حين تكون 68 في المئة من الدول العربية، إما دول فاشلة وإما على شفير التحول إلى هشة، فهذا يعني ان النخب والمؤسسات فشلت في ادارة الدولة، وحين لا تستفيد شعوبنا من دورس الماضي، لا سيما ما جرى خلال ثلاثة ارباع القرن الماضي، فهذا يدل على عدم القدرة على صياغة مشروع دولة، وأن كل الافكار التي كتبت في العالم العربي كانت مجرد صدى لا اكثر لمقاربات فكرية اوروبية، وغربية، ولم تؤسس لمشروع عربي، هذا من جانب.
من جانب اخر، فإن مشاريع الاحزاب العربية لم تعمل على ما يمكن أن يؤسس لدولة، لا سيما انها كانت تتمظهر في صورة تقدمية، لكنها تستخدم افكارا رجعية، غير قابلة للتحقق، فإلى ماذا قادنا ذلك؟
اليوم يواجهة العرب معضلة الحفاظ على الكيان، او بالحد الادنى عدم انفراطه، وهذا ايضا يؤدي إلى تأكل سيادة الدولة على النحو الذي يضعها تحت الوصاية غير المباشرة، وما يجعل الحكومات تعمل بحالة ضعف.
في هذا الشأن ممكن ان نأخذ امثالة من الواقع، فلبنان مثلا، يعاني من أزمة اقتصادية وسياسية خانقة وضعف مؤسساتي، وهذا موروث منذ العام 1958، وليس وليد اليوم، وعلى هذا الاساس فإن الحرب الاهلية بين عامي 1975- 1991، كانت احدى محصلات ذلك العجز، واليوم مع التأكل المستمر للسيادة فإن المعضلة باتت اكبر، وما يجري مجرد ادارة ازمة لا اكثر.
ليبيا، إذا اخذنا بعين الاعتبار ان المحاولات الجارية لتأسيس مشروع دولة فيها بعض الملامح لقوة فاعلة، ايا كانت هذه القوة، فإنها تصطدم باطراف تعمل لمصلحة للخارج، وهذا يزيد من تأكل السيادة، التي هي اليوم محصورة في مؤسسات يمكن اعتبارها مجرد ديكور لفرض هيبة ما لدولة نظرية ليست موجودة في الواقع.
أما السودان، فمنذ اعلانه كدولة مركزية يعاني من ضعف المؤسسات، ويواجه التقسيم دائما، لا سيما بعد انفصال الجنوب، واليوم من الصراع الدموي، ورغبة دارفور بالانفصال، فهو يواجه صراعات داخلية وأزمات اقتصادية وبنيوية، وتحوله كياناً فاشلاً، لن يستطيع التغلب على مشاكلاته، إلا اذا كانت هناك قوة داخلية واعية، تدرك أن الحل لا يكون إلا بالتخلي عن الخارج والتركيز على الداخل، وأن ما يمكن تحقيقه بالحرب يمكن ان يكون بالحوار، الطويل، البعيد عن الانصياع إلى الخارج.
الصومال، بالاساس، ومنذ بزوغ الدولة كان هناك ما يشبه التهميش للفئات لاخرى، بينما كان الحكم يقوم على نزعة فردية، ولهذا حين سقط نظام سياد بري اضمحلت الدولة، وبدأ الصراع يتشكل بوجوه متعددة، فيما التقسيم اصبح امراً واقعا.
العراق، منذ تأسيس الدولة في العام 1921، يعاني من اشكالية الهوية ومشروع الدولة، وهو اول بلد شهد محاولات انقلابية منذ العام 1938، ولا يزال يواجه تحديات أمنية وسياسية واقتصادية، وكيانية، بينما باتت وحدته مجرد شعار، لا سيما ان مع الحكم الذاتي لكردستان، ومطالبات شيعية وسنية بالانفصال.
اليمن، هذه الدولة قصة اخرى، فهي منذ وجودها ككيان تعاني من عدم وجود مؤسسات يمكنها تأسيس مشروع دولة، وهي تعاني منذ ماقبل الاستقلال، من الحرب المباشرة او غير المباشرة، ما جلب اليها حروب أهلية طويلة الأمد، وأزمات إنسانية كارثية، وانعدام السيادة، والقرار المستقل، وفراغ في السلطة.
هذه الامثلة تدل على أن تأكل السيادة ليس وليد المرحلة الحالية، بل هو موجود منذ زمن طويل، وعلى هذا الاساس فإن ما يجري في سوريا حاليا، مثال على ما يمكن ان تؤول اليه الكيانات العربية من تغيير في الجغرافيا السياسية، وليس بالضرورة الطبيعية، ويمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة، منها، ظهور كيانات انفصالية، مع الضعف الواضح للدولة المركزية، إذ تظهر جماعات مسلحة أو إثنية أو طائفية تسيطر على مناطق معينة، وتفرض سلطتها الخاصة.
ما يجري في سوريا اليوم اقرب مثال على ذلك، إذ رغم عدم وجود تغيير رسمي للحدود، لكن هناك خطوط تماس بدأت تتشكل، وما جري في السويداء، وقبلها في الساحل السوري مع الاقلية العلوية، مؤشر على اضمحلال الدولة المركزية، وتقسيم نفوذ.
هذا يشير إلى أن التغيير لن يقف عند حدود من يمسك بالقرار المركزي للدولة، بل إلى عدم قابليته على ادارة دولة بكل معنى الكلمة، وأن التدخل الخارجي اصبح امراً واقعا، لا يمكن لا احد نفيه، وكذلك لن تستطيع قوة محلية الامساك بالقرار.
إن سوريا تحديدا مع الفسيفساء الانثية والطائفية، تمثل نموذجاً عربياً صارخاً لما ستؤول اليه المنطقة، وكيف تنشأ خطوط تماس فعلية تفصل بين مناطق السيطرة المختلفة، وإلى نزوح جماعي للسكان، هذا يغير التركيبة الديموغرافية للمناطق المتأثرة ويخلق جغرافيا بشرية جديدة، كما حصل في لبنان إبان الحرب الاهلية، ولا يزال مستمرا، في وقت اخذت فيها بعض البلديات بمنع تملك ابناء طوائف اخرى في مناطق نطاقها الجغرافي في لبنان، ما إلى تغيير التوازن الديموغرافي التاريخي.
ضعف الحكومة المركزية في سوريا يفتح الباب أمام تدخلات القوى الإقليمية والدولية، التي تدعم أطرافًا مختلفة، وتعمل على تحقيق مصالحها الخاصة.
وهذا يمكن أن يؤثر بشكل مباشر على السيطرة على الأرض، والموارد، وفي بعض الحالات، على المطالبات الإقليمية، كما انها تشكل مناطق نفوذ لقوى خارجية داخل أراضي الدولة الضعيفة، مما يقوض سيادتها ويسهم في عدم استقرار حدودها.
إن كل هذا يجعل الخطوط الوهمية اليوم تتطور بمرور الوقت لتصبح حدوداً شبه دائمة في حال استمرار ضعف الدولة، فيما العرب يعيشون على رد الفعل، وهذا افظع نكباتهم، لا سيما أن ما يكتب بالدم اليوم، يصبح لاحقا واقعاً، واذا اخذنا بعين الاعتبار تساقط احجار الدومينو، فلن تكون هناك دولة عربية بمأمن بعد 15 او عشرين عاما.
كاتب، صحافي لبناني