يُعَدُّ الكرد العراقيون مكوناً أساسياً من مكونات الشعب العراقي..وإضفاء صفة العراقي لهذا الشعب جاءت بأطر دستورية وجغرافية وعُرفية منذ تأسيس الدولة العراقية الى يوم الإستفتاء العام على الدستور العراقي النافذ الذي شارك فيه مواطنو محافظات العراق كافة بضمنها محافظات إقليم كردستان العراق،وعلى أثرتحول العراق من دولة ذات نظام ديكتاتوري توتاليتاري إلى نظام ديموقراطي تعددي، فقد إنضوت كل فعاليات الشعب العراقي تحت راية العملية السياسية الجديدة بعد العام 2003ودخلت الأحزاب الكردية بقوة في بناء البيت العراقي الجديد،عبر دورات إنتخابية شملت العراق كله،مما سنح لهم تسنّم المناصب العليا في الدولة كرئاسة الجمهورية ونيابة رئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان وعدد من الوزارات السيادية والهيئات المستقلة إضافة الى إدارة الإقليم الكردي بمحافظاته الثلاثة الرئيسة تحت ماسمي في حينه بإقليم الأمر الواقع.
لكن من الغريب جداً أن ثمة تصريحات تنطلق من أفواه مسؤولة في إقليم كردستان العراق وحصراً من مسؤولين ينتسبون الى عائلة البارزاني أو أفراد قياديين من حزبهم الديموقراطي الكردستاني الذي يهيمن على أغلب مفاصل الإدارة في الإقليم بعبارات تهديدية بالإنفصال عن العراق أو إقامة الدولة الكردية المستقلة بإستقطاع أراضٍ ومحافظات عراقية دون الإكتراث بالمواد الدستورية التي تحكم العراق بأجمعه والتي لاتجيز لأي إقليم أو محافظة الإنفصال عن العراق لكونه دولة فيدرالية.إن التلويح والتهديد بالإنفصال غالباً ما يرد على لسان رئيس الإقليم السيد مسعود البارزاني أو أبن أخيه رئيس الحكومة السيد نيجرفان البارزاني،وعادة ما تطلق هذه القنابل الصوتية بوجه الحكومة الإتحادية كلما حدثت مشكلة سياسية أو اقتصادية بخصوص النفط العراقي المستخرج من الإقليم أو غير ذلك..ولم نسمع بالمقابل ولا مرة واحدة تهديد من الطرف الآخر بتحييد الكرد من العملية السياسية أوتقديم مطلقي التهديدات التقسيمية ومهددي وحدة واستقلال البلاد الى المساءلة في البرلمان أوالمحكمة الإتحادية العليا.وأنا أعرف جيداً السبب في إحجام الحكومة الإتحادية من اللجوء الى مثل هذه الإجراءات تجاه الكرد، ألا وهو ان كل تلك التصريحات تعتبر من أضغاث الأحلام التي لايمكن تحقيقها ولا تلقى قبولاً في قناعات الشعب العراقي بجميع محافظاته إذا أُجري إستفتاء عام في هذا الشأن وبضمنها المحافظات الكردية التي تديرها أحزاب كردية أخرى غير حزب العائلة البارزانية والتي طالما تقاطعت رؤاها مع رؤية العائلة الحاكمة في أربيل في عدد من القضايا المصيرية للشعب الكردي.كما تصطدم هذه الأحلام بالدستور العراقي النافذ كما أسلفنا،وقد رفضت هذه التوجهات الإنفصالية الكتل السياسية الأساسية في العراق ،إضافة الى أنها لا تتلاءم مع منطق العصرنة والعولمة في إستحالة بناء الأوطان والدول على أساس قومي شوفيني أوعرقي..الدول الناجحة اليوم هي الدول التي بنيت على اساس الوحدة والإتحاد بين المكونات والقوميات والأعراق..ولعل في سويسرا وبلجيكا
