ونكمل ما قلناه في الجزء الثاني من مقالتنا وفي جزئها الاخير ، ونقول:
والسؤال الذي يرد كيف يتحول الشخص العادي الى جلاد؟
يبدو أن قلوب الجلادين قد قدت من صخر صلد فهي قاسية متحجرة، فصاحب القلب السوي لا يحدث الأذى بأخيه الإنسان لمجرد التسلية أو التلذذ انه الانحراف الإنساني، وتحدثنا الأحاديث الشريفة إن امرأة أدخلت النار في قطة حبستها ولم تطعمها ولم تطلقها لتأكل من خشاش الأرض، وبلغ الحد بنبينا الكريم (ص) أن يأمر المرء بأن يحد سكينه ويريح ذبيحته حتى لا تتعذب، وأن الله يغفر تقصير العبد في حقه تعالى، ولكن لا يغفر جرم العبد على العباد، وهناك احتمالات أخرى واردة في علم النفس لتفسير تحول إنسان بسيط إلى جلاد ومنها:
أولا :أن الأشخاص العاديين وبمختلف المستويات الاجتماعية والثقافية معرضون للانصياع والطاعة العمياء عندما يتعرضون لنظام أيديولوجي يحظى بدعم اجتماعي ومؤسساتي وتذكيرا، الوضع أو الواقع هما اللذان سببا سلوك الأفراد أكثر من أي شيء موروث في شخصياتهم
ثانيا / مدى قبول ظاهرة التعذيب في الوسط الذي يعيشه أو يعمل به ومدى ممارسة أفراد الوسط أو زملاء العمل لظاهرة التعذيب، فالإنسان بصورة عامة يجنح إلى الاندماج والتأقلم مع الوسط لكي يشعر بأنه جزء من المجموعة.
ثالثا/ التنفيس عن مكبوتات فرضها المجتمع أو السلطة أو الدين على الأجزاء الغريزية في لاوعي الإنسان.
من حق الدولة أن توجه تهما لمن تعتقد أنه خرق القانون، لكن ليس من حقها التعسف في استخدام القوة، والسب والاهانة وإطالة اللسان بحيث تصبح خاضعة للمزاجية الأمنية، وليس من حقها أبدا التجاوز على معتقل لديها ولو بكلمة، سواء كان إرهابيا او سياسيا او ناشطا أم قاتلا، عملا وتطبيقا لقاعدة دستورية (المتهم بريء ما لم تثبت ادانته بمحاكمة عادلة) ودور الأمن أن يودع المتهم للتحقيق او للمحاكمة، فقد يكون بريئا.
حقيقة، ما يمارس في بعض مراكز الاعتقال مخالف للدستور والقانون والقيم، وهذا معاكس لمسار الإصلاح تماما، وعلى الدولة العراقية التصدي للخروقات وكل ممارسة غير قانونية ولا أخلاقيّة.
التعذيب أسوأ من الاعتقال وتوجيه التهم
هل يحق لرجل الأمن بعد أن أصبحوا المتهمين أمانة لديه أن يعتدي عليهم بالضرب أو الإهانة أو التعرية، او التعذيب وغير ذلك من ممارسات لا تولد إلا مزيدا من الغضب والمرارة والتصعيد؟
إن الأزمة تربوية ابتداء؛ فاحترام الإنسان وحقوقه لا يحتاج إلى قوانين ولوائح ومعاهدات.
دور الأجهزة الأمنية انفاذ القانون بالقوة، ومن حقها أن تطلق الرصاص على من يطلق الرصاص عليها وهي تدافع عن نفسها، ومن حقها، ضمن حدود القانون، فض اعتصام أو تفريق مظاهرة، الشرطة لا تحمل السلاح للزينة أو لاستخدامه في الأعراس، هي الجهة الوحيدة التي تمتلك حق إطلاق الرصاص، ولكن في حدود القانون، إن الفوضى وغياب الدولة نتيجة لخروج أي طرف على القانون.
