جاء القرن العشرون بأفكار وحقائق جديدة ومغايرة عن الحياة الاجتماعية للأفارقة؛ فقد كان قبل ذلك ونتيجة لتأثير كتابات الرحالة والمستشرقين؛ توصف شعوبها وصفاً سطحياً؛ حيث دمغتهم بالهمجية؛ وهي سمة تتعارض مع الديانات التقليدية الأفريقية التي توحد بين الطبيعة والانسان، وتعتبره جزءً لا يتجزأ منها، وأنه يستمد وجوده من قواها؛ وذلك التعاطف بين الانسان الأفريقي وبيئته الطبيعية.
وقد تنبه الكثير من الباحثين في الشئون الأفريقية إلى كون الدين هو العنصر الفعال في الحياة الاجتماعية الأفريقية، ويشكل جزءً لا يتجزأ من المجتمع الأفريقي؛ لذا كان محور إرتكازهم في الكثير من أبحاثهم. وقد سبقتنا أوروبا إلى الدراسات الأفريقية؛ ووضعت بناءً على ذلك تصوراً لسياستها.
الدين وعلاقته بالسياسة :
دعا بعض المثقفين الأفارقة إلى النظر للتاريخ الأفريقي كإطار ملائم يتم من خلاله دمج القيم الأفريقية والمؤسسات في تركيبة مع الأسس الاقتصادية المتضمنة في نظريات التنمية المعاصرة. ويرى البعض أن دراسة التاريخ والثقافة الأفريقية يمكن أن تشكل دليلاً لمستقبل التنمية الأفريقية. وأن الأديان الأفريقية تشكل تضاريس ضخمة تتداخل مع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا جنوب الصحراء. ووفقا ل ” موريس دلافوس” مؤلف كتاب حضارات الزنوج في أفريقيا؛ فإنه لايوجد نظام سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي للقبائل في أفريقيا لا يستند على فكرة دينية؛ كون الدين هو حجر الزاوية فى ذلك النظام. وعلى خلاف الدول المتقدمة التى إستطاعت فيها قوى الحداثة فصل الدين عن النواحي السياسية الاجتماعية socio-political؛ ظل الدين كعنصر محوري فى الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في أفريقيا.
ومن الصعب تعريف الدين في سياق الحياة التقليدية الأفريقية؛ حيث تتعدد الديانات التقليدية الأفريقية بشكل يصعب حصرها وتبويبها؛ إلا أنه يمكن رصد الكثير من العناصر المشتركة بينها؛ حيث أنها تلتقي كلها على أساس واحد هو عمق الاحساس بالروابط الوثيقة التي تربط المجتمع بالبيئة الطبيعية التى يعيش فيها. والطبيعة ليست مادة ولا روحاً؛ بل هي قوى حيوية هائلة. وأن التماسك الاجتماعى ومراعاة النظام والاشتراك في الحياة العامة، والطقوس الدينية، والمساواة المادية إلى حد ما كلها فروض مكفولة بسلطان القوى الحيوية. وأن أقسى مايصيب الفرد أن يطرد من الهيئة الاجتماعية للقبيلة؛ لأن قوته الحيوية مرتبطة بتلك القوة الحيوية من ناحية وبقوة باقي الجماعة من ناحية أخرى.
وعند قبائل البانتو؛ التي تعد من أهم وأكبر الجماعات البشرية فى أفريقيا؛ فإن الشعائر والعبادات ماهي إلا وسائل تهدف إلى غاية واحدة هي تزويد الحياة البشرية بمدد من القوة الحيوية وضمان بقائها وكينونتها لأبعد مدى. وإرتباط السعادة والتعاسة بتلك القوة؛ ففي فقدانها التعاسة؛ فالإعياء والفشل فى العمل هي أعراض تدل على نقص هذه القوة.
وقد أدركت الديانات التقليدية الأفريقية الكون على أنه وحدة واحدة لا تتجزأ؛ أساسها الأخوة الشاملة. ولا يوجد تمييز بين الطبيعة وماوراء الطبيعة، ولا بين المادة والروح.
وترى جميع المجتمعات الأفريقية أن الحياة هي المكون الكبير وأن الدين يتخلل جميع جوانبها، ووفقاً لهذا التفكير فإنه يوحد الأجزاء. وممارسة الشعائر الدينية والحياة اليومية، يسيران جنباً إلى جنب. وعلى هذا النحو فإنه من خلال الرؤية الأفريقية فإن الدين يتخلل الحياة السياسية والاقتصادية الأفريقية.
