تكتسب موضوعة بناء الدولة المدنية الديمقراطية في بعدها النظري والتجريبي أهمية استثنائية في واقع العراق الحاضر. حيث يدور الصراع على أشده سلماَ وعنفاَ بين القوى السياسية من أجل إعادة بناء الدولة العراقية، وفق مصالحها الطبقية والطائفية والقومية والإقليمية والدولية. ولذا حري بنا ونحن نتبنى المشروع الوطني الديمقراطي الذي يمهد الطريق لبناء أسس هذه الدولة، أن نتعمق ببحث هذه الموضوعة للتعرف على سيناريوهات التحول الديمقراطي ومقومات ومعوقات الدولة المدنية الديمقراطية، وأن نعمل على التثقيف بها على أوسع نطاق ممكن مقابل نقيضتها دولة المحاصصة الطائفية-الإثنية، في ظل بنية اجتماعية -اقتصادية متخلفة، وغياب يكاد يكون تاماً لثقافة البناء الديمقراطي، نتيجة العزلة التي عاشها العراق وهيمنة فكر الحزب الواحد.
تاريخيا لم يجرب العراق مشروعا ديمقراطيا بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد عانى من اجله طويلا، وتحول من حيث كونه قيمة وغاية إلى جزء جوهري في وعيه السياسي، لكنه لم يتغلغل في وعي الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية إلى ما يمكنه أن يكون مرجعية فكرية وسياسية واجتماعية وأخلاقية. أي أن الديمقراطية من حيث كونها مبدأ لم تتحول إلى جزء من تاريخ الدولة. على العكس كانت الدولة في صراع عنيف مع مبدأ الديمقراطية. مما جعل منها محل تخوين وتجريم افقدها القدرة على النمو الطبيعي، كما افقد القوى السياسية قدرة استيعاب مضمون الديمقراطية بالشكل الذي يجعلها معقولة ومقبولة. وفي هذا يكمن أحد الأسباب التاريخية والسياسية والأيديولوجية الكبرى لهزيمة المشروع الديمقراطي في العراق، كما تكمن فيه أيضا مقدمات التعقيد الهائل للانتقال إليها(1) بعد سقوط النظام بواسطة العامل الخارجي.
تعريف الديمقراطية
تعبر الديمقراطية عن مفهوم تاريخي اتخذ أشكالاَ وتطبيقات متعددة في سياق تطور المجتمعات والثقافات. وتقوم فكرتها الأساسية على حكم الشعب وممارسته الرقابة على الحكومة. ويتمثل جوهر الديمقراطية في توفير وسيلة منهجية وحضارية لإدارة المجتمع السياسي بغية تقدم المجتمعات. وظهرت في شكلها المبكر مع ازدهار الحضارة الإغريقية ونشوء دولة المدينة. ومورست بشكل مباشر واقتصرت على الأقلية من الأحرار دون العبيد والنساء وفي ظروف عدم الفصل بين السلطات. وظهرت الديمقراطية الحديثة نتيجة الأفكار التي انبثقت عن فترة النهضة الأوروبية. ولم تظهر بالمعنى الليبرالي إلا في القرن الثامن عشر عندما بشر المفكرون الغربيون بفكرة المساواة.(2) وكان روبرت دال من أهم دارسي الديمقراطية المعاصرة في الغرب قد أعاد تعريفها بأنها نظام حكم الأكثرية. ويرى أن هذا النظام يتميز بخاصيتين أولهما أتساع حقوق المواطنة لتشمل كافة المكونات السكانية وثانيهما يتضمن حق المواطن في تنحية أعلى مسؤول في الدولة من منصبه من خلال التصويت في الانتخابات.(3)
إن الحديث عن تبلور مفهوم تاريخي للديمقراطية ينبغي ألا يقود إلى النظر إلى الديمقراطية كنموذج نظري جاهز يمكن تطبيقه في أي مكان. حيث لا تزال الديمقراطية تخضع للظروف التاريخية وتتكيف مع معطياتها. لذلك فهي مفهوم حي متغير ومتبدل يعكس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات ويبرز مطالبها.
