22 ديسمبر، 2024 5:55 م

الديمقراطية أبداً!

الديمقراطية أبداً!

أول الكلام:
العنوان أعلاه هو لكتاب الشيخ الأزهري خالد محمد خالد (1920 -1996)، وكنت في الثالث المتوسط قد قرأت بعضاً من مؤلفاته التي اشتراها الوالد من مكتبة أو قرطاسية الأستاذ الرائع هادي مواش في شارع الرسول في النجف، كان ذالك قبل شهرين أو أكثر من انقلاب الثامن من شباط عام 1963، وهي: من هنا نبدأ، ولكي لا تحرثوا في البحر، والديمقراطية أبداً..فأكببت على قراءتها بنهم وأنا معجب ومتعجب في آن؛ فكيف يمكن أن يكون هذا الكاتب التقدمي المستنيرم شيخاً من شيوخ الأزهر؟!
فقد كان ذا منحنىً علمانيّ، وهو نفسه مؤلف (رجال حول الرسول)، يحدثك عن الحرية ويقرنها باشاعة الديمقراطية وديمقراطية التعليم ويريد للديمقراطية أن تكون قرينة للحرية لكي لا نطالعها في الصحف أونسمعها من الراديو وحسب، بل أن تكون مشعلاً ينير لنا طريقنا ويشير الى أن مبادىء السياسة في العصر الاشتراكي ينبغي لها أن تكون سلوكاً يومياً ومنهجاً في حياتنا اليومية وقسيمة لشتى فئات الشعب!!
ومع هذا تتراجع المفاهيم بفعل وواقع مغاير حين تصبح قبضة الحزب الواحد خانقة لرقاب الناس في زمن الرئيس الاشتراكي جمال عبد الناصر، ويمنع الأحزاب ويحلّها لتنضويَ بالإكراه تحت راية تنظيم الحزب الحاكم “الاتحاد الاشتراكي العربي”..ولتحدث ازدواجية مازال يعاني منها الشعب المصري، بين ما يقرأ ويسمع عن الحرية والديمقراطية والوحدة والاشتراكية وبين ما يمارس من حرمان وإرهاب وفقر وظلم وبيروقراطية وامتهان للإنسان وكرامته، والإنسان هو من كبار المثقفين والكتاب والصحفيين والفنانين الى العمال والفلاحين الذين سيموا سوء العذاب في سجون نظام الحزب الواحد….ثم تنتكس التجربة بمدى ساعات في هزيمة حزيران ولتصبح ذكرى، ولتتكرر التجربة المنتكسة ونتائجها بمعظم الدول العربية ومنها عراقنا الحبيب!
***
مفهومان عصريان متلازمان فُرّط بهما، وأسيء إليهما، وإذا قلت ذُبحا من الوريد الى الوريد لا أكون مغالياً، هما الديمقراطية والاشتراكية، وإن شاء أحد أن أضيف له ثالثاً فسيكون الوحدة..وحيث أن الثالث لا يحتاج الى تأمل فسببه أن الوحدة ذبحها الوحدويون دون غيرهم، وكان الذبح بسكينة عمياء صدئة، فقد أسقطوا الجمهورية العراقية الفتية بسببها في الثامن من شباط عام 63، وحين اعتلو سدة الحكم جعلوا الوحدة وزارة لا مقر لها ولا ديوان سوى غرفة ومكتب وزير!!وكانت الوحدة أول الأقانيم تتبعها الحرية وثالثة الأثافي إن شئتم الاشتراكية..
الآن أتوقف مع الديمقراطية، فما من حزب حي أو ميت أو منظمة صغيرة أو تجمع إلا وتجد الديمقراطية لها حضور وقد تكون عنواناً أو تدخل في العنوان..أما “الاشتراكية” فقد نصل لونها لأن موضتها بطلت وأصبحت “دقة قديمة” كما يقول إخواننا المصريون، أما فلسطين فقد حذفت دون رحمة ..ومفردات مثل الاستعمار، والرجعية، والتحريفية… فقد حذفت هي الأخرى لأن الجميع غدوا تحريفيين، أرجو أن لا يزعل الرفاق الشيوعيون، فقد أعدموا دكتاتورية الطبقة العاملة بضمير مرتاح!! وأبقوا على سياسة التحالفات فهم عشاقها المتيمون الأبديون! ولا أدري مع من سيتحالفون فعلائم مقتدى وأهمها زيارته لإيران تدل أنه قد نوى وربما سعى “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى.” .. وليتنا نعرف مع من سيتحالفون؟!