وفى العديد من المجتمعات الأفريقية فإن من لاينتمون لأي شكل من أشكال الدين أقل من .01 % من السكان. وبالتالى كان التساؤل المطروح من بعض الباحثين هو كيف يمكن الدفع من خلال ذلك بالمجتمعات الأفريقية نحو التخلص من الفقر والفساد.
الإسلام والمسيحية وتأثير الديانات التقليدية:
بالرغم من اشتقاق الوعي الديني فى البداية من ممارسة الشعائر الدينية التقليدية؛ فأن المسيحية والإسلام أعطت مزيداً من الزخم لهذا الوعي. وقد تأثرت كل من المسيحية والاسلام في أفريقيا بالديانات التقليدية. حيث يشير عالم الاجتماع السياسي د/حمدي عبد الرحمن إلى مصطلح الإسلام الأفريقي الذي يعني المعتقدات والممارسات التي طورها المسلمون الأفارقة على مدى السنين، والتي تعبر عن واقعهم الأفريقي؛ ففي الطريقة المريدية في السنغال وهي إحدى الطرق الصوفية؛ وصفت بأنها تعاليم إسلامية بعقلية قبيلة الولوف.
ولأن الأفريقي جماعيا بنشأته، ومعتزا بإنتسابه لجماعته الدينية القديمة؛ فقد وجد في جماعات الطرق الصوفية وأتباعها الكثيرون خير بديلاً لجماعته الدينية القديمة.
وقد كان للديانات والثقافات التقليدية لفترة طويلة تأثير مهم في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في أفريقيا. فقد وفرت تلك الهياكل الأسرية التقليدية مع روابطها العائلية والمجتمعية القوية الأساس الملائم لتقبل المختلفين فى الديانات.
المجتمع المدني والرابط الديني :
هذه البنية الاجتماعية الجماعية، والهيئة الاجتماعية القوية المتماسكة التي تقوم على أساس دقيق والتي تميز المجتمع الأفريقي؛ يعتبرها بعض الباحثين؛ صورة من صور وأنماط المجتمع المدني. فعلى سبيل المثال يستطيع الغرباء أن يتوقفوا لعدة أيام ويقوموا بحصد المحاصيل الزراعية؛ وذلك لغرض سد الجوع، وكذلك قطع شجرة أو أوراقها يمكن أن يتاح للغرباء والمحتاجين، حيث يقوم مالك الأرض بوضعها في موضع معين يقصده المحتاج. كما يعد مفهوم التراكم المادي لتحقيق مكاسب شخصية دخيل على المجتمعات التقليدية الأفريقية. وأن تكون ثرياً؛ يعني أن تكون محاطاً بالناس والمجتمع، وأن تكون سليماً من الناحية الأخلاقية وفي تناغم مع الخالق وجذورك والمجتمع. وعلى سبيل المثال فإنه في Olulumo (من الجماعات الموجودة فى نيجيريا)؛ يطلق على الشخص الغني efang-ane وهي تعني حرفيا ” ثريا بالناس ووجود العديد من الناس بجانبه”. أيضاً فإن مفهوم الشرف والعار في المجتمعات الأفريقية له فائدة؛ كونه يمنع من السرقة لكي يحتفظ الفرد بالهيبة. حيث توصم السارق وأسرته بالعار من جراء هذا السلوك.
وهناك من يرى من النقاد بأن أنماط السلوك الإجتماعي الافريقي هي المسؤولة عن الضعف المادي للمجتمعات الأفريقية. ومع ذلك فإن النهج المتضمن داخل ما يعرف بإقترابات (نظريات) التنمية البديلة تحث الجنس البشري على العودة للحياة الاجتماعية البسيطة كحلول لمجابهة التحديات البيئية الاقتصادية العالمية.
وعلى الرغم من تآكل الممارسات التقليدية من جراء العولمة والحداثة؛ إلا أن الديانات الأفريقية التقليدية والإسلام والمسيحية؛ مازالت لها إسهامات حيوية في تقدم المجتمعات الأفريقية.