والهند وإيران خير مثال على ذلك.ثم أن في كل مرة يقوم بها رئيس الإقليم السيد البارزاني في زيارة للولايات المتحدة فإنه يقدم للإدارة الأمريكية رؤيته في إنفصال الإقليم الكردي عن العراق ويعتقد بكل جوارحه أن العم سام سيعطف عليه ويخلصه من تبعية العرب المستعمرين للأرض الكردية(كما يوحى للبسطاء من أبناء شعبنا الكردي في الإقليم وخارجه)، لكنه يصطدم بإرادة أمريكية متكررة بأن الولايات المتحدة تتعامل مع العراق كبلد واحد وتربطها معه إتفاقية أمنية ذات إطار ستراتيجي.ومن غرائب الأمور وعجائب السير ان ثمة تبادلاً للأدوار بين رموز العائلة الحاكمة في أربيل من جهة وبين ممثلي الكرد في البرلمان والحكومة من جهة مقابلة من حيث نبرة التصعيد بإتجاه الإنفصال المتكررة من الطرف الأول وبين التهدئة والدعاوى الجادة الى التمسك بالعراق الواحد وحل المشاكل العالقة مع المركز بالحوار السلمي البناء..كما لوحظ من قبل المراقبين مؤخراً أن كل تصعيد إنفصالي يصدر من أربيل تعقبه مباشرة إجتماعات طارئة شاملة وموسعة لحكومة الإقليم وبرلمانه الذي يضم كافة الأحزاب الكردية فتصدر عنه بيانات وتوصيات بإتجاه التهدئة ونبذ إسلوب التهديد بالإنفصال،مما يوحي بأن القرار الرئاسي في الإقليم هو قرار عائلي لايتواءم مع طموحات ممثلي الشعب الكردي في البرلمان والحكومة .
وفي آخر تصريح للسيد مسعود البارزاني في بودابست قال:”إن وحدة العراق إختيارية وليست إجبارية” دون أن يلتفت الى أن الدستور العراقي النافذ يجبر العراقيين أن يكونوا شعباً واحداً لدولة واحدة.أما التلويح بحلم الإنفصال فقد أصبح سلاحاً يُشْهَر بوجه الحكومة كلما حدثت داخل الإقليم مشكلة سياسية قد تكون الولاية الأبدية للسيد رئيس الإقليم مدعاتها الأولى..فتكون هذه القنبلة الصوتية مستقطبة للجماهير البسيطة ذات الأفق القومي المحض البعيد عن الشعور الوطني للإلتفاف حول الرئيس الأوحد والزعيم القومي الذي سينقذ كردستان من مخالب الإستعمار العربي.
لقد إستفز الرئيس الهنغاري مشاعر الشعب العراقي جميعاً في مؤتمره الصحافي مع السيد مسعود البارزاني حين دعا الى” دعم بلاده لإستقلال إقليم كردستان عن العراق كون الشعب الكردي من الشعوب المضطهدة” ، دون أن يكلف نفسه حتى الرجوع الى أبسط الأعراف الدبلوماسية الداعية الى عدم التدخل في سيادة الدول وحق شعوبها في إستقلال المصير دون المساس بوحدة البلدان وتعريض أنظمة الحكم الديموقراطية فيها الى الزعزعة والتفتيت، الأمر الذي يقود عادة دون أدنى ريب الى حروب داخلية لاطائل منها،مما دعا الحكومة العراقية الى إصدار بيان استنكار شديد اللهجة ضد هنغاريا وإصدار بيانات من أهم القوى السياسية في العراق لشجب هذا الموقف الغريب من هنغاريا.وكان مجلس النواب العراقي ـ قبل ذلك ـ قد أصدر بياناً شديد اللهجة أيضاً رفض فيه تخرصات مجلس النواب الأمريكي بالتعاون مع بعض مكونات الشعب العراقي بعيداً عن الحكومة الإتحادية وإعتبر ذلك تدخلاً سافراً في الشأن العراقي وخرقاً للقوانين والأعراف الدولية ونقضاً لإلتزام الولايات المتحدة الأمريكية في إتفاقية الإطار الستراتيجي بضمان وحدة العراق وسيادته وإستقلاله..كما كانت لمواقف المرجعية الدينية والكتل السياسية والفعاليات الشعبية أثرها الضاغط على الإدارة الأمريكية مما دعا الأخيرة إلى العمل على معالجة الهفوة التي وقعت فيها لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي حين وافقت على قانون طرحه عضوها ماك ثورنبيري، يفرض شروطًا لتخصيص مساعدات عسكرية أميركية للعراق بقيمة 715 مليون دولار من ميزانية الدفاع لعام 2016، حيث جرت المصادقة مؤخراً بعد إلغاء فقرة اعتبار السُنة وقوات البيشمركة الكردية دولتين.
