– تراجعت الدولة من المنظِمة إلى المتحكّمة إلى الحاكمة نزولاً إلى ” الخادمة ” ثم الدولة / الحَكَم كما تشير ملامح المستقبل .
– كانت مرتكزات دولة التحكّم: القوّة ، الغريزة ، الخوف – أما مقومات دولة المستقبل فهي : العقل – الإدارة – الإشراف .
– بدأت الحضارة طفلاً مطيعاً مقتنعاً بلعبته ، وقد تنتهي طفلاً مشاكساً يكسر لعبته .
– مقولات العودة إلى دولة الدين أو دولة القوّة ، لم يعد لها نصيب في حسابات المستقبل .
– بإمكان العراق أن يكّون الدولة / الحَكَم ، شرط امتلاكه : فكر منفتح وساسة مبدعون .
” المستقبل للبرابرة ” ذلك ما أجاب به أحد أشهر الإقتصاديين العالميين في معرض تعليقه على موضوع يتعلق بأزمة الإقتصاد العالمي ، لكن من هم البرابرة التي تنبأ ذلك الاقتصادي لهم بامتلاك المستقبل ؟ وبناء على أية معطيات بنى مقولته؟
البرابرة مصطلح أطلقه اليونانيون على القبائل غير المتحدثة باليونانية ، ثم على الفرس ، بعدها وصف الرومان به القبائل الجرمانية ، ثم اتخذت منحى آخر حين ألصق بالغلظة والتوحش التي عرفت بها الشعوب المرتحلة خارج قوس الحضارة ، أما اليوم فهي تكاد تقتصر على وصف الشعوب ذات التكاثر المتسارع التي باتت تشكّل العبء الأكبر على مسارات الحضارة البشرية – خاصة الغربية منها – .
المتابع لسيرورة الحضارة في تعرجاتها وخطوطها البيانية ، سيخرج بخلاصة مفادها : إن الحضارة بدأت طفلاً مطيعاً مقتنعاً بلعبته،لكنها ستنتهي طفلاً مشاكساً يكسر لعبته .
لكن ماهي لعبة الحضارة /الطفل ؟ وماهي أدوات كسرها أو تدميرها ؟
هل هي الحرب ؟ أم الدولة ؟ أم المكتشفات ؟ أم المعتقدات ؟ ثم من سيكون أول الضحايا ؟ العدل أم القانون ؟ ومن هو أول الرابحين الإنسان أم الدين أم الدولة ؟
تلك أسئلة تحتاج إلى الكثير من التأمّل والكثير من البحث والمتابعة في الوقت عينه ،ثم صياغة المستخلص في نتائج متحصلة تبتعد عن التنبؤ أو الرجم في الغيب فذلك ليس من مهمات علم التاريخ ولا علم الإجتماع كذلك ،وهما الحقلان الأكثر قابلية لمحاولات القراءة والإستقراء في عالم المستقبل وتطورات الحضارة .
لكن الأهمّ في البداية هو تحديد مفهوم الحضارة ، كيف يمكن الحكم على هذه المرحلة أو تلك من عمر البشرية بأنها مرحلة حضارية ؟ .
عكس ماقد يبدو شائعاً في سهولة تحديد المعنى ، إلا أن النظرة الممعنة في مراحل التطور الحضاري ، تظهر بجلاء إن ليس هناك من مقاييس محددة يمكن من خلالها القول بسيادة الحضارة في حقبة ما، إذ يواجه الباحث سلسلة من المتضادات التي تجعل الحكم متعذّراً أو ليس متيسراً على الأقل ، لذا تتم الإستعاضة عن ذلك بمجرد الوصف الظاهري لما وصلته أمّة كانت سائدة في مرحلتها وبالتالي أرست أو حاولت إرساء ثقافتها وأنماط سلوكياتها بل ونشر معتقداتها الدينية ، باعتبارها المقياس الأصحّ والأصلح لما ينبغي أن تكون عليه الحياة .
على ذلك فمن المستحسن الحديث عن تطورات المستقبل من دون ذكر مصطلح ” الحضارة (*)” كي لايدخل الإلتباس طرفاً في المعادلة ، ذلك لأن الحضارة توحي بالتمدن حصراً وبالتالي ترتبط بمجموعة من السلوكيات المضبوطة بقوانين ونظم تحدد أو تجبر الإنسان على الإلتزام بها ،ونظراً لماتوفره المدن من أسباب الرفاهية
وحاجة الإنسان لإقامة شبكة من العلاقات المتداخلة في مستوياتها وضروراتها ، ما يستوجب طباعاً فردية وجمعية تستجيب لهكذا نوع من العلاقات ، لذا عنت الحضارة ” سلوكاً متمدناً وقدرة على التعامل مع البشر والمكتشفات وارتفاع مستوى التعليم واكتساب المعرفة والتقيد بالقوانين – الخ.
