا من الخلط في استيعاب المفاهيم المتعلقة بالديمقراطية , وجل الخطأ في المفاهيم نتلمسه في الأوساط الشعبية بالمجتمع , وإذا كان السياسي يتعمد الإتيان بالخطيئة بدوافع نفعية , فأي عذر للمواطن إن ارتكب جريمة تشويه صورة الديمقراطية عبر سلوكه اللامسؤول , ومثلما كانت الوجودية تعني تحمل مسؤولية الانعتاق من العدم إلى الوجود فإن الديمقراطية أعتقت الإنسان من عدمه في كنف الاستعباد والتسلط ونقلته إلى وجوده الحر في ظل نظام من اختياره يوفر له المشاركة الفعالة , ويسمح لإرادته لتنطلق في تحمل مسؤوليته كمواطن , ومن خلال هذه المسؤولية الواعية المفعمة بإرادة الفرد الراغب بالمشاركة مع مجموعة الأفراد الآخرين يُقام النظام الديمقراطي كتعبير انعكاسي لنوع تعامل الشعب مع الديمقراطية , فالديمقراطية كالمرآة تعكس ما يتراءى خلالها , فتبرز فيها معاني وملامح الوجه الماثل أمامها , وهي تُحجب بسطوة التسلط الدكتاتوري وتُستبدل بعاكس كاذب لا يُري الناس غير ما يراه ويعكسه المتفرد بالسلطة , وهنا لن يستطيع المجتمع إصلاح نظامه السياسي ومواكبة تطورات العوالم المتقدمة وتحديث نسخة الحكومة ومؤسساتها بما يتلاءم مع المستجدات العلمية والفكرية والاجتماعية , فتتكلس السياسة , ويصدأ النظام السياسي , وتتباطأ حركة المجتمع , والنتيجة تكون الانهيار .
الشعب , المواطنون , هم بُناة النظام الديمقراطي , وهم من يرعون هذا النظام , وهم من يصرون على بقائه وديمومته , وتطويره , وكيف يستطيع المواطنون الاحتفاظ بالنظام الديمقراطي دون أن يتمتعوا بأخلاقيات معينة تجعلهم جديرين وقادرين على الحفاظ عليه , والتضحية من أخلاقيات مواطن دولة النظام الديمقراطي , التضحية من أجل المواطنين الآخرين وتأمين مصالحهم ودعم مطالبهم والمناداة بحقوقهم , فكم من مواطن في أنظمة ديمقراطية رفع شعارات واحتشد في المظاهرات لشعوره بالروابط التي تجمعه مع مواطن آخر تعرض لغبن حقوق أو إساءة سياسية , مع أن نفس المواطن المتظاهر قد لا يكون منخرطاً في الاحتجاجات لدوافع شخصية , ولكن شعوره العميق بمسؤولية انتمائه للنظام – الاجتماعي – وما اكتسبه من ثقافة ذلك النظام تجعله يذوب في الجمع ويضم صوته لصوتهم ليصير أكثر دوياً وتأثيراً في عملية إصلاح وتطوير النظام – السياسي -. ونكتشف أن قاعدة إنتاج النظام السياسي هي النظام الاجتماعي , فالمجتمع انتظم في منظمات وتجمعات وأكاديميات ومؤسسات وقناعات جعلت من المواطنين أفرادا يتحركون بنظام اجتماعي راقٍ وعريق الثقافة , نظام فعال يتوثب للنضج باستمرار , نظام يُعبر عن نفس المواطن , نفس المجتمع , فهو توصيف للمجتمع الذي اكتسب قيمة تميزه عن غيره من المجتمعات المتخلفة عنه , المتأخرة وراءه , المهزومة خلفه , فمواطن النظام الاجتماعي الديمقراطي يعرف نظامه السياسي , يفهم نظامه الديمقراطي الحاكم , ويدرك أن الديمقراطية كنظام ثقافي عام لا تعني إلا ما تعني , وهو حين يمارس الديمقراطية لا يعني إلا ما تعنيه , فهو معني بها , ولهذا يعتني بها , ويتفانى لأجل قيمها ومبادئها وأخلاقياتها , ويحرص على الفصل بين ممارسته لحرية التصويت وممارسته للجنس , أو بين التجاوز على تجاوزات الحكومة والتجاوز على الإشارات المرورية , قد يغضب ويحطم الزجاج كردة فعل توبخ السلطة بطريقة التهديد المتدرج الذي مفاده أن الشعب مصدر السلطات وكلما ابتعدت الحكومة عن جادة الصواب فقدت كل الحاجات والمقتنيات والممتلكات قيمتها, فكل خطوة ابتعاد تُقابلها خطوة مماثلة , وهذا امتداد لأحد شعارات الثورة الفرنسية الذي رفعه الثوار , يقول الشعار : ( لن أقاتل ومعدتي خاوية ) , وثوار النضج الديمقراطي رفعوا شعارا يرجع لذلك الشعار , وشعارهم اليوم يقول : ( لن أحتفظ بمقتنياتي وكرامتي تُهدر ) , ولأن النفس الثقافي الديمقراطي يسمو إلى تلك المستويات الرفيعة من الفهم والتعبير فلا نتوقع قيام نظام سياسي متسلط يبطش بالمواطنين , أو يتعرض إلى اجتياح مفزع داهم العاصمة والمقار الحكومية ويسقط الدولة ويُحيد الشعب ويفرض عليه دستورا ونظاما سياسيا ومناهج ثقافية مستوردة , وإن كنا نتحفظ على النهج الاقتصادي وما فيه من أخطاء جسيمة تهدد كل ما في الدولة , ونتأمل من المواطن ( وأقصد المواطن الأميركي بالخصوص ) أن لا يستغرق كثيراً في ثوابت قد يكون فَهِمَ عنها ما يخالف حقيقتها , ولنا في هذه الموضوعة مقال آخر.
