23 ديسمبر، 2024 4:53 م

الدولة بين الدين والعلمانية

الدولة بين الدين والعلمانية

مع اتساع مساحة الحديث عن الانتخابات التشريعية للدورة المقبلة ترتفع حدة مطالبة الشارع العراقي إلى فصل الدين عن الدولة وارتفع شعارا قديم يتجدد يقول (( باسم الدين باكونا الحرامية )) وظهرت دعوات لإبعاد رواد الإسلام السياسي عن الانخراط الواضح والكبير في قيادة وإدارة الدولة العراقية ولهذا أسبابه ومبرراته التي تصح في بعض الأحيان وتخطيء في أحيان أخرى كثيرة وهي لم تأتي اعتباطا وعن فراغ وإنما جاءت اثر تجربة مريرة من معانات الشعب العراقي بدأت منذ عام 2003 ولا يبدو أنها ستنتهي في المنظور القريب فهل يتقاطع الدين مع قيادة الدولة إلى الحد الذي يجب إبعاده وعزله عنها .

حقيقة إن اغلب رواد هذه الدعوة هم ممن تأثر بالفكرة الغربية الناجحة التي تأسست على إثرها دولة الفاتيكان كقيادة دينية وعزلها عن العمل السياسي وتهيأ من الناس من يعمل هناك في حقل السياسة حصرا دون النظر إلى خلفيته الدينية وانتماءاته العقائدية وفي الأغلب الأعم لا يعرف رواد هذه الدعوة الأسباب الحقيقية التي دفعت الغرب إلى تبني هذا النهج الذي جاء بعد أن عانت ما عانت أوربا من ويلات الحروب التي تسببت بها الكنيسة إبتداءا من الحروب التي سميت بالصليبية وما حصل فيها وما بعدها من انشقاقات في المجتمعات وفي ذات الكنيسة وبغية الوصول إلى الاستقرار المجتمعي كان لابد من عزل السلطة الدينية عن السلطة السياسية وأصبحت دولهم على الحال الذي نراه اليوم وطبعا هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن السلطة الدينية فقدت شيء من قدسيتها هناك .

إن هذا الحال لا يمكن أن يطبق في البلاد الإسلامية عموما وفي البلدان العربية خصوصا ولنا في ذلك تجارب كثيرة في تاريخنا القديم أو الحديث والمعاصر حيث كان العامل الديني من أهم عناصر تحريك الشعوب فقد لعبت الجمعيات الدينية في التحريك الشعبي ضد الاحتلال العثماني وما تلاه من إحتلالات البلدان العربية بريطانية أو فرنسية أو غيرها وحتى بعد الاستقلال الصوري الذي تمتعت به الدول العربية كان العامل الديني هو المحرك الأساسي للثورات والانقلابات في مصر أو العراق أو الشام أو حتى في دول المغرب العربي والى الآن معروف طبيعة العلاقة الجدلية والآصرة القوية في المملكة العربية السعودية مثلا أو قيادة الدين للدولة في إيران مثال أدق وأوضح رغم بعض الاعتراضات الصغيرة التي تظهر بين الحين والآخر في هذا المكان أو ذاك .

الحالة العراقية لا تبتعد كثيرا عن حالات الدول الإسلامية القريبة فان العامل الديني كان من أهم أسباب الحراك الشعبي منذ بدء العدوان البريطاني بداية القرن العشرين وتلاحق الثورات والانتفاضات ضده لغاية تثبيت نظام الحكم بعد إسقاط النظام السابق عام 2003 بل وذهبت الأمور إلى ابعد من ذلك حيث لعبت أطراف قيادة الدولة على الوتر الطائفي الأشد والأعمق تأثيرا في كسب الدعم والتأييد الشعبي الذي تضاعف مع مرور الوقت ولقد ساعدت كثير من الأطراف في تنميته وتقويته واللعب عليه رغم إن القوى العلمانية هي أكثر من يدعو إلى إبعاد رجال الدين عن الاشتراك في العملية السياسية

وألآن وإذا كان الدين الإسلامي هو مصدر الهام كاتب الدستور والمجتمع وان كل أعرافه وتقاليده لا تتقاطع مع شرائع السماء والناس كل الناس تتقيد بالتعاليم السماوية فما المانع أن يكون رجل السياسة من المتفقهين أو علماء الدين أو من أصحاب اللحى والعمامة والجلباب ؟

إن تجربة الشعب العراقي مع حكم المتأسلمين خلال الفترة الماضية منذ 2003 لحد الآن أنتجت تصورات لا بل حقائق ملموسة عن الانحدار بالبلد إلى مراحل متأخرة في مقاييس التقدم بين دول العالم فانتشرت الأمية وتدني في مستوى التعليم وتدهور الخدمات الصحية وسوء إدارة أجهزة الدولة وانسياق القضاء وراء السياسة وتراجع مخيف في الصناعات واعتماد اقتصاد الدولة على العائدات النفطية التي فقدت نصف عائداتها لصالح الشركات النفطية الاستثمارية من خلال جولات التراخيص السيئة الصيت وأهملت موارد الصناعة المحلية ناهيك عن الكارثة الكبرى في سيطرت أوباش الأرض داعش ومن دار في فلكها على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية والعودة إلى الحروب بعد أن ساد شعور بنهايتها وحدث ولا حرج عن سوء الوضع الأمني وغيره الكثير قد ساعد في بناء تصورات حقيقية عن فشل التجربة وباعتراف رموزها وساعد على المطالبة بإبعاد هؤلاء الناس عن المشاركة في الحكم فهل الخلل فيهم أم في انتماءاتهم وعقائدهم الدينية .

لم نسمع في مراجعة التاريخ في كل مراحله إن الدين ابتعد عن الفضيلة وفارقت عدالته القضاء ولم نسمع أن الدين عفا عن السارق مهما صغر عمره أو مقدار سرقته ولم نسمع إن الدين حارب العلماء وقتلهم وعرفنا إن الدين حارب الأمية وقاوم تفشيها بين الناس ولم نسمع إن احد الأديان حارب الجهاد في والدفاع عن الوطن ولم نعرف يوما إن الدين ابتعد عن التكافل الاجتماعي ومساعدة الضعيف وفتح فرصة العمل ولم يحارب الدين في يوم ما من جد في زراعة أرضه ولنا في ذلك أمثلة لا تقبل الشك أو الرد من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة وسيرة الخلف الصالح وهذا بلا شك ينتهي بنا إلى إن أصلح من يقود البلد هم رجال الشريعة والمتفقهين فيها وأئمتها ومن يحفظ تاريخها وتجاربها إذا تمسك بالدين وابتعد عن مخالفة الدستور .

في وسط الازدحام الشديد الذي وفره الدستور لمن هم في مواقع القيادة وإدارة الدولة اشترك عدد غير قليل ممن اخذ العمامة والجلباب زي الدين وارتداهم وتمسك به وابتعد عن روحه وتشارك مع السياسي في السباق المحموم والتشبث بالكراسي والتمتع بالامتيازات السياسية .

لقد صدق علماؤنا حين قالوا إنما لبس السراق جلباب الدين .