والديمقراطية مسيرة طويلة ومستمرة وليست نظاماَ يولد منذ البداية كاملاَ وأن هناك خطوات ومراحل يمكن ملاحظتها في التطور الديمقراطي ومن المفيد جداَ للبحث العلمي ألا يتجاهلها ولا ينكر أي عنصر مهما كان بسيطاَ وجزئياَ في مسيرة التحول.(4) وتتطلب الديمقراطية فترة نضوج مناسبة وصبراَ ونفساَ أطول في حالة المجتمعات الأقل تطوراَ مثل العراق.
سيناريوهات التحول الديمقراطي
لا يوجد طريق واحد لإنجاز التحول الديمقراطي، فالتجارب السياسية في جنوب وشرق أوروبا، وجنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، في العقود القليلة الماضية، تشير إلى طرق ومداخل مختلفة. كما أن الدراسات الأكاديمية انتهت إلى تقديم قائمة طويلة من الأسباب التي تفسر الانتقال إلى الديمقراطية في تلك التجارب. ولعل تعدد العوامل المؤثرة في عمليات الانتقال، وتفاوت آثارها باختلاف المكان والزمان يفسران إلى حد كبير ظهور أكثر من سيناريو للتغيير والانتقال للديمقراطية.
فهناك مدخل الخروج من الاستعمار إلى الحكم الديمقراطي مباشرة، كما حدث في الهند وماليزيا. وقد شهدت هذه الحالات بعض أعمال العنف بشكل دوري. إلا أن نجاح العملية السياسية وقادة الاستقلال واختياراتهم استطاع منع انفجار الاوضاع وفشل الانتقال. أما المدخل الثاني، فهو الانتقال التدريجي من نظام حكم الفرد أو القلة إلى نظام ديمقراطي. وقد شهدت معظم هذه الحالات اعمال عنف بدرجات متفاوتة. إلا أن توافق قادة الانتقال، ونجاح التحول الديمقراطي، وبناء مؤسسات الحكم الديمقراطي، أسهمت في استقرار الأمور. ويتمثل المدخل الثالث، في انهيار نظم حكم الفرد أو القلة، وإقامة نظام ديمقراطي. وعادة ما يصحب هذا قدر من العنف. فانهيار أنظمة الحكم القديمة عادة ما يتم من خلال التظاهرات والاحتجاجات قد تتطور في بعض الحالات إلى أعمال عنف، وثورات مسلحة وانقلابات عسكرية.(5) ويندرج سقوط النظام في الحالة التونسية والمصرية والليبية ضمن هذا المدخل. وهناك المدخل الرابع، وهو التدخل الخارجي الذي يتضمن صورا متعددة، منها الضغوط الدبلوماسية والاستخباراتية، والأدوات الاقتصادية المشروطة، والتدخل العسكري المباشر لتغيير نظام الحكم. وغالبا ما يترتب على استخدام هذا الأسلوب الكثير من أعمال العنف(6) كما حدث ويحدث في افغانستان والعراق، وهو دليل على صعوبة نجاح هذا المدخل وخاصة في الدول النامية.
لذلك فإن بناء الدولة المدنية الديمقراطية في العراق لابد أن يعكس سمات البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية للمجتمع وتوازن القوى السياسية، وتكون له خصوصية بقدر معين تتناغم مع هذه البنية، والتي يعاد تشكيلها كلما تعمقت مسيرة البناء الديمقراطي.