ونعود لمواطننا المبتدئ تواً بتلقي المفاهيم الديمقراطية , ونتأسف جداً لأننا مضطرون للبدء من حالات التجاوز على الرصيف , والتجاوز على ضوابط المرور , وحالات حشر الديمقراطية في كل سلوك وفعل وقول وتعدٍ , حتى أن الديمقراطية وفي كثير من الحالات عبرت عن الانفلات , والانفلات لا غير , فذلك الشخص المفتقر للقراءة والكتابة يعتقد بأن الديمقراطية تعني سب وشتم السياسي الفلاني العامل في الحكومة التنفيذية لأن قراراً يهمه لم يصدر , ولا يدري أن هذا القرار من صلاحية السياسي الفلاني الآخر , ولكن صاحبنا الغاضب لا يميز بين المناصب والصلاحيات والسلطات , فإن أغضبه شيء تهجم على أول سياسي أو شخصية حكومية تظهر على شاشة التلفاز , وكم من مثل هذه الحالات أشاهدها باستمرار , ونقف عاجزين عن توضيح ما نريد توضيحه للمواطن الغاضب , وفي مستهل مقالي جاءت العبارة التالية 🙁 نظرة للديمقراطية في الواقع الشعبي ) , وبعد العنوان الذي افتتحت به المقال مهدت لموضوعي بتمهيد ضروري لأن مجرد الكتابة في داخل شرنقة الحالة أو الظاهرة يجعلنا نتكلم وكأننا نُعيد ما حدث وقيل في داخل الشرنقة , سنفعل كما يرد في المثال التالي:
( مواطن: الديمقراطية تعني الانفلات.
الجهة التي تريد توعية المواطن: نحن نريد توعيتك ولهذا نقول لك إنك قلت: إن الديمقراطية تعني الانفلات!).
هذا المثال يوضح قصدنا من- داخل الشرنقة – فلم تأتِ الجهة التي تريد توعية المواطن بمقارنة تُظهر مكان الخطأ في فهم الديمقراطية , وفي إعلامنا المحلي ترد الكثير من الأمثلة المشابهة لطريقة التوعية أعلاه , وللإعلام دور فعال وعميق في تعريف الديمقراطية وثقافتها ومتطلباتها , تعريف صحيح يستخدم لغة قريبة من الناس ووعيهم , وعلى الناس أن يرتقوا بمستوى وعيهم وثقافتهم ليستطيعوا التفاعل مع الديمقراطية ونظامها المرتكز على المساواة والحرية , وليس من إنسان يحترم ذاته لا يطلب هذين العنصرين من الحقوق – المساواة والحرية – , والحقوق تؤخذ ولا تُعطى , والنظام الديمقراطي يعطي ويُعطى , المواطن يعطي صوته للنظام الديمقراطي , وبالمقابل يعطي النظام الديمقراطي الحقوق للمواطن , ووفق هذه الطريقة التبادلية تجري الدماء بالعروق – الدولة ومؤسساتها – في دورة كاملة , والعقل السليم في الجسد السليم , وعقل الدولة نظامها , والجسد الشعب , فكيف تصرفنا مع المجيء الثاني؟
كان متوقعاً من البعض أن تدخل الديمقراطية إلى العراق عقب أحداث غزو الكويت , والأحداث الشعبانية , وساعتها تصور الكثيرون أننا على أعتاب تغيير يأتي بفسحة من الحرية , وخابت الظنون , فقد حملت الديمقراطية صليبها وجُرت إلى جلجة العراق وصُلِبت , وعلى رأسها إكليل من شوك السياسة والطائفية , واليوم أتتنا الديمقراطية في غفلة سببت لنا الدوار لأن أحدنا لم يملأ سراج وعيه بزيت ثقافة النظام الجديد , ومضت عشر من السنين على العهد الجديد , ولربما شعر المجيء الثاني بخيبة , وقد نُقذف ببحيرة النار والكبريت.
كثر من الناس في مجتمعنا يتناولون الديمقراطية كأهزوجة تُذاع في دبكة لا ينقصها غير – البرنو – القديم الذي توافق مع يد الحاكم السابق , حين كان يطلق الأعيرة البرنوية فوق رؤوس عباد دكتاتوريته الراقصين فرحاً من نشوة التعود على ما ألفوه , ولم يعرفوا غيره من معرفة , وهل يتحول مواطنو “البرنو” الى مواطني النظام الديمقراطي بين ليلة وضحاها؟