تلك مواصفات مرافقة للإنسان الحضاري ، لكن المدنية أفرزت بدورها سلسلة من ” الأمراض ” الإجتماعية المزمنة كالنشل والغش والإحتيال والإغتيال والتآمر ماشابه ، حيث تكون جزءاً رئيساً من شخصية المدن وملامحها المكوّنة ،فيما يقلّ ظهورها في الأرياف أو البوادي لبساطة الحياة فيها وسيرها على وتيرة تكاد تكون متشابهة حيث إلتصاق الإنسان بالطبيعة عيشاً وسلوكاً .
على ذلك فالحديث عن “الحضارة ” سيكون شائكاً وملتبساً ، أما المستقبل فهو الضيف الذي لم يحضر بعد ، لكنه الأكثر إشغالاً للماضي والحاضر معاً،حيث يقدّم الماضي له وصفاً ،فيما يرسم الحاضر ملامحه العامّة، ليكمل الفكر بقية الصورة .
المستقبل هو الوحيد من بين الأزمنة الثلاثة ، الذي يحمل معطى إحتمالياً يتضمن ثنائية الموت والحياة والغياب والحضور في آن ، ذلك لأن الماضي زمن ميت وإن استحضرناه ، والحاضر زمن يرقد عليلاً موشكاً على الموت وإن عالجناه ،لكن المستقبل مولود ننتظره بشغف لأننا لانعرف على وجه التحديد إن كان سيأتي معافى صحيحاً أم مشوهاً كسيحاً ،الإ انه في كلّ حال لن يولد إلا بموت الحاضر ، وعندها فقد يورث بعض ركائز الحاضر ليبني عليها إن كان فيها مايصلح للبناء وقد يهدمها ليبني من جديد وتلك ستكون المهمة الأصعب في كون المستقبل ” عصامياً ” لايملك سوى أن يشقّ طريقه بإمكاناته الذاتية ،من دون أن يكون وارثاً ليتمكن من تطوير نفسه والبدء من نقطة انطلاق متقدمة ، ذلك لأن الحياة ستسبقه بمراحل وتتركه خلفها يجاهد للحاق.
الماضي قد يكون الأسوأ فيما واجهناه ، لكنه الأجمل فيما عشناه ، فهو الطفولة في يفاعتنا ، واليفاعة في شبابنا ، والشباب في كهولتنا ، والكهولة في شيخوختنا ، أنه الشيء الذي لايعوّض ، قد يعيد الزمن بعض ما شهدناه،لكنه لن يعيد أبداً ما فقدناه, ولما كانت الأرض والإنسان يتشابهان في خاصيّة واحدة ” الشيخوخة ” فيما تمتلك الشعوب والمدن خاصية أخرى مغايرة ” التجدد” لذا يقف الإثنان على طرفي نقيض ،فالشعوب تجدد طاقتها وتطور معرفتها كي تساعدها في الحفاظ على ديمومة التجدد ،لكن ذلك سيكون مرفقاً حتمياً بزيادة مطردة في السكان وتوسع دائم في المدن ، مايعني استهلاكاً أكثر لموارد الأرض مع ازدياد التلوث وارتفاع درجات الحرارة وغيرها من المشكلات البيئية الناتجة عن نشاط البشر في سعيهم نحو التطور ، ولما كان ” عدد السكان يزيد وفق متواليات هندسية، بينما يزيد الإنتاج الزراعي وفق متواليات حسابية ” حسب نظرية عالم الإقتصاد الإنكليزي روبرت مالتوس الذي رأى إن هناك ترابطاً عضوياً بين تزايد عدد السكان وتطور كمية الإنتاج وبالتالي كلما تزايدت نسبة السكان ، نقصت نسبة الموارد الغذائية وهكذا ،لذا فالمتوقعات التي يرسمها المستقبل مصحوبة بالكثير من القلق .
كتب مالتوس نظريته في القرن التاسع عشر حيث لم يكن سكان العالم قد تجاوز المليار نسمة ، أما المدن فلم تكن أي منها قد تعدى سقف العشرة ملايين نسمة بعد،ثم وصل خمس منها إلى ذلك الرقم في الربع الأخير من القرن العشرين ، أما اليوم فهناك أكثر من عشرين مدينة تجاوزتْ هذا السقف من عدد السكان طبقاً لإحصائيات مراكز الأبحاث العالمية وتقديرات الأمم المتحدة .
