18 ديسمبر، 2024 11:29 م

الدولة الكردية.. 100 عام.. بين جدلية التاريخ.. وفشل التجارب

الدولة الكردية.. 100 عام.. بين جدلية التاريخ.. وفشل التجارب

في تاريخنا المعاصر.. بدأ الأكراد في التفكير بإنشاء دولة مستقلة بأسم كردستان منذ مطلع القرن الـ 20.. فبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.. وضع الحلفاء الغربيون المنتصرون تصوراً لدولة كردية في معاهدة “سيفر” العام 1920.. إلا أن هذه الآمال تحطّمت بعد ثلاث سنوات.. إثر توقيع معاهدة لوزان التي وضعت الحدود الحالية لدولة تركيا.. بشكل لا يسمح بوجود دولة كردية..
وانتهت الحالة بالأكراد كأقليات في دول تركيا.. والعراق.. وسوريا.. وإيران.. وأرمينيا.. وعلى مدار السنوات التي تلت سُحقت أية محاولة كردية لتأسيس دولة مستقلة.. وهنا نستعرض بشكل مكثف أبرز أهم ثمان تجارب في أقل من 100 عام..
1ـ مملكة كردستان 1922..
أعلن الأكراد أول دولة لهم في العصر الحديث باسم: “مملكة كردستان” بقيادة محمود الحفيد في السليمانية العراقية في تشرين الأول 1922.. التي وأدها الجيش البريطاني في العراق.. بعد عامين على ميلادها.. (حزيران )1924.. وذلك إثر اكتشاف عن النفط في كركوك التابعة للعراق المحتل من قبل بريطانيا.. انطلاقا من إستراتيجية حماية المصالح البريطانية..
2ـ كردستان الحمراء..
نتيجة الظروف الصعبة التي كان يعيشها الأكراد المتواجدون في أذريبجان.. قررت بعض الرموز الكردية تأسيس منطقة حكم ذاتي لهم في 7 تموز 1923.. بإيعاز من الرئيس السوفييتي فلاديمير لينين..
تشكلت المؤسسات الإدارية للدولة والنظام البرلماني في كردستان.. وانتخب كوسي حجييف.. ـ وهو من سكان المنطقةـ كأول رئيس للبرلمان وكأول رئيس لكردستان السوفيتية.. لكن التجربة لم تستمر كثيراً.. بسبب معارضة بعض الرموز السوفيتية لأي تحرك كردي.. قد يؤدي إلى ضرر بكل من الجارتين تركيا وإيران.. وكانت نهايتها في 1929.. بعد أن تم ترحيل الأكراد من هناك..
3ـ جمهورية “آرارات” الكردية 1927..
استمراراً لمحاولات أكراد تركيا تحقيق حلم الدولة الكردية.. أعلنوا عن قيام “جمهورية آرارات الكردية المستقلة” العام 1927 في قرية قرب آرارات.. أعلنوها عاصمةً مؤقتةً لكردستان الوليدة.. وتواصلوا مع أبناء جلدتهم في سوريا والعراق طالبين العون والمؤازرة.. وأفاقً الأكراد من منامهم الذي يرون فيه دولة قائمة في مناطقهم التركية.. لكن الجيش التركي قضى على هذه جمهورية آرارات العام 1930..
4ـ جمهورية “مهاباد” 1946..
استغل بعض الأكراد في إيران الأزمة الإيرانية الناشئة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية.. فقام قاضي محمد ومصطفى البرزاني بإعلان جمهورية مهاباد في 22 كانون الثاني العام 1946.. لكن الضغط الذي مارسه الشاه على الولايات المتحدة التي ضغطت بدورها على الاتحاد السوفيتي كان كفيلاً بانسحاب القوات السوفيتية من الأراضي الإيرانية.. وقامت الحكومة الإيرانية بإسقاط جمهورية مهاباد بعد 11 شهر من إعلانها.. وتم إعدام قاضي محمد في 31 آذار العام 1947 في ساحة عامة في مدينة مهاباد.. فيما انسحب مصطفى البرزاني مع مجموعة من مقاتليه من المنطقة..
5ـ إقليم كردستان العراق 1970..