تخيل أخي القارئ حال أطفال أكبرهم لم يتجاوز الصف الثالث الابتدائي وامهم وحيدين في بيتهم، وأفزعوا من نومهم وفجعوا باقتياد وخطف أبيهم دون امر قضائي وتركوا سهودا مستوحشين في ذلك الليل البهيم يعانون ألم فراق أبيهم ومصيره المجهول، وكم تؤلم تلك العبارات من الصغار عندما يسأل عن أبيه ويطلب أن يشاهد أبيه ويكلمه، فيا ترى كيف نرد على هؤلاء الصغار؟ هل نقول لهم أن أباكم الذي خطف وعذب ونكل به حتى مات؟ وهل نقول لهم ان عذابه كان ثمنه شهامته وكرمه لأنه استضاف أحد اقربائه بحسن نية، فكان جزاؤه الاعتقال والتعذيب الوحشي، وهل نقول لهم ان امكانيات الدولة وسياراتها وطائراتها واسلحتها وجنودها مسخرة لعائلة بعينها؟ وهل نقول لهم ان هناك قيادات حكومية وبعض من القضاة والمحققين المسيئين في الدولة، شاهدوا التعذيب وطالبو بالمزيد لنزع اعترافات كاذبة خاطئة؟ وهل نقول لهم ان اباكم لم يلقى الرعاية الطبية المطلوبة لأنه مريض وتم تعذيبه ليفارق الحياة، مظلوما مقهوراً مكبل بالأغلال؟ تخيل أخي القارئ أنت أو أي أحد من عائلتك مورس معه هذا العنف والتنكيل غير المبرر لمجرد وفد إليك ضيوف فأكرمتهم ومضوا لحال سبيلهم، ثم تأتيك كتيبة مدججة بالسلاح بعد منتصف الليل تقذف الرعب في قلوب صغارك وزوجتك وتتركهم في العراء لحالهم لمجرد اشتباه في هذا الضيف في اشتراكه في جريمة من الجرائم ضد الدولة والمجتمع.
هل نقول لهؤلاء الصغار ان من قام بالتعذيب والتنكيل والقتل وسفك الدم ينتمي للإسلام والمسلمين؟
أي قانون هذا؟ هو قانون الغابة ومن انتزعت الرحمة من قلوبهم …..
هل نقول لهؤلاء الصغار ان من قتل ابيكم تعذيبا وتشفيا وحقدا دفينا كان رجل امن ومسئولا عن آمن وسلامة المواطنين؟
ما ظل يثير حيرتي منذ أمد بعيد أن في العراق والدول العربية غالبا ما يكون (الأمن) منتهكا بواسطة (الأمن). وبعبارة أخرى كيف تكون كلمة (الأمن) لدينا مرادفة لكلمة (التعذيب)? لا من حيث النقيض بالنقيض يعرف. بل من حيث تأكيد حال قائمة. لعلها حكمة الساسة البالغة (حاميها حراميها).
أسأل الله أن لا تتحمل القيادات الحكومية والقضائية والتنفيذية والبرلمانية وزر الذين أخطأوا، وأسأله أن لا يكونوا مسؤولين عن تجاهل ظلم الظالمين، وأسأله أن لا يكونوا جهة يمارسون منها ظلمهم، أو طريقاً لمحاكمتهم الجائرة، أو سلماً يتسلقونه لتوجيه أذيتهم.
ويرى الكثيرين ان تعطيل مسيرة العدالة يعني المواجهة، وسيقدم للمقاضاة والحساب، الجلادون والآمرون بالتعذيب والمأمورون والمنفذون والمحرضون والساكتون عليه رغم علمهم به، كل سيلاقي جزاءه لكي تظل بلادنا آمنة مطمئنة ويعيش العراقي آمناً حراً موفور الكرامة، ولكي نطهر عراقنا من رجس هؤلاء وممن تسول له نفسه مستقبلاً آتيان هذا الفعل الشائن المخزي وهو التعذيب.