المقومات
عندما نتحدث عن المقومات السياسية- الاجتماعية لبناء الدولة الديمقراطية فهذا يعني بشكل عام مجموعتين من العوامل: العوامل الذاتية والموضوعية. الأولى تعين للحركة أهدافها وقيمها التي تناضل من أجل تحقيقها وتغيير الواقع الموضوعي للوصول إليها. أما الثانية التي لا تقوم أي حركة متميزة ومنظمة من دونها أي البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تخلق الحركة وتشترط تطورها وتعين آفاق عملها. ويكمل هذان العاملان بعضهما بعضاَ كما يتوقف أثر كل واحد على الآخر. وإذا لم يجتمعا معا لا يمكن إحداث أي تقدم حقيقي على هذه الجبهة. فقد يسمح النضج النظري والسياسي بإحداث تغييرات ديمقراطية سريعة تساهم في إعادة تنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والتقليل من الفوارق الطبقية أي في تغيير الشروط الموضوعية لممارسة الديمقراطية. وعلى العكس قد تساهم الظروف الموضوعية المفاجئة أو الناشئة من تراكمات بطيئة في إحداث طفرة فكرية. وهذا يعني أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق دون محتوى اجتماعي واقتصادي وثقافي خاص بها.(7) وبهذا الصدد يذكر الدكتور عامر حسن فياض بأن ضعف الطبقة الوسطى في العراق يجعل مقومات وجود واستمرار البناء الديمقراطي ضعيفة وهو ما يضع أمام استيطان الديمقراطية الليبرالية في البلاد شرطين هما (الوعي) الذي يضطلع به المثقفون وشرط الحكم ومؤسساته الديمقراطية المصاغة وفق الصيغة الدستورية البرلمانية.
وهناك مقومات عامة مشتركة أخرى بين أنظمة الحكم الديمقراطية. وهذه قادرة على استيعاب ثوابت المجتمعات التي تتخذ من الديمقراطية منهجا ونظام حكم. وتتمثل هذه في أربعة:
أولها، الشعب مصدر السلطات نصا وروحا وعلى أرض الواقع، وأن لا تكون هناك بشكل ظاهر أو مبطن وصاية لفرد أو لقلة على الشعب أو احتكار للسلطة أو الثروة أو النفوذ.
ثانيها، المواطنة الكاملة المتساوية الفاعلة، واعتبارها مصدر الحقوق ومناط الواجبات من دون تمييز بسبب الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي أو الجنسي أو أي اعتبار سياسي أو اجتماعي آخر. ويذكر ماكيفر بهذا الصدد أن مبدأ المواطنة هو أهم اكتشاف تحقق في أوروبا، وبفضله تحولت الصراعات المدمرة والحروب الأهلية بين الشيع الدينية إلى صراع سلمي.(8) علما إن ميلاد مبدأ المواطنة في الغرب تم بشكل تدريجي من خلال الثورات السياسية والثقافية والاجتماعية المتتالية التي امتدت ثلاثة قرون على الأقل. وتميزت عملية البناء هذه بالصراعات بين مختلف القوى المتعارضة المكونة للمجتمعات الأوروبية، مثل التجار ورجال الدين وغيرهم. فالمواطنة من حيث هي حركة تاريخية تهدف باستمرار إلى توسيع مساحة مشاركة المواطن في الحياة العامة.(9) وتؤكد تجربة العراق”استحالة نجاح أي نهج يقوم على الاستئثار والاقصاء والتهميش. كذلك عدم إمكان اقامة دولة القانون والمؤسسات من دون اعتماد المواطنة المبرأة من ادران التخندق الطائفي”.(10)
ثالثها، التعاقد المجتمعي المتجدد الذي يتم تجسيده في دستور ديمقراطي ملزم لكل مواطن، بما فيهم الحاكمين. ويتجلى ذلك المبدأ في المشاركة الفاعلة للمواطنين في وضع الدستور وتعديله وفقا لاحتياجات الاجيال المتعاقبة. وفي العادة يوضع الدستور من قبل جمعية تأسيسية منتخبة. (11) إن الدستور الديمقراطي ليس مثالياَ ولا هو نموذج موحد في جميع الدول الديمقراطية على الرغم من اعتماده على المبادئ الديمقراطية ومراعاته لتطورات الفقه الدستوري بل يجب أن يكون عقداَ سياسياَ واجتماعيا يراعي الواقع ويأخذ في الاعتبار ضرورات التوافق السياسي. فلكل مجتمع ظروفه الخاصة ومرجعياته الثقافية. كما أن لكل مرحلة من مراحل الممارسة الديمقراطية ظروفها الخاصة ومتطلباتها. والدستور يجب أن يكون محصلة توافق على قواسم مشتركة من خلال عملية التفاوض السياسي بين القوى المقتنعة بضرورة السيطرة على مصادر العنف والساعية إلى إدارة أوجه الاختلاف سلمياَ وفق شرعية دستورية تحتكم جميع الأطراف لها.(12)