أبرمت الأحزاب الكردية معاهدة للسلام مع الحكومة العراقية في آذارالعام 1970 التي أعطت الأكراد حكماً ذاتيا.. واعترافاً بالكردية لغة رسمية لهم هناك.. وأضيفت على الدستور العراقي مادة عرّفت العراق بلداً يضم شعباً من قوميتين هما “العربية والكردية”.. حتى تحولت منطقة الحكم الذاتي إلى “إقليم كردستان العراق”.. الذي صار له علم.. ودستور.. ونشيد قومي.. وحكومة.. وبرلمان..
6ـ جمهورية “لاجين” الكردية 1992..
استغلت بعض القيادات الكردية الفوضى التي عمت الجمهوريات المنبثقة عن الاتحاد السوفييتي أثر تفككه.. وأعلنت في ربيع العام 1992 عن قيام دولة للأكراد في لاجين.. برئاسة وكيل مصطفاييف.. لكنها لم تدم طويلا نظراً لعدم وجود الدعم الجماهيري الكردي.. حيث كانت وليدة سياسة أرمنية معادية لأذربيجان.. رفضها الكرد الذين يشتركون مع الأذريين في الدين والثقافة والأرض.. فلجأ رئيسها (مصطفاييف) إلى إيطاليا لاجئاً سياسياً في نفس العام..
7ـ إقليم “روج آفا” سوريا 2012..
تصاعد نفوذ الأكراد مع اتساع رقعة النزاع في سوريا في العام 2012 مقابل تقلص سلطة النظام السوري في المناطق ذات الغالبية الكردية.. فأعلن الأكراد إقامة إدارة ذاتية مؤقتة بالمقاطعات الثلاث التي أطلق عليها “روج آفا” أي غرب كردستان..
حاولت السلطات السورية استرضاء الأكراد.. فأعلن رئيس النظام بشار الأسد منح الجنسية السورية لعشرات آلاف الأكراد “مكتومي القيد” في محافظة الحسكه.. (وهم أكراد من تركيا.. دخلوا سورية لدعم الكرد السوريون).. وفي كانون الثاني العام 2014 تم فتح فرع لتعلم الكردية داخل معهد اللغات التابع لجامعة دمشق.. وفي 17 آذار العام 2016 أعلن أكراد سوريا عن إقامة نظام فيدرالي في مناطق سيطرتهم شمال البلاد.. خلال اجتماع عُقد في مدينة رميلان بمحافظة الحسكة.. وسط معارضة دولية ومحلية.. ولن يحسم الأمر إلا بعد عودة السلام في سوريا المنتظر..
بعد تحرير الرقة السورية من داعش قبل أيام قليلة.. استعجل الأكراد السوريون برفع جداريه كبيرة للقائد الكردي ـ التركي عبد الله أوجلان المعتقل في تركيا.. والتحرك لإقامة دولتهم أو حكمهم الذاتي.. في ظل غياب سلطة الدولة السورية على معظم الأراضي السورية.. والتدخل الإقليمي والدولي العسكري والسياسي فيها.. يبدو إن تحركهم السريع بداية لتجربة عسيرة.. فكيف ستكون النتيجة ؟
8ـ إقليم كردستان .. والاستفتاء على تقرير المصير..
بعد دخول داعش الى الموصل في 10 حزيران العام 2014.. وانسحاب الجيش العراقي (محافظات صلاح الدين والانبار..وكركوك.. وديالى).. استغل الأكراد الأوضاع ليتمددوا في المناطق المتنازع عليها.. وهي: محافظة كركوك.. ومنطقة سهل الموصل.. وشمال ديالى.. وأقاموا حكهم عليها بعيداً عن السلطة الاتحادية العراقية..
ـ وعند بداية نهاية داعش في العراق.. بتحرير معظم المدن والبلدات العراقية.. وأفول نجم داعش.. تحرك مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق.. المنتهية ولايته.. ليعلن إجراء استفتاء تقرير المصير.. للشعب الكردي في العراق.. يشمل كل إقليم كردستان.. والمناطق المتنازع عليها.. ويشارك فيه الأكراد في خارج العراق.. وبالرغم من رفض العراق هذا الاستفتاء.. ومخافته للدستور العراقي الموقع والمصادق من قبل الأكراد أنفسهم.. إلا إن مسعود برزاني .. أجرى الاستفتاء في 25 أيلول العام 2017.. برغم من رفض دولي كامل للاستفتاء ونتائجه..