لقد تضاعف سكان الأرض إلى مايقرب من سبعة أضعاف عمّا كان عليه آنذاك، ومع تقييد الدولة بحقوق الإنسان ، وإطلاق الإنسان بالحرية الفردية والمجتمعية ، بدأت تتضح أوجه أخرى لمسارات المستقبل ليست على متواليات هندسية بالضرورة ، ولاحتى بحسابات رقمية ، بل قد تكون عشوائية بنسبة ما، خاصة في هذه المرحلة التي يمكن وصفها بالرمادية ،أي تلك التي يشهد فيها الحاضر مخاضات عسيرة لمستقبل قد لا يكون سهل الولادة .
إذا استندنا إلى تجزئة المستقبل في مراحل ثلاث: قريبة ، متوسطة بعيدة ، فإن القريب منها يشهد تراجعاً ملموساً لهيمنة الدولة وإعادة صياغة لمهماتها، أما المتوسط ،فقد تتحول فيه الدولة من الحُكْم إلى الحَكَم وذلك بعد أن فقدت ميزة التحكّم منذ أمد طويل .
تراجع الدولة عكسياً ، يتناسب مع نمو السكّان وتعقيد وسائل العيش ، فأكثر أنواع الدولة تحكّماً ، هي تلك التي شهدتها عصور ماقبل الميلاد حين كانت أعداد سكان الأرض بأكملها تتراوح مابين 100/ 150 مليوناً ، فيما الإمبراطورية الأكبر من نوعها ( الرومانية ) التي امتدت على قارات ثلاث ، لم تكن تتجاوز ال 50 مليون نسمة ،أما عدد العرب الذين بدأوا عصر الفتوحات ، فما كان يزيد عن 10/ 15 مليون نسمة حسبما تذهب التقديرات .
في كلّ تلك العصور ذات البناء الهندسي من حيث التكاثر السكاني ، كانت الحضارة تتطور صعوداً في مستوى منجزاتها الصناعية وابتكاراتها ووسائل تواصلها وتبادلها التجاري والثقافي وماشابه ، فيما تراجعت الدولة من المتحكّمة في الإمبراطوريات ، إلى الحاكمة في الممالك والجمهوريات ، ثم إلى الخادمة في الديمقراطيات ، ومن ثم قد تصل إلى مرحلة : الدولة / الحَكَم .
القبضة المتحكّمة للدولة كانت قد بدأت بالتراخي ،مذ توسعت الإمبراطوريات القديمة درجة باتت فيها عاجزة عن فرض أنظمتها وقوانينها بالقوّة وحدها ،وبعدما كثرت الثورات و الفتن والإنتفاضات ضد الهيمنة الإمبراطورية ، لذا لابد من عامل تجديدي يمنحها زخماً آخر.
الدين هو “فن ” الحضارة و”بطلها” الأكثر فتوة وبأساً ،فيما الدولة مُخرجها الأكبر ،أما مسرحها ونظارتها وضحيتها كذلك ، فهم جموع الأمم والشعوب .
لقد جاءت الإمبراطورية الأكدية بالتوحيد تحت راية الإله الشاب شديد القوّة “مردوك ” وهو ماتبنته من بعدها الإمبراطوريات الرافدينية وإن ظهر بتسميات وأشكال أخرى كآشور ونمرود وغيره ، كما استندت الفارسية على الزرادشتية التي منحتها ثلاثة قرون من التوسع ، فيما وجدت الإمبراطورية الرومانية في المسيحية مصدر تجديد مدّها بعوامل البقاء، ثم جاء الإسلام بدولة متحكّمة كذلك استمرت مايقرب من ثلاثة عشر قرناً بتنويعاتها وأشكالها .
كانت الخلافة العثمانية هي آخر شكل للدولة المتحكّمة ، قبل أن تدخل البشرية طور الدولة الحاكمة التي مازال بعضها مستمرّاً بتصنيفاتها المختلفة (ملكيات ،جمهوريات – أميريات – الخ ) ثم الدولة ” الخادمة ” في عصر الديمقراطيات .
لاشك أن العرض العام لمسار الدولة عبر التاريخ ، لايعني تنميطاً تراتبياً ، فمن بداهة القول إن كلّ مرحلة انتقالية ، تحوي كذلك نماذج من الأشكال القديمة للدولة ، فيما يأخذ الجديد شيوعه وانتشاره ليحمل السمات الرئيسة لوصف هذه المرحلة أو تلك من عمر الدولة ، لكن القديم يأخذ بالتلاشي والزوال كلما زادتْ وتائر الأنماط الجديدة بالعمل والرسوخ .
الدولة المتحكمة والدولة الحاكمة يجمعهما نظام الإستبداد ، وفيما تلاشت الأولى ، وتراجعت الثانية وصولاً إلى طور الإنهيار الشامل ، تُظهر الديمقراطية إنها قد أنجزتْ مهمتها وباتت بحاجة إلى التجديد كي تضمن استمرارها ، مايعني أن الدولة كمفهوم ودور، يتطلب مراجعة جذرية تستنبط من خلالها أشكالاً جديدة .
