23 ديسمبر، 2024 6:39 ص

الدولة العراقية وعدم الاكتراث بالمعالم الأشورية لحضارة العراق

الدولة العراقية وعدم الاكتراث بالمعالم الأشورية لحضارة العراق

يقال: ” إذا أردت أن تعرف حضارة ورقي أي شعب وثقافته فانظر إلى فنونه”، فـ(الفن) هو جوهر كل حضارة ومنبعها، فكما عرف (اليونان) بانجازاتهم الفنية العظيمة وبما أنجزوه في فن النحت وأدب الأساطير والفلسفية، و كما إن دولة (مصر) تعرف بانجازات (الفراعنة) الإبداعية وبما أنجزوه في فن التحنيط وبناء (الأهرامات)؛ فان دولة (العراق) تعرف بما أنجزه (الأشوريين) في منحوتاتهم المذهلة ومن أشهرها (الثور المجنح) وأدب أساطيرهم المدونة في الرقم الطينية، فـ(الفن) ليس لغة لتعبير فحسب بل هو أداة للتغير.. والنهضة.. والتحضر.. والسمو.. والرقي.. والتقدم.. و تحرر الشعوب؛ ومن خلال (الفن) تقاس قيمة حضارة الشعوب، وإذ أردت إن تعلم مدى تطور وازدهار ثقافة أي مجتمع فانظر إلى فنونه والى حجم وعدد المكتبات.. والمتاحف.. والمسارح.. وصلات السينما.. والمسرح.. والى التماثيل والجداريات الفنية التي تزين ساحات المدن وأبنيتها وكيفية تجميل تلك الساحات بالزهور والنباتات، فكلما كثر عددها؛ كلما دل على مدى مساهمة الشعب في تقبل التنوع والتطور وحبه لجمال الأشياء.

فـ(الفن) بكل تشكيلاته هو غذاء العقل والروح؛ وهو ما يدفع الإنسان إلى الرقي من خلال طرح أفكار مشرقة وكل ما يريده ويرغبه لسمو ذاته ولإزاحة قوى الظلام والشر من عالمه، فالثراء الثقافي والفني له دور عظيم في تثقيف الشعب ونشر ثقافة تقبل الأخر والتسامح والوحدة المجتمعية؛ ليواجهوا قوى الظلام التي تحاول تضيق الخناق على الأفكار التنويرية.

فـ(الفن) هو الذي يصنع المجتمع الواعي؛ كما إن المجتمع الواعي هو الذي يصنع (الفن) الراقي، وهذه العلاقة هي التي تبني حضارة الوطن وثقافة المجتمع بناءا سليما، ولهذا فان أية حضارة لا تقاس رقيها إلا بفنونها وما قدمته من انجازات في المجال الإبداعي للفنون؛ كما قدمت الحضارة (الأشورية) و(الفرعونية) و(اليونانية) تاريخ نهضتهم من خلال فنونهم.

فلغة (الفن) هي لغة مشتركة بين كل الثقافات وحضارات شعوب الأرض، وهذه (اللغة) هي آلية التفكير بين الشعوب العالم وأداة لتعارف والتقارب والتواصل بين المجتمعات وثقافاتهم؛ والتي هي من تحفز الفنانين بالارتقاء بفن بلدانهم وإبداعاتهم لإظهار عظمة البلاد من خلال أنشطة (الفن) و(الثقافة) و(العلوم الإنسانية)؛ والتي هي بمثابة هوية الوطن وحضارته والتي تسلط الضوء عن تاريخه؛ باعتبار (الفن) محورا ثقافيا ينشط دورة الحياة على كافة مستويات ليتجاوز حدود المحاكاة من وسطه المحلي إلى محيطه الإقليمي والدولي، ولهذا يعتبر (الفن) وأنشطته الإبداعية ضمير الأمة؛ بكونه مرآة الوطن والمجتمع؛ فهو من يساهم في ارتقاء (الأخلاق) و(الذوق) و(الجمال)، التي هي من أهم سمات ومميزات المجتمعات المتحضرة.

ومن هنا فان (الفن) هو واجهة حضارة أي امة وثقافتها؛ تعرف وتفهم من خلال أنشطته؛ ومن خلاله يقاس حجم الرقي المجتمع وتطوره؛ فكلما ظهرت ملامح (الفن) في إشكال ونصب التماثيل والديكورات في ساحات الوطن وشوارعها و واجهات الأبنية ونظافتها وتزينها بالزهور والنباتات والأشجار؛ كلما يعكس ذلك إلى حجم رقي المجتمع ووعيه الجمالي والفني. لان (الفن) لا يفهم إلا بكونه مرآة صادقة تعكس واقع الحقيقي للمجتمع سواء أكان هذا (الفن) على شكل تماثيل أو مجسمات أو إشكال الأبنية وألوانها وتصاميمها وتنوعها وتعدد قاعات العرض والمتاحف ودور السينما والمسرح، وبما تقدم من عروض مسرحية وأفلام ومعارض تشكيلية وعروض بالية ورقصات فلكلورية وموسيقى و أوبرا، فـ(الفنون) بمختلف أشكالها من الموسيقى.. والنحت.. والرسم.. والعمارة.. والتمثيل.. وعروض باليه وأوبرا.. والسينما.. والمسرح.. والتصوير, على اختلاف مستوياتها وتنوع أصولها، لعبت دورا هاما في تقارب الشعوب، فـ(الفنون) هي خير سفير لتعريف بهوية المجتمع ووعيه والتي تتخطى اللغة وحواجزها، و(الفنون) هي من تعمل على التقارب والتفاهم بين كافة شعوب الأرض لنشر السلام والأمن واستثمار الصداقة بين البلدان لما هو خير لجميع شعوب الأرض.