قرأت مقالة للدكتور كاظم حبيب يشخص فيها علل التيار الديمقراطي، ويرى أن هناك حالة لا تسر من التراجع في الأداء متمثلاً في التشظي واستقالة أحد مسؤولي التيار في السويد، وأن وضع التيار هو الآخر في هولندا في في حالة أسوأ، ولكنه لم يخبرنا صراحة عن وضع التيار في استراليا أو بغداد أو في لندن…الخ، وحاول الدكتور أن يشخص أسباب التراجع ووعد بأنه سيواصل بحثه… ولي رأي آخر!
العراق وبقية الدول العربية هو (وهي) من نمط الانتاج الآسيوي، للبلدان المستعمرة والتابعة، يعني المتخلفة، فعراقنا ذو اقتصاد مشوه ومختلط، رعوي/زراعي متراجع، صناعي احادي يعتمد على البترول يستخرج ويضخ للسوق العالمية بدون صناعات تحويلية، وهناك انتكاس كبير في الصناعة بعد الاحتلال أسوة بالزراعة ماجعل البلدان المجاورة طامعة ومنتعشة في بقائه متراجعاً..وترى حتى الكويت تستأسد على العراق إي والله!! إن هذا التخلف الرهيب وشيوع النزعة الاستهلاكية ببناء المولات الحديثة وازدهار المطاعم وبؤس وفاقة متزايد أضرت بالقطاع الساحق من الشعب وتراجع مهول في التعليم والمدارس ووضع مأساوي في المستشفيات وعدم توفر المياه الصالحة للشرب وتخلف الامداد الكهربائي.. جعلت المواطن يكدح لأجل لقمة العيش ..مما عزز التخلف الثقافي والاقتصادي، وجعل الحكام يزدادون فساداً في ظل انعدام الرقابة وضعف واضح في الأحزاب ونشاطها..
فلا يمكن للديمقراطية أن تنتعش في ظل وضع متخلف، والأحزاب جميعها طالها السلوك المتخلف، من قبيل التحزب والتكتل، والمنافسة غير النزيهة، واساليب التسقيط والتشويه.. حتى المنظمات الديمقراطية في الخارج تعاني من التشرذم والتآمر وسياسة النبذ والإقصاء وسطوة العمل الحزبي على التنظيم الديمقراطي.. ويتكلم الدكتور حبيب عن التيار الديمقراطي كما لوكان كياناً راسخاً وأصابه التصدع! لا يادكتور لنكن واقعيين.. معظم أعضاء التيار هم من الشيوعيين المختلفين مع الحزب لكن المتسلطين هم الحزبيين وقسم آخر من المستقلين ومن القوميين وحتى البعثيين ومن كان في ركاب سلطة البعث!
إن خلطة من هذا النوع لا يمكن لها أن تكون ديمقراطية بل حتى العناصر النظيفة المخلصة تبعد، وفق الاخوانيات والتحزبات..وأن في التيار الديمقراطي من هم أتعس من البعثيين.. إن المناكبة من أجل الوجاهة واحتلال مسؤوليات الصدارة والممارسات الأنانية أفضت الى إبعاد وابتعاد مثقفين ومثقفات وشعراء وشواعر وضعف النشاطات وفقرها بل وموتها.. فما العمل؟
قبل سنوات أربع جرت مراسلات تتضمن نقاشات وكان رأيي مخالفاً لرأي القائد الشيوعي السابق، وهو أن مبدأ الديمقراطية قد شُوِّه نظرية وممارسة وكفر الناس بالديمقراطية التي أصبحت رديفاً عملياً للمحاصصة بل وستجد المحاصصة موجودة وحاضرة حتى في أي تنظيم ديمقراطي وكم صدقت النبوءة، فتجد في التيار الديمقراطي، الشيعي والسني، والمسيحي والمندائي، وروعيت الجهوية قد اخذوا مواقعهم محاصصة..الخ، والتي غذت روح التكتل والتشظي..وكان رأيي هو إيجاد تجمع لليساريين بمختلف انتماءاتهم والاتفاق على خطوط عريضة لايجاد برنامج انتقالي ذي نزعة يسارية علمانية يطرح البديل ويكون اداة استقطاب لعموم الجماهير التي ستكون جهاز رقابة شعبية تفرض نفسها لكشف مواطن الفساد.. ووجدت إن هذا هو البديل الذي يقطع دابر الطائفية والجهوية ويعطي مثالأ ملهما للجماهير التي تعبأ لخوض نضال مستمر.. فقد تعبت الجماهير من الإسلام السياسي، والآن الانحياز للتوجهات العلمانية يتعاظم..بعد الفشل الذريع لكل الاحزاب الدينية.. ولنا في تجربة السودان والجزائر والممارسة الديمقراطية في تونس أمثلة مشجعة ودروس ينبغي الاستفادة منها، والحديث يطول..
12 أيلول/سبتمبر 2019