إن الخروج من أزمة الدولة يتطلب فكراً جديداً مغايراً لما هو سائد ، لكن المفاهيم والإجتهادات مازالت تتمحور على شكلين رئيسين : العودة إلى دولة دينية لإيجاد الحلّ المنشود ،أو إعادة إنتاج لدولة الإستبداد باعتبارها الوحيدة القادرة على ضبط إيقاع التكاثر المفرط للسكان والإنهاك المتواصل للموارد (1) .
لكن كلتا النظريتين لايأخذان في الإعتبار إن ذلك لم يعد ممكناً ولا متاحاً كذلك ، صحيح إن الدين سيزداد انتشاراً بشكل طردي مع تكاثر البشر وقد يكون الرابح الأكبر في هذا الجانب ، لكنه سيأخذ شكلاً إيمانياً بحتاً ( فردياً / مجتمعياً ) لا إمكانية لاستثماره في مجال إعادة دولة الإستبداد ، ولا إقامة دولة العدل أو الحرية كذلك،وهو مايظهر جلياً في التراجع المطرد لحركات الإسلام السياسي وإخفاقها في إقامة دولة حديثة (2) .
ملامح دولة المستقبل ترتسم على شكل حَكَم يتفرغ لفضّ المنازعات بالتفاهم والقبول ، وهو مايحتمّ أن تقوم الدولة على مهنيين متخصصين ، إنها شبه بطبيب يلجأ إليه الناس عند المرض ، أو ربما يمثل ” الفريضة ” في العرف العشائري ،نموذجاً مصغّراً لما ستكون عليه الدولة / الحَكَم ، فحكمه مقبول غالباً بين المتنازعين رغم أنه لايمتلك مايمكّنه من فرض ما حكم به ،سوى سلطة معنوية متأتية من اشتهاره بالحكمة والعقل والقدرة على قول كلمة الحقّ ، في وقت يكون فيه محايداً ومترفعاً عن الغايات الشخصية أو الفئوية وبالتالي موضع ثقة .
على ذلك تتراجع تأثيرات الأحزاب والتجمعات السياسية في دولة المستقبل ، إذ ستصبح هذه التشكيلات من أدوات الدولة الحاكمة بأشكالها القديمة ، ومن ثم فاستمرار تأثيرها يفقد الدولة الحديثة أهمّ ميزاتها في كونها (دولة تنظيم لا دولة نظام ) .
وهكذا في وقت تتجه فيه الدولة لتصبح ” ديناصوراً ” يوشك على الإنقراض ،يتهيأ ” البرابرة ” وهم جموع الناس المتكاثرة ، لإنتاج دولة تشرف على تنظيمهم وتكون صالحة للاحتكام إليها بعد أن تجبرهم الحياة وتنهكهم المحن وشحة مصادر العيش وعجز ( الدولة / الخادمة) المتواصل عن تقديم الخدمات ،وبغيرذلك يمكن وصف الحضارة بأنها بدأت طفلاً نشطاً قانعاً بلعبته ، لكنها ستنتهي طفلاً حانقاً يكسر لعبته .
في هذا الجانب ، قد يمثل العراق نموذجاً لإمكانية الإشتغال على مفهوم الدولة / الحَكَم ، التي ستتكشف عن خيار يبدو ضرورياً لتجنب ماقد يكون أسوأ إذا استمر النهج الحالي في إمتهان فكرة الدولة وإبقائها في المنطقة الرمادية ، وبعكس ماهو ظاهر ، فإن الوقت ملائم للعمل على تهيئة مستلزمات (الدولة / الحَكَم) لتتحول من فكرة تُطرح إلى بناء يقام ، فالعراق القوي بذاته الضعيف بسياساته ، بإمكانه أن لايكون منحازاً وليس محايداً في الوقت عينه ،بل دولة يحتاجها شعبها كما يحتاجها العالم بصفتها حَكَماً (3).
(*):راجع ( مابعد الحضارة – ماقبل التاريخ ) تالياً .
(1) : راجع – علي السعدي (العراق بين الإنقسام الدولي والتطورات الإقليمية ) – صحيفة المواطن 21/8/2012.
(2) : ربما لم تعد التجربة التركية نموذجاً صالحاً للقياس على نجاح الإسلاميين المعتدلين ، خاصة بعد إن بدأت بالإنزلاق في مواجهة مطالب القوميات غير الطورانية .
(3) : كانت مؤشرات ذلك قد بدأت بالظهور فعلاً، فالمحور الإيراني / الروسي / السوري ، كان بحاجة الى الدور العراقي ، وكذلك المحور الأمريكي / الغربي / العربي ، وعلى العراق أن يعزز من صفته غير المنحازة وغير المحايدة في الوقت عينه ، تماماً كحكم بين فريقين .