ورسالة (الفن) تفهم أكثر من خلال تقيمنا لأثار الحضارات التي تسعى كل الأمم الاطلاع عليها؛ فتعمق التأمل بإشكالها وفنونها بشوق وشغف لفهم معالمها ونمط (الفن) المستخدم والمعلومات التي يستشف منها لإثراء العلم والمعرفة؛ والتي منها نكتسب خبرات إضافية ومعلومات عن حضارة أجدادنا لإثراء تفكيرنا ومعرفتنا بكل الاتجاهات الفنية والإنسانية والعلمية والتي على ضوء تلك المعارف يتم توسيع نطاق المدارس الفنية الحديثة والمعاصرة. ولهذا لعب (الفن) بكل تنوعاته وإشكاله؛ دورا مهما في خلق حوار حضاري بين شعوب ارض؛ وهكذا تواصلت الحضارات بين الشرق والغرب وبمختلف اتجاهاتها لتتواصل مع بعضها، لأنه لا يمكن قيام تصور أو بناء تعاون أو حوار حقيقي بين الثقافات والحضارات دون التنوع الثقافي بعيدا عن التزمت والانغلاق؛ بل العمل على إظهار الموروث الشعبي والحضاري ليتم تعريف بالهوية الأمة انطلاقا منها لبناء الحوار الثقافي بين شعوب والمجتمعات باعتبارها قنوات حوار مبنية على حب الاحترام للآخر، لان ميزة (الفن) و روعته هو كونه يحمل في طياته طابع للغة إنسانية راقية؛ ويعمل على التواصل مع كافة شعوب الأرض بلغة سامية وبإحساس عالي التأثير؛ باعتباره جسر لتواصل الحضارات؛ يعبر بمكنوناته رؤاه حول كل مواضيع الحياة التي تشغل الإنسان أينما كان وأينما عاش، ولهذا فان رسالة أي مجتمع متحضر واعي هي إن تكون أكثر رقيا لتواصل مع الآخرين؛ لان معاناة البشرية هي منذ البداية وحتى النهاية وفى كل زمان ومكان واحدة، ولهذا فان انطلاقة (الفن) في رسالته هي أولا وأخيرا لخدمة الإنسانية، وان أي اتجاه يعاكس لهذه الحقيقة إنما يراد منه تشويه المفاهيم الايجابية نتيجة الجهل والأمية لحجم انتشار الفتاوى التكفيرية لقوى الإسلام المتطرف؛ والتي ترفض وتُحرم الفنون – في عصرنا هذا – والتي لا تمد بالقيم الإنسانية من حقيقة سوى التظليل والانحراف ليتم عبر هذا المسار اختلال في تطبيق الموازين والمعايير عن مسار الحق و العدالة وفي معالجة النزاعات واختلافات التي تتطور لتصبح ساحة للخلافات في كثير من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وهذا ما عكس في طبيعة المؤامرة التي تحاك اليوم على ارض (العراق) والتي تشنها قوى الشر والظلام والإرهاب الحزبي لقوى الدينية الإسلامية المتطرفة ضد (الفن) وأثار(الحضارة الأشورية) تحديدا، والتي تحاول إعاقة وعرقلة مسيرة (الفن) ليس في (العراق) فحسب بل في العالم العربي برمته، فما تتعرض إليه أثار (العراق) والتماثيل الفنية المقامة في ساحات الوطن ومتاحفها من تخريب ممنهج هو يشكل نموذجا من مؤامرة سياسية محبوكة وفق أجندات تشترك في تنفيذها جهات محلية وإقليمية ودولية بغياب الوعي ومراقبة المجتمع لهذه الأفعال الإجرامية الشنيعة بحق هوية الوطن المتمثل بحضارته.. وأثاره.. وتراثه.. و فنه، بسبب حالة الفوضى والضياع والتشتت الذي يعيشه الشعب العراقي والشعب العربي، ليتم تدمير وإحراق وتخريب الآثار وسرقتها إمام أنظار سلطات الدولة والحكومة التي انشغلت بتقاسم السلطات وتوزيع المغانم فيما بين الأحزاب الدينية المتطرفة والمتصارعة على السلطة دون الاكتراث بمؤسسات الدولة الاجتماعية.. والثقافية.. والتربوية.. والعلمية.. والفنية.. والاقتصادية، التي لها دور عظيما في حشد جهود الشعب نحو القضايا الوطنية ونهضته.