رابعها، الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتحقيق التوازن بينها. بحيث تستطيع كل سلطة أن توقف الأخرى. لاسيما السلطتين التشريعية والتنفيذية عند حدودها إذا ما تجاوزت حدود سلطتها القانونية. أما السلطة القضائية فيمكن أن يكون دورها أوسع وأقوى في وجه السلطتين التشريعية والتنفيذية بالنسبة للأولى عن طريق الرقابة على دستورية القوانين والثانية عن طريق مراقبة مشروعية الأعمال الإدارية وعندها يتحقق قول مونتسكيو ” السلطة توقف السلطة” وهو القائل أيضاَ ” إذا اجتمعت سلطتان أو أكثر في يد واحدة انعدمت الحرية ولو كانت في يد الشعب ذاته”. ولم تأخذ الدساتير الحديثة بنمط واحد في توزيع السلطات إذ جرى الأخذ بأنماط تتناسب مع الفكر الدستوري السائد في كل دولة حسب ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقد حل محل الفصل التام بين السلطات أشكال أخرى حديثة تقوم على فكرة التعاون بين السلطات وهي تتفاوت في أظهار القوة أو التوازن فيما بينها. لكن هذا لا يعني أن للجهة القوية سلطة رئاسية على السلطات الأخرى.(13)
خامسها، ممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وفيما بينها. وهي ضمان لممارسة الأحزاب المحتمل وصولها إلى السلطة، للديمقراطية. وهي كذلك مؤشر على إمكانية تجذر الممارسة الديمقراطية في المجتمع واستيعابها في الثقافة السياسية قيمة ومعيارا أخلاقيا. نظرا لما توجده هذه الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني من رأي عام مستنير وما تشيعه من قيم التسامح وقبول الآخر والاحتكام إلى نتائج الممارسة الديمقراطية ومنها الانتخابات(14). وقيام الأخيرة بممارسة الرقابة على السلطات الثلاث.
قد لا يكون هناك خلاف في أن وجود الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ليس مجرد مسألة عددية، وإنما مسألة نوعية. إذ ترتبط أولا، بمستوى الوعي والنضج السياسي والفكري والتنظيمي لهذه الأحزاب والمنظمات. ثانيا، بمدى فهم طبيعية المرحلة التاريخية للمجتمع ومدى استجابتها إلى مختلف التحديات الداخلية والخارجية. أي مدى قدرة هذه القوى على إعادة تشكيل بنى المجتمع ومؤسساته السياسية والاجتماعية والثقافية التي تضمن تفعيل الأسلوب الديمقراطي وفق المعايير الدولية. وثالثا، إعادة تأسيس منظومة قيمية وسلوكية حول آليات المشاركة في السلطة السياسة. كما تنتج عنها شبكة من التوازنات والتحالفات الجديدة بين القوى السياسية حسب تنوع مرجعياتها الفكرية والأيديولوجية(15). وإذا تحقق ذلك فإنه يضمن نجاح بناء أسس الدولة المدنية الديمقراطية.
وفي حالة العراق، وكما يحدد المشروع الوطني الديمقراطي للحزب الشيوعي العراقي، يتطلب الأمر العمل الجاد لبناء اوسع تحالف سياسي بين القوى والاحزاب والكتل، التي تتوافق على المفردات الاساسية لهذا المشروع لإقامة الدولة الديمقراطية الفيدرالية. وكذلك يتطلب اصلاح العملية السياسية وتطويرها، بتخليصها من المرتكزات والتوجهات والممارسات الطائفية، وتوسيع قاعدتها الاجتماعية عبر الانطلاق بثبات على طريق المصالحة الوطنية، ومعالجة الملفات وإصدار القوانين الاساسية واتخاذ الاجراءات ذات العلاقة بروح الحرص على المصالح العليا للشعب والوطن.
