قبل أسبوعين توفّي مشجع عراقيّ، وأصيب 35 آخرون، بأحداث شغب وتدافع جماهيريّ، في ملعب الشعب ببغداد قبل إلغاء مباراة الزوراء مع القوّة الجوّيّة.
المباراة أُلغيت بسبب بيع تذكار دخول أكثر من القدرة الاستيعابيّة للملعب مما اضطرّ المسؤولون عن الملعب إلى إدخال جميع الجماهير التي تملك بطاقة المواجهة، الأمر الذي صعّب كثيراً إقامة المباراة، كون الجمهور كان قريباً جدّاً من أرضيّة الملعب، ليقرّر الحكم بعدها إيقاف المباراة وتأجيلها!
هذه الحادثة – ربّما هي الأولى من نوعها- تؤكّد تفشّي الفساد الإداريّ في غالبيّة مفاصل الدولة العراقيّة، حتّى الملاعب الرياضيّة!
وفي التاسع من آذار/ مارس 2019 صنف رئيس الوزراء العراقيّ عادل عبد المهدي ما اسماها (خارطة الفساد) وذلك في (40) ملفاً، خلال جلسة أمام البرلمان!
المهدي الذي أكّد وجود ملفّات فساد أخرى، قال إنّ خارطة الفساد شملت ” تهريب النفط، والعقارات، والمنافذ الحدوديّة، وتجارة الذهب وتهريبه، والسجون ومراكز الاحتجاز، والسيطرات الرسميّة وغير الرسميّة، والحبوب والمواشي، والضرائب، والإتاوات، ومزاد العملة والتحويل الخارجيّ، والتقاعد، والمخدّرات، والآثار، والزراعة، والإقامة وسمات الدخول، والأيدي العاملة، والكهرباء، والأدوية، والرعاية الاجتماعيّة، والتعيينات، وبيع المناصب، والعقود الحكوميّة، وبيع الأسئلة، والمشاريع المتوقّفة والوهميّة، والإعلام، وملفّ النازحين، والاتجار بالبشر”!
المهدي لم يأت بجديد، وهو الذي تصوّر أنّه نفذ مهمّة شاقّة، وكلّ ما في الأمر أنّه قال ما يعرفه جميع المواطنين العراقيّين، وجميع أعضاء مجالس النوّاب في بغداد والمحافظات في الدورات الحاليّة والسابقة، وحتّى كافّة رؤساء الوزراء والجمهوريّة على مدى السنوات العجاف السابقة!
جميع هؤلاء يعرفون حقيقة الفساد الماليّ والإداريّ المستشري في الدولة، والغالبيّة التزمت الصمت إمّا لمشاركتها في الصفقات، أو للحفاظ على مصالحها الشخصيّة والحزبيّة!
المهدي لم يتطرّق للفساد في مؤسسات كبيرة في الدولة، ومنها هيئة الحشد الشعبيّ، والقضاء، وثراء المسؤولين الفاحش وتمويل الأحزاب الحاكمة، ودوائر الأوقاف وغيرها من المؤسّسات الناخرة لجسد الدولة العراقيّة!
وسبق لرئيس الوزراء السابق حيدر العبادي أن كشف في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 عن رصد حالات فساد كبيرة داخل ميليشيات الحشد الشعبيّ، وأنّ ” الحشد يتاجر بعناصره، وأنّ المُطالبين بزيادة مخصّصات الحشد يسعون إلى الحصول على أموال إضافيّة من خلال أفراد فضائيّين”.
و”الفضائيّون” مصطلح ذاع صيته في العراق، ويعني أنّ العسكريّ إما اسم وهميّ، أو فقط على ورق، ولا يناوب في عمله مقابل الحصول على نصف راتبه على أن يأخذ الضابط المسؤول عنه النصف الآخر!
ومع هذا الإعلان الخطير عن دخول الفساد لكافّة قطاعات الدولة المدنيّة والعسكريّة، والدبلوماسيّة، هنالك جملة من التساؤلات الملحّة التي تشخص أمامنا، ومنها:
هل مجرّد الإعلان سيقود للقضاء على الفساد، أم أنّ القضيّة بحاجة لحملة تنظيف شاملة لقطاعات الدولة من الأعلى إلى الأسفل؟
الفساد جريمة ارتكبها فاسدون من مسؤولي الدولة، وهم من كافّة القوى المشاركة في العمليّة السياسيّة، وعليه هل يحاول المهدي إقناعنا بأنّه يريد القضاء على الفساد عبر عرض مشروعه على شخصيّات كياناتها متّهمة بالفساد؟
هل يمتلك المهدي الجرأة الكافية لإعلان أسماء الفاسدين دون النظر لمناصبهم الحزبيّة والسياسيّة، والعسكريّة؟
رؤساء الكتل المتّهمون بالفساد هم الذين أوصلوا المهدي لهذا المنصب الحساس، فهل سيسمحون له بمحاسبتهم وأتباعهم؟
لماذا لم يتطرّق المهدي لدور الولايات المتّحدة في سنّ الفساد في الدولة العراقيّة عبر أكذوبة الإعمار وتهريب الآثار وغيرها؟
إن فعلها المهدي، وحاسب كافّة قوى الفساد في العراق – وهذا الأمر مستبعد جدّاً، ولو امتلك الجرأة الكافية فسيجد نفسه في مهبّ الريح- فإنّه سيدخل التاريخ العراقيّ الحديث من أوسع أبوابه، وسيكون مثالاً يقتدى به، ورمزاً للمسؤول الشجاع القادر على تنفيذ سياساته دون النظر لمآلاتها، لكنّ السؤال الأخير هنا:
هل المهدي جاد فعلاً في مسعاه، أم أنّها مجرد زوبعة إعلاميّة، أو أسلوب جديد للضغط على الكتل السياسيّة لتمرير ما تبقى من حكومته الهزيلة، والتي لا تختلف عن سابقاتها؟
الأيّام والأفعال والمواقف القادمة ستكشف حقيقة إعلان عبد المهدي عن خريطة الفساد الذي يجعل الدولة العراقيّة تتآكل!