التيارات الفكرية في انكلترا وفرنسا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت لاتتبع مدرسة القانون الطبيعي.في انكلترا قاد الحركة الفكرية كل من هويس وجون لوك .وقد كان هويس من دعاة الحكم المطلق لدرجة انه انكر القانون,حيث انه كان يعتقد ان القانون هو للاقوى,والعدالةتتوقف على القانون الوضعي. وتستند نظريته على على وجود عقد اجتماعي يتنازل فيه الافراد عن حرياتهم كاملة للحاكم الذي يتعهد بحمايتهم من بعضهم بعضا.اي ان سلطات الحاكم مطلقة لاحدود لها سواء على الافراد وعلى ممتلكاتهم واموالهم ومعتقداتهم….الخ. اما جون لوك فكان الممثل للمذهب الحر في انكلترا ,وعلى الرغم من انه يتفق مع هويس في تأسيس المجتمع على وجود عقد اجتماعي ينتقل به الافراد من الحياة البدائية الى حياة الجماعة,فانه لايرى فيه مايعطي الدولة سلطة مطلقة,وانما يعين لها رسالة محددة باغراض الجماعة في الحماية والامن.
وقد كان لمدرسة القانون الطبيعي مع ذلك ممثلون في انكلترا,لكن اسماءهم لم تلمع مثل جون لوك وهويس. اما فرنسا فقد عرفت في القرن السابع عشر الحكم المطلق فقد ابتلعت الملكية كل السلطات وانتهت الى انكار كل فكرة عن الحقوق الفردية,حيث كان الحكام في تلك الفترة مطلقي الحرية للتصرف في الافراد اشخاصا واموالا وعقائدا.ولم يكن كبار رجال الفكر الفرنسيين في القرن الثامن عشر(مونتيسيكو وجان جاك روسو )من انصار القانون الطبيعي .ومع ذلك كانت لآراء روسو في الادارة العامة للجماعة ومونتيسيكو في الفصل بين السلطات اكبر الاثر في التمهيد للثورة الفرنسية التي اقرت بصفة نهائية فكرة الحقوق الفردية وجعلت منها هدفا للجماعة الانسانية,واساسا للقانون الطبيعي وذلك في وثيقة اعلان حقوق الانسان سنة 1789 هذه الوثيقة التاريخية التي جعلت من الفرد مصدرا للحقوق حين نادت بوجود امتيازات للفردتسبق وجود الجماعة وتسمو عليها وعلى قوانينها. وفي انكلترا كان هناك صراع مرير بين الشعب البريطاني والحكم المطلق ممثلا بالملك جان صان تر وظهرت نتائج هذا الصراع بصدور الوثيقة الكبرى المسماة العهد الاعظم التي فرضت على الملك جان صان تر في سنة1215,ثم صدور وثيقة الحقوق في عهد غليوم الثالث سنة 1689 .حيث اعترف الملك للبرلمان بحق الاجتماع وبضرورة موافقته على فرض الضرائب ورقابته على تنفيذ القوانين,واعترف بحق المقاضاة امام محلفين وليس امام محكمة استثنائية. وهذا الصراع الطويل وما اثمر من نتائج لصالح البرلمان لارساء قواعد النظام البرلماني-حتى قيل ان انجلترا أم البرلمانات-وكان هذا الصراع ضد الملك لحساب البرلمان للحد من سلطان الملك والتوسع في اختصاصات البرلمان .فتم توزيع السيادة بين الملك والبرلمان بعد ان كان ينفرد بها الملك لوحده .