واعتماد اسلوب الحوار والمرونة والتنازلات المتبادلة من قبل جميع الأطراف، بعيداً عن لغة التشدد ونزعة التفرد والتحسس المفرط إزاء النقد، وصولاً إلى إعادة بناء وتعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق التوافقات الوطنية التي تقتضيها ظروف بلادنا الدقيقة. فخلاف هذا النهج لا يقود سوى إلى مزيد من الاستقطابات والاحتقانات الطائفية والحزبية الضيقة(16)، التي تنسف اسس بناء الدولة المدنية الديمقراطية.
المعوقات
بعد سقوط النظام عام 2003، عززت سياسة الولايات المتحدة من الانقسامات الطائفية والإثنية، عندما بادرت إلى تشكيل مجلس الحكم على هذا الأسس، وكأن المجتمع العراقي ينقسم إلى كتل سنية وشيعية وكردية متجانسة وثابتة لا تعرف الحراك الاجتماعي والسياسي والطبقي داخلها، وهو منطق يخالف قوانين حركية البنية الاجتماعية- الاقتصادية وصراعاتها في أي مجتمع دع عنك مجتمع يمر في طور الانتقال إلى الحداثة.
اثبتت التجارب أن نظاما قائما على المحاصصة الطائفية السياسية يؤدي لا محالة إلى خلق حالة طائفية بكل أشكالها الفردية والمؤسساتية والثقافية والاجتماعية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من سلوكيات وتحيزات واصطفافات، تتجاوز الحياة الشخصية والخيارات الفردية، لكي تنعكس في النشاط العام وميادين العمل على شكل احتكاكات وأحيانا صراعات قاتلة(17) وهذا يتجلى بوضوح في حالة التجربة العراقية.
من جانب آخر، فإن ارتفاع مستوى التغيير الاجتماعي يفضي إلى توليد مطالب ومهام جديدة غالبا ما لا تتناسب مع إمكانيات النظم الجديدة، مما يتسبب في إحداث مشاكل الاندماج التي تكون شديدة الحدة قد تصل إلى المواجهات المسلحة. ولاسيما في ظل ضعف مؤسسات الدولة، الأمر الذي يشكل تربة خصبة للعودة إلى الانتماءات الأضيق، وتبلور الاستقطاب، وتلاشي الطابع التعددي لصالح الأحادية، ومن ثم تحفيز العنف (18). لذلك يمكن أن تواجه تلك المجتمعات خرائط إثنية ودينية وطائفية جديدة كما في العراق.
إذا تتمثل البداية الصحيحة للحل في تبني المشروع الوطني الديمقراطي من قبل القوى والأحزاب السياسية، الذي يؤسس لبناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تعتمد المواطنة، وتلتزم بتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين مختلف العراقيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية والسياسية. إلا أن التجربة تؤكد طيلة الأحدى عشرة سنة من سقوط نظام البعث، بأنه لا يمكن أن تبنى دولة مدنية ديمقراطية- كما حدد ذلك التقرير السياسي للمؤتمر الوطني التاسع للحزب الشيوعي العراقي عام 2012- في ظل “ممارسات، تعكس منحى خطيرا يضيق بالآخر المختلف، ويسعى إلى مصادرة الحريات العامة والشخصية، في انتهاك جلي للدستور ومبادئ حقوق الإنسان والأعراف والمواثيق الدولية ذات العلاقة. وهذا لا يستقيم مع الدعوات إلى إقامة دولة المؤسسات والقانون المدنية الديمقراطية”(19). كذلك من معوقات بناء هذه الدولة الجدية كما جاء بنفس التقرير “السعي لفرض الرأي الواحد، وتنميط المجتمع وتأطيره وفق طروحات “الإسلام السياسي”، ومارسة الارهاب الفكري باشكاله المختلفة، ومصادرة الرأي الآخر، وتشجيع وادامة النزعات الطائفية والمناطقية والعشائرية، على حساب مبدأ المواطنة والشراكة الوطنية”(20). وهذا يضع على عاتق القوى الوطنية الديمقراطية بكافة مشاربها مهام كبيرة للنهوض بها كي تكون بديلا سياسيا واجتماعيا وثقافيا مقنعا لنظام المحاصصة الطائفية-الإثنية، لإنقاذ العراق من مخاطر جدية تهدد مستقبله ككيان سياسي وكوجود اجتماعي.