إذا كان حلم تكوين دولة (قومية) للكرد حقاً إعتبارياً للشعب الكردي فليكن المشروع خارج المزايدات والمناكفات السياسية،بل يجب أن يمر عبر الدستور العراقي ومن خلال استفتاء الشعب
العراقي بأجمعه لأن يوافق على إقتطاع جزء من بلاده…العراق بلد واحد لايقبل التجزئة إلا وفقاً للقانون،ودون تعريض السياسيين والنواب الكرد في مجلس النواب العراقي الى الإحراج الشرعي والأخلاقي والقانوني لإكراههم على نكث العهد والقسم الذي أقسموه في مجلس النواب والذي نصت عليه المادة الخمسين من الدستور العراقي التي نصت على أن يؤدي عضو مجلس النواب اليمين الدستورية امام المجلس قبل ان يباشر عمله بالصيغة الاتية : “اقسم بالله العلي العظيم أن اؤدي مهماتي ومسؤولياتي القانونية بتفانٍ واخلاص وان احافظ على استقلال العراق وسيادته، وارعى مصالح شعبه واسهر على سلامة ارضه وسمائه ومياهه وثرواته ونظامه الديمقراطي الاتحادي وان اعمل على صيانة الحريات العامة والخاصة واستقلال القضاء والتزم بتطبيق التشريعات بامانة وحياد، والله على ما اقول شهيد”.
وبالنظر لتواجد الكرد في أربع دول متجاورة هي العراق وسوريا وتركيا وإيران فإن حلم إقامة الدولة الكردية القومية الكبرى يكون ضرباص من الخيال وتعارض تلك الدول عموما إي خطوة للانفصال بل أن جميعها باستثناء العراق تواجه بشدة التوجهات القومية للكرد ولا تسمح لهم حتى بإقامة حكم ذاتي لهم.وسبق أن أقدم الكرد على تأسيس جمهورية مهاباد في أقصى شمال غرب إيران حول مدينة مهاباد التي كانت عاصمتها، وكانت دويلة قصيرة العمر غير معترف بها دولياً مدعومة سوفييتياً كجمهورية كردية أنشئت سنة 1946 وساهم بقيامها تحالف قاضي محمد مع الملا مصطفى البارزاني ولكن الضغط الذي مارسه الشاه على الولايات المتحدة التي ضغطت بدورها على الاتحاد السوفيتي كان كفيلاً بانسحاب القوات السوفيتية من الأراضي الإيرانية وقامت الحكومة الإيرانية بإسقاط جمهورية مهاباد بعد 11 شهرا من إعلانها وتم إعدام قاضي محمد في 31 آذار 1947 في ساحة عامة في مدينة مهاباد وهرب مصطفى البارزاني مع مجموعة من مقاتليه من المنطقة.ومايزال الكرد في الدول الأربع التي تحتوي على مدن كردية السكان كمواطنين يحملون جنسية تلك البلدان دون أن تعمل أنظمتها على سلخ العنصر القومي وإفراغ الإنتماء الكردي من حيثياته التكوينية.
وربّ قولٍ أنفذ من صول.
ناصرية دورتموند ـ ألمانيا