فالدين يشكل إطاراً مرجعياً، واختبار انتقادي لنظم القيم الموجودة فى المجتمع. كما أن القيم الدينية كان لها دور فى القانون المحلي والدولي، وفي الكثير من المفاهيم والقيم الديمقراطية. وتشمل هذه القيم قدسية الحياة الإنسانية والمساواة وكرامة الإنسان.
والتأثير غير المباشر للثقافة الدينية على الثقافة الاقتصادية والسياسية من خلال انتقال القيم الدينية لهذه المجالات؛ يمكن أن ينفع المؤسسات الاقتصادية والسياسية فى أفريقيا. ففي الديانة الأفريقية التقليدية يتحقق تعزيز القيم فى المجتمع من خلال إنغماس الفرد فى أنشطة المجتمع بمشاركته لجماعته؛ الذي يعد من القيم الروحية الأصيلة. هذه القيم أيضاً لها دور في بث روح التفاؤل في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية في المجتمعات الأفريقية.
الدين رأس المال الاجتماعي في أفريقيا :
ويعتبر الدين في أفريقيا هو مصدر رئيسي لرأس المال الاجتماعي، ورأس المال الثقافي والديني والروحي. كما ان مفهوم رأس المال الروحي والديني هو مماثل للمفهوم الأشمل لرأس المال الاجتماعي؛ لإن هذه الموارد مبنية على أساس الذي يمكن الأفراد والجماعات الدينية للوصول لسعادتهم. كما يمكن التبرع بالموارد نفسها للمجتمع الأكبر كهبة.
وباستخدام نموذج أفريقيو المهجر، ودور الدين كمصدر لرأس المال الاجتماعي؛ نجد أن الطوائف الدينية تساعد المهاجرين الجدد كنوع من تقوية الجذور وتمتينها؛ حيث توفر شبكة من التعاملات الاقتصادية والاجتماعية والدعم الروحي؛ لابقاء الرابط والصلة مع الدين في الموطن الأصلي ( المسيحية والدينات التقليدية).
على مستوى المجتمعات الافريقية فإن الدين له دور مهم في تعبئة الموارد لمعالجة مشاكل المجتمع. ويساعد في رفع مستوى الوعي حول مشاكل المجتمع بين الناس؛ كونه يخلق روابط بين الفئات الاجتماعية. حيث يرى بعض الباحثين ان مفهوم المجتمع المدني له جذور سواء على مستوى المجمتعات التقليدية الأفريقية، أو الجماعات الدينية.
ومثال ذلك الجماعات الإثنية وشبكات القائد والأتباع client -patron التي يمكن أن تكون مكونا رئيسيا ومهما في المجتمع المدني الأفريقي. فبالرغم من كونها لا تقوم على المعايير الديموقراطية بمفهومها الغربي، لكنها تتمتع بقدر من الاستقلالية عن الدولة. و يمكنها تعبئة كثير من أتباعها ومريديها لتحقيق غايات سياسية معينة. كما تعد الطرق الصوفية في السنغال مثالا واضحا لتلك الجماعات التى تستطيع التعبئة في إتجاه معين حيث تعتمد الدولة على هذه الطرق من أجل الحصول على التأييد السياسي.
وفي كثير من المناطق الأفريقية تطرح الجمعيات الإثنية نموذجا آخر للتطبيق الأفريقي للمجتمع المدني؛ بما تتسم به من طابع جماعي وتمتعها بقدر من الاستقلال عن الدولة. فهي تسعى غالبا إلى تحقيق مصالح جماعية ومن ذلك إنشاء وتمويل مشروعات تنموية محلية مثل المدارس والمراكز الصحية، بالإضافة إلى التعبير عن مصالح تلك الجماعة في مواجهة الدولة.
وهناك العديد من الدراسات التى تطرقت لدور المؤسسات التقليدية الأفريقية والكنائس في مرحلة مابعد الصراعات في العديد من الدول التي شهدت صراعات مريرة، في الإسهام في عمليات المصالحة والعدالة الانتقالية والتحولات السياسية والاجتماعية في تلك المجتمعات.
ولكن تبقى للعولمة تداعياتها على الثقافة الأفريقية التقليدية؛ شأنها في ذلك شأن العديد من النواحي الاقتصادية والسياسية؛ فمما لاشك فيه وجود تغيرات فى البنية الأفريقية الاجتماعية ذات الصبغة الجماعية بتلك المتغيرات العالمية وأخذها ذلك المنحى الفردي الذي تتسم به الثقافة الاستهلاكية الوافدة من الغرب.