ومن جانب آخر، وفيما يتعلق بالإشكالات التي تواجه النظام الفدرالي وبالأخص التباين حول الصلاحيات بين الحكومة المركزية والأقاليم. فمن الجدير بالإشارة أن هذه الإشكالات تكاد تكون سمة النظام الفدرالي حتى في الدول المتقدمة حيث من الصعوبة منع تداخل الصلاحيات بشكل تام ولكن يكمن الفرق في آليات حل هذه الإشكالات. وبهذا الصدد يذكر الرفيق حميد مجيد موسى، أنه من الضروري ” الانتباه إلى أن الفدرالية لا تبنى دفعة واحدة وبقرار فوقي بعيدا عن واقع الظروف الموضوعية. وليس بالضرورة أن يكون تحويل الصلاحيات للأقاليم بمستوى واحد ووتيرة واحدة وبوقت واحد، وإنما المطلوب مراعاة القدرة الاستيعابية للصلاحيات (من حيث توفير البنى التحتية/ الكادر/ وغيرها من المستلزمات اللوجستية والبشرية). ولهذا فإن التدرج التصاعدي في تحويل السلطات والصلاحيات ضرورة موضوعية للبناء السليم لمنظومة العلاقات المنظمة لصلاحيات السلطات الاتحادية والأقاليم وما بينهما”(21). وهذا يعني أن بناء النظام الديمقراطي الفدرالي عملية تراكم مستمرة وأن أي إشكالات تبرز في مسيرة هذا البناء لا سبيل لحلها إلا بالحوار فقط.
نشرت المقاله في الأصل في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 364-365 لسنة 2014.
الهوامش
1- ميثم الجنابي، فلسفة الهوية الوطنية (العراقية)، 2012، ص 94-95.
2- عبد الوهاب حميد رشيد، العراق المعاصر، 2002، ص 31-32.
3- علي خليفة الكواري، “مفهوم الديمقراطية المعاصرة”، في كتاب المسألة الديمقراطية في الوطن العربي، 2000، ص 16.
4- برهان غليون، “منهج دراسة مستقبل الديمقراطية في البلدان العربية”، نفس الكتاب، ص 240.
5- اتجاهات نظرية، ملحق مجلة السياسة الدولية، يوليو 2013، ص 31-32.
6- المصدر نفسه، ص 31-32.
7- برهان غليون، مصدر سابق، ص 243.
8- على خليفة الكواري، “نحو مفهوم جامع للديمقراطية في البلدان العربية”، في كتاب الدولة الوطنية المعاصرة وأزمة الاندماج والتفكيك، 2008، ص 110-113.
9- مصباح الشيباني، ” الثورة العربية الراهنة وتحديات البناء الديمقراطي” شؤون عربية، 147 خريف 2011، ص 149.
10- الحزب الشيوعي العراقي، وثائق المؤتمر الوطني التاسع، 2012، ص 56.
11- على خليفة الكواري، “نحو مفهوم جامع للديمقراطية في البلدان العربية”، مصدر سابق، ، ص 110-113.
12- علي خليفة الكواري، “مفهوم الديمقراطية المعاصرة”، مصدر سابق، ص 37-38.
13- بشرى العبيدي، “مبدأ الفصل بين السلطات”، الثقافة الجديدة 321، لسنة 2007، ص 54.
14- على خليفة الكواري، “نحو مفهوم جامع للديمقراطية في البلدان العربية”، مصدر سابق، ص 110-113.
15- مصباح الشيباني، مصدر سابق، ص 148
16- المشروع الوطني الديمقراطي للحزب الشيوعي العراقي، 2007.
17- صلاح النصراوي، “المصالحة والوفاق الوطني في العراق “، السياسة الدولية، 177 يوليو 2009، ص 248- 249.
18- اتجاهات نظرية، مصدر سابق، ص 9.
19- الحزب الشيوعي العراقي، وثائق المؤتمر الوطني التاسع، مصدر سابق، ص 33.
20- المصدر نفسه، ص 33.
21- حميد مجيد موسى، الثقافة الجديدة، 329-330، لسنة 2009، ص 145.