كانت الحملة الانتخابية البريطانية على أوجها، التنافس المحموم -كالعادة- بين حزب المحافظين وحزب العمال. المرشحون من كلا الحزبين يجوبون المدن والشوارع والمقاهي والاسواق. جوردن براون رئيس الوزراء البريطاني كغيره من المرشحين يمارس طقس التجوال في الشوارع والاسواق ومقاهي الانترنيت لتحشيد المزيد من الاصوات وكسب تأييدها لصالحه، ومن الطبيعي جداً ان يكون مصحوباً بفوج من الصحافيين والاعلاميين بكاميراتهم ومايكروفوناتهم واجهزة التسجيل وسيارات النقل التلفزيوني المتحرك.
ولتلافي فوضى المايكروفونات واسلاكها ومضايقتها لرئيس الوزراء وللناس الذين يتحلقون حوله لتبادل الاحاديث، ولضمان وصول الحديث والتعليقات كما هي للمشاهدين وعدم استئثار محطة واحتكارها لتلك اللقاءات لأجل تلك الملاحظات اتفق مدير الحملة الانتخابية للرئيس براون مع الصحافة والاعلام على استخدام مايكروفون موحد يثبت في سترة السيد براون ويوصل بجهاز ارسال في جيب السترة يرسل الحديث الى الشبكات يومياً وبالتناوب ثم يسجل الحديث ويعمم الى الشبكات الباقية، في يوم الثامن والعشرين من نيسان كان الدور لشبكة سكاي المقربة من حزب العمال، وفي اليوم ذاته “خلال تجواله في احد الاسواق” التقته السيدة جيليان دافيي وشكت له قلة الراتب التقاعدي قياساً باسعار السوق ومتطلبات الحياة اليومية، وابدت قلقها مما تسمعه عن كثافة هجرة الاوربيين وغيرهم الى بريطانيا مع ماتنوء به بريطانيا من ديون، طال لقاء السيدة المتقاعدة اكثر من سبع دقائق فطمأنها الرئيس براون بأن هجرة الاوربيين الشرقيين للعمل في بريطانيا تقابلها هجرة من بريطانيا للعمل في اوربا ثم صافحها مودعاً.
فور مغادرة براون التف الصحافيون حول السيدة دافيي فأخبرتهم بأن السيد براون رجل طيب ومتفهم للاوضاع وانها ستمنح صوتها للحزب الذي ينتمي اليه-كان السيد براون- بعد توديع السيدة المتقاعدة دافيي قد ركب سيارته ونسي ان ينزع المايكروفون او يقفله واستمر بالحديث مع مساعده قائلاً: “من وضع هذه السيدة المتعصبة المتعنتة في طريقي تبدو عنصرية غير متسامحة لقد كان لقائي بها كارثة” طبعاً الميكرفون يرسل الحديث مباشرة الى اجهزة تسجيل عشر محطات تلفزيونية واذاعية. مراسل محطة سكاي “نيل باترسون” الذي كان الدور عليه في ذلك اليوم لم يقطع التسجيل بالرغم من علاقته برئيس الوزراء براون وآثر الاخلاص لمهنته فاصطحب السيدة دافيي الى عربة النقل واسمعها صوت براون وهو ينعتها بتلك الاوصاف بينما كانت تمتدحه. اسفت السيدة وقالت لن أمنحه صوتي.طبعاً المحطات العشر بثت التسجيل كاملاً وعلى الفور احتشدت الصحافة ومحطات التلفزيون في باب منزل السيدة لتكمل مايدور. الرئيس براون بعد ان اعتذر تلفونياً للسيدة توجه بنفسه الى دارها لتقديم الاعتذار عن زلة لسانه التي ندم كثيراً بسببها، واعلن ذلك الاعتذار امام الصحافة. براون قضى اكثر من خمسين دقيقة في بيت السيدة الفقيرة معتذراً ونادماً يطلب الصفح والسماح في اسى وانكسار، والمعروف عنه انه لايطيل لقاءاته اكثر من نصف ساعة حتى مع رؤساء الدول.
وهكذا تكون الديمقراطية ثقافة وتطبيقاً ميدانياً.
وحتى نعي ونؤمن بأن الديمقراطية لاتترسخ الاّ: بسيادة القانون، وحرية الاحزاب، وانتقال سلمي للسلطة بوجود انتخابات حرة نزيهة، ونشوء برلمان قوي، وسلطة قضائية مستقلة، وصحافة واعلام حر حرفي منضبط. حتى ذلك نكون قد بدآنا تسلق سلم الوصول الى الممارسة الديمقراطية وتطبيقاتها العملية كمنهج حياة وعيش حر كريم وادارة دولة ومؤسسات حكم. لان الديمقراطية رغبة انسانية قبل ان تكون ثقافة اصيلة تجسدت في ممارسات ميدانية وتطبيقات عملية كنا قد سبقنا شعوب الأرض في ممارساتها، يوم كانت الشعوب ترزح في دياجير التخلف، قبل ان نتراجع القهقرى ونسهم في صناعة الدكتاتوريات والطواغيت، لتتنعم شعوب العالم بها ونركن نحن للقنوط واليأس والندم ثم نعود باحثين عن انسامها بعد ان نكون قد دفعنا سنيناً وحقباً من الاعمار وقوافل واجيالاً من الشهداء في سبيل انتزاعها من مخالب الطواغيت المستبدين.