ان اولى النظريات القانونية ظهرت لتحديد الاساس الذي يقوم عليه مبدأ خضوع الدولة للقانون,هي نظرية الحقوق الفردية التي تقول بوجود حقوق فردية أصلية وسابقة على الدولة,تسمو عليها ولاتخضع لسلطاتها,وان الفرد انضوى تحت لواء الجماعة لحماية هذه الحقوق والتمتع بها في أمن وطمأنينة..فدخول الفرد في الجماعة لايفقده هذه الحقوق.ومادامت هذه الحقوق سابقة على كل تنظيم سياسي,فهي تخرج عن سلطان الدولة,وتقيد سلطتها ,واعلان حقوق الانسان في فرنسا سنة 1789 قام على أساس هذه النظرية. ان الدولة القانونية يتعين ان تخضع للقانون في جميع مظاهر نشاطها ,سواء من ناحية الادارة أو القضاء أو التشريع .عكس الدولة البوليسية حيث تكون السلطة الادارية مطلقة الحرية في ان تتخذ قبل الافراد ماتراه من ألإجراءت محققاً للغاية التي تسعى إليها على وفق الظروف والملابسات . إلا إن الانتقال من نظام الدولة البوليسية إلى نظام الدولة القانونية لايتم إلا على مراحل ,لاننا نجد كثيراً من البلدان حتى يومنا هذا تمثل خليطاً من عناصر الدولة القانونية وعناصر الدولة البوليسية,لإن كثيراً من تلك الدول لم تخضع للقانون إلا في بعض مظاهر نشاطها دون بعضها الاخر .ومع ذلك يمكن أن نعد الثورة الفرنسية وماتابعها من اعلان الحقوق ,الحدث الذي حقق الانتقال من نظام الدولة البوليسية الى نظام الدولة القانونية,لان الثورة هدفت الى هدم كل مايتعلق بالماضي وما خلفه من انظمة استبدادية,وأقامت نظاماً جديداً على أٌسس جديدة. مبدأ خضوع الدولة للقانون كما سبق القوليعني خضوع جميع السلطات في الدولة للقانون,وهو مبدأ قانوني قُصد به صالح ألأفراد وحماية حقوقهم ضد تحكم السلطة.اما مبدأ سيادة القانون فينبع من فكرة سياسية تتعلق بتنظيم السلطات العامة في الدولة وتهدف إلى وضع الجهاز التنفيذي في مركز أدنىبالنسبة للجهاز التشريعي ومنع الاول من التصرف إلا تنفيذاً لقانون أو بتخويل من الشعب صاحب السيادة. وحيث ان كل تنظيم في الدولة وكل نشاط يتعين ان يصدر عن إرادة الشعب,فإنه ينبغي خضوع السلطة التنفيذية للبرلمان وكل عمل للسلطة التنفيذية لايمكن إلا ان يكون تنفيذاً للقانون المعبر عن ألإرادة العليا. وهذا الخضوع أي خضوع الجهاز التنفيذي للجهاز التشريعي ,لايقتصر على مايتعلق باعمال الادارة التي تنتج آثاراً خاصة تجاه ألأفراد,بل يمتد الى جميع ألإجراءات الادارية بما فيها تلك التي تخص التنظيم الداخلي للمرافق الادارية والتي لاتتعدى اثارها نطاق الجهاز الحكومي. وفي الدولة القانونية تتقيد الادارة بالقانون والانظمة واللوائح الادارية,وذلك لانه على وفق مبدأ خضوع الدولة للقانون لايجوز للادارة ان تلزم الافراد إلا في حدود القوانين واللوائح المعمول بها ,ومن ثم فهي تخضع للوائح الادارية كما تخضع للقوانين طالما ان تلك اللوائح معمول بها. وعندما يُقال بخضوع الدولة للقانون يلزم توافر عناصر وتقرير ضمانات معينة منها :
ان يكون للدولة دستور لانه يُعد الضمانة الاولى لخضوع الدولة للقانون,لان الدستور يقيم السلطة في الدولة,ويؤسس وجودها القانوني كما يُحيط نشاطها بإطار قانوني لاتستطيع الحياد عنه ,ووجود الدستور لايعني يقيم حكماًديمقراطي اذ لاارتباط بين وجود الدستور وقيام الحكم الديمقراطي ,كما انه ليس ثمة تلازم بين خضوع الدولة للقانون واعمالها للمبدأ الديمقراطي,لكن وجود الدستور يؤدي الى تقييد سلطات الدولة ,اذ سينظم السلطة فيها ووسائل ممارستها كما يعين حقوق الحاكم ويحددها .والدستور بطبيعته أسمى من الحكم لأنه يحدد طريقة اختياه ويعطيه الصفة الشرعية. اما الضمانة الاخرى هي الفصل بين السلطات فصلاً عضوياً أو شكلياً,اي يكون هناك الالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.وعندما يتم الفصل بين السلطات الثلاث فان كل سلطة من هذه السلطات سيكون لها اختصاص محدد لايمكنها الخروج عليه من دون الاعتداء على اختصاص السلطات الاخرى .