يبدو إن الاستفتاء الذي أجراه يعود الى غرور وسوء تقدير جميع قادة حكومة إقليم كردستان العراق.. ونشك إن هؤلاء قد تعلموا أي شيء من مأساتهم هذه.. إذ نراهم اليوم يتبادلون اتهامات الخيانة.. ويصورون أنفسهم ضحايا مخطط إيراني لطعنهم في الظهر.. أو فشل أمريكي في حمايتهم وإنقاذهم..
فيما شكل بالنسبة للحكومة المركزية في بغداد.. تهديداً وفرصة تاريخية في نفس الوقت.. إصرار البرزاني على القيام بالاستفتاء.. وعلى شمل المناطق المتنازع عليها.. التي تشمل مناطق واسعة من العراق.. كان إعلاناً رسميا من قبله على إصراره على ضم تلك المناطق.. بغداد لم تكن لتقبل بمثل هذا التحدي.. في الوقت الذي كانت قد حققت فيه الانتصار العسكري الأكبر لها.. بعد تحرير الموصل.. كما انه لم يكن هناك ما يضطرها للقبول به.. بعد أن خسرً البرزاني حماية أمريكا وتركيا.. بإصراره على المضي في موضوع الاستفتاء رغم تحذيراتهما.. لقد وعدت أمريكا البرزاني بصفقة بشروط مغرية قبل يومين فقط من موعد الاستفتاء.. لكن البرزاني رفضها.. في ظل جو من الشحن القومي الذي أصبح سائداً.. والذي ساهم هو في خلقه..
ـ إن نتائج الاستفتاء 92 % من المشاركين في التصويت.. لكن فرحة الأكراد لم تدم أسبوعين.. حتى فرضت الدولة العراقية النظام على المناطق المتنازع عليها.. بانتشار قواتها المسلحة والأمنية.. وانسحبت أو هربت قوات البيشمركة الكردية من هذه المناطق..
ـ لتتشظى القوى السياسية الكردية.. ويعيش مسعود البرزاني وحكومته عزلة كردية وعراقية ودولية.. وحلم تقرير المصير تبخر بشكل لا يصدق.. وبدأت الصيحات داخل كردستان العراق.. بالمطالبة باستقالة البرزاني.. وحل حكومته.. وتشكيل حكومة انتقالية.. فيما بدأت أصوات كردية أخرى للدعوة للانضمام الى الحكومة الاتحادية مباشرة.. وهكذا ولدت التجربة الثامنة لمشروع الدولة الكردية ميتاً..
من كل ما تقدم يمكن القول: إن الحقيقة البارزة إن هناك سمات مشتركة بين الحركات الانفصالية القومية.. والأكراد كما في حالة الحركات القومية الأخرى.. يصورون أنفسهم في وضع الضحية.. حق تقرير المصير هو حق مشروع لأي قومية تناضل من اجل الاستقلال.. لكن غالبا ما يصاحب هذا النضال.. شعور مبالغ به بالأحقية.. وأحيانا بالاستعلاء.. مما يؤثر على الرؤية الواقعية للوضع السياسي القائم.. كردستان بدأت مغامرة سياسية كبيرة.. في بلد مقسم وضعيف.. مغامرة أدت الى إغضاب جميع جيرانها.. وتوحيدهم ضدها..
الخطأ الثاني للحركات القومية الانفصالية.. هو إنها غالباً ما تقدم وعوداً اكبر بكثير من قدرتها.. حيث يقدم حق تقرير المصير على انه الترياق الذي سيحل كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية..
كم من الحروب قامت بسبب أطراف من الواضح مسبقاً إنها لن تربح الحرب.. ولديها كل شيء لتخسره إن هي خسرتها.. مع ذلك فهي تصر على المضي فيها.. بسبب الشحن القومي.. الذي يوصل الأمور الى مرحلة يصعب معها التراجع.. مما يؤدي في الغالب الى كوارث..
ـ بقيً أن نقول: إن مشكلة الأكراد ستبقى قائمة.. والحلم الكردي في إقامة دولة مستقلة.. يبقى أمنية كل الأكراد في الدول التي يعيشون فيها.. ويتأجج بين آونة وأخرى.. والحل المنتظر والواقعي في إقامة أنظمة فيدرالية ديمقراطية حقيقية في هذه الدول.. يحصل فيها الأكراد على حكم فيدرالي حقيقي ضمن هذه الدول.. لا أكثر ولا أقل..