ومبدأ الفصل بين السلطات الثلاث لاشك في انه يمنع اي اعتداء على اختصاص اياً من هذه السلطات لان كل منها سيوقف اعتداء الاخر . واذا تجمعت السلطات في يد واحدة ,حتى لو قيدناها بقواعد دستورية فلن تكون هناك اي ضمانة لاحترام هذه القواعد.فاذا تجمعت السلطات الثلاث في يد الحكم فلاضمانة من استبداده بالسلطة.فلو اجتمعت سلطة التشريع وسلطة التنفيذ في يد واحدة ,فان التشريع سيفقد امكانمية وضعه قواعد عامة مجردة لكي يمكن تطبيقها على الحالات المستقبلية ,ومن الممكن تصدر قوانين لتسري على حالات خاصة ,أو يُعدل القانون وقت التنفيذ على الحالات الفردية وذلبك حسب اهواء ومصلحة الحاكم وبالتالي تتحول الدولة الى دولة استبدادية وليس قانونية.ونفس الشيء اذا اجتمعت السلطتين التشريعية والسلطة القضائية في يد واحدة,فان المشرع سيشرع قوانين تتفق مع الحلول التي يريد تطبيقها على الحالات الفردية التي تعرض امامه للقضاء فيها. والميزة الثالثة التي يلزم ان تتصف فيها الدولة القانونية هي سيادة القانون,فلايجوز للسلطة التنفيذية ان تتخذ قراراً إدارياً او عملاًمادياً إلا بمقتضى القانون وتنفيذاًللقانون .ويتعين عندما تتخذ السلطة التنفيذة اي إجراء فردي يكون تنفيذاً لقواعد عامة مجردة وموضوعة سلفاً,لكي تسود العدالة والمساواة بين الافراد.وفي الدولة القانونية ينبغي وجود قانون تشرعه سلطة منتخبة من قبل الامة وتمارس السيادة باسم الامة,وخضوع السلطة التنفيذية للقانون يحقق لتلك الهيئة المنتخبة الهيمنة على تصرفات السلطة التنفيذية. اما الميزة الرابعة للدولة القانونية هي ان تكون قواعد قانونية ليست بمرتبة واحدة من حيث القوة والقيمة القانونية بعضها أسمى من مرتبة بعضها الاخر.فالقواعد الدستورية ينبغي ان تكون في قمة الهرم ولايمكن تشريع قانون اخر يخالف القواعد الدستورية ,والقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية يتعين ان تكون اعلى مرتبة من اللوائح والانظمة التي تصدرها السلطة التنفيذية تسهيلاً لعملها.اي بمعنى آخر ان تخضع القاعدة القانونية الادنى للقاعدة القانونية الاسمى من حيث الشكل والموضوع ويستمر هذا التدرج حتى نصل الى القاعدة الفردية الصادرة من سلطة ادارية دنيا. والميزة الخامسة التي يتعين توفرها لكي نطلق على الدولة انها دولة قانونية هي احترام او الاعتراف بالحقوق الفردية لكل المواطنين وحماية هذه الحقوق من تعسف السلطات العامة واعتدائها على هذه الحقوق .ولاشك ان الحقوق الفردية بمدلولها التقليدي الحر,هي ألأقرب إلى تحقيق نظام الدولة القانونية ,لما تفرضه من قيود على سلطات الحكام ولما تتضمنه من امتيازات للافراد. اما الميزة الاخرى التي يتعين ان تتوفر لكي نطلق على الدولة صفة الدولة القانونية هي ان تكون هناك رقابة قضائية على اعمال السلطة التنفيذية وإلزامها بالتقيد سواءا بالشرعية الدستورية أو بالتشريعات العادية,إذ انه مالم يوجد جزاء منظم لتلك القواعد فإنها لن تكون قيداً حقيقياً على نشاط الدولة.ويمكن تنظيم صور مختلفة لهذه الحماية ,حيث هناك الرقابة البرلمانية والرقابة القضائية والرقابة الادارية.والرقابة التي تحققها كل من الرقابة البرلمانية والرقابة ألإدارية غير كافية,لأن الاولى سياسية يتحكم فيها حزب الاغلبية وتخضع لمصالحه ,والثانية تجعل من الافراد تحت رحمة الادارة حيث تكون هي حكماً وخصماً في آن واحد.
فالرقابة القضائية وحدها ضمانة حقيقية للافراد ,إذ تعطيهم سلاحاً يستطيعون ألإلتجاء إلى جهة مستقلة تتمتع بضمانات حصينة من اجل الغاء أو تعديل او التعويض عن ألإجراءات التي تتخذها السلطات العامة بمخالفة القواعد القانونية المقررة. لذلك يلزم توفر سلطة قضائية مستقلة لاتخضع لاية جهة سوى خضوعها للقانون ,وان تتمتع بضمانات كافية لصيانة هذا الاستقلال لتحقيق رقابة فعلة ومنتجة.
وخلاصة القول ان نظام الدولة القانونية قد أصبح حقيقة معترف بها في الانظمة السياسية الحديثة.فالدولة الحديثة ,أياً كان نظامها السياسي ,يقوم على أساس دستوري يحدد للحاكم اختصاصاته ويقيد سلطاته في حدود الاختصاصات الدستورية.وتخضعه لرقابة قضائية تقرر مسؤوليته اذا خرج عن الرسالة التي فوضه الشعب في القيام بها.