ولما كان حديثنا عن أهمية التراث والآثار والفنون في بناء نهضة المجتمع، فإننا لابد إن نمعن النظر في مقومات التي تفرزها هذه الجوانب في تهذيب الروح في المجمع الإنساني التي تجعل من الإنسان أكثر وعيا ورقيا، وهي لا محال إفراز من إفرازات ثقافة المجتمع الواعي بكونها مرآة تعكس واقعهم والتي يجب إن ترتقي وتتوجه نحو الإمام دون الانحراف والتراجع؛ وهذا التوجه نحو الإمام والمستقبل يجب إن يكون بمستوى الإحساس بالقيم الجمالية تربويا وأخلاقيا وبالعمل الجاد والوعي والمعرفة والعلم لخدمة القضايا الوطنية ودفاع عن تربة الوطن وتاريخه؛ والتي جلها تمثل عصب نجاح وتطور لأي مجتمع واعي ومتحضر، ومن هنا فان ما يقع على عاتق الفنانين ومؤسساتهم الفنية اكبر لتزكية ثقافة المجتمع ورقي لحضارتهم لخلق نهضة مجتمعية تنهض بالبلد وتنشا أجيالا تخرج منهم قيادات حكيمة تقود نهضة الدولة والمجتمع.

لذلك يتحتم في المرحلة التي نعيشها اليوم بتكالب قوى الشر والجهل والظلام واختلال معاير وموازين ومسار العدل وكل المفاهيم السلبية الغير الصحيحة التي انتشرت في عالمنا العربي لظروف سياسية واقتصادية واجتماعية والتي داهمت حياة مجتمعاتنا في السنوات الأخيرة، لذلك يكون لنخب التي تحمل وعيا معرفيا وعلميا و ثقافيا وفنيا مسؤولية كبرى لتصدي وفضح النوايا الشريرة لقوى الشر والإرهاب وأصحاب الفكر ألظلامي الذين يحاولون إرجاع عجلة الحياة إلى الخلف ونحو التخلف والضياع، وهذا التصدي لا يكون إلا بتبني المفاهيم الايجابية لبناء تنوع فكري وثقافي واحترام الرأي وتقبل الأخر في المجتمع؛ ومواجهة رؤية الجهلاء والأميين والمتخلفين من الأشرار وحاملي الفكر ألظلامي برؤية تنويرية وبأساليب العلم والمعرفة والفن و رسائله؛ التي لها مفاهيم إنسانية راقية بإمكانها إزالة التوترات والنزاعات والاختناقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فبقدر ما يملك (الفن) من رسائل إنسانية وأخلاقية وجمالية، فان إبعادها وتأثيراتها تفوق على الإعمال السياسية وحتى العسكرية، لان رسالة (الفن) لا تنفصل عن السياسة؛ لان هناك روابط فيما بينهما؛ وهذا الرابط لا يحسها إلا المبدعين في قضايا الإنسانية والوطنية، لان (السياسة) و(الفن) ما هي إلا محصلة لقدرات اقتصادية واجتماعية وثقافية، لان (الفن) هو احد عناصر الفاعلة والمحركة في السياسة، فـ(الفنان) وما يقدمه من أعمال إبداعية هي رسائل يفهمها المجتمع بكل تنوعاته وفئاته وطوائفه ومذاهبه وأديانه وقومياته، وليست رسائله موجهة حكرا لقومية ودين وطائفة ومذهب بعينه، لان رسالة (الفن) رسالة سامية تتوجه للإنسانية جمعاء دون تميز، لان كل ما يقدمه الفنان إنما يأتي بهدف توصيل رؤيته وفكره جماليا لكل المتلقيين مهما تعدت ثقافاتهم وأذواقهم وميولهم؛ وكل فرد يحلل العمل الإبداعي حسب ثقافته وحريته ووعيه، ومن هنا فان رسالة (الفن) تعمل كوسيلة ايجابية لتكوين الوعي وتنشيطه في الفكر الإنسان وبما يتعلق بقضايا الوطنية والإنسانية، ولهذا فان رسالة (الفن) منذ فجر التاريخ والى يومنا هذا اعتبر (الفن) وسيلة من وسائل الحوار والتواصل بين المجتمعات – حسيا – متجاوزا حدوده المحلية، لان منطلقات لغة (الفن) تفهم من قبل كل الأمم والأعراق والجنسيات، لان لغة (الفن) هي محور تستشف تعبيراتها من خلال رؤية إنسانية لجماعة (ما)، بكل ما تحمل من قضايا ضمن نسيج حضارتها وتطورها؛ ومن ثم يتوسع نطاقها ليشمل كل المجتمعات في العالم، والتاريخ يوضح ذلك في مجمل معطيات ومفاهيم المجتمعات ضمن حدود الإبداع والتي توضح طبيعة ألبنيته الأساسية والعقائدية للمجتمع؛ ومن ثم تتوسع بما تسعى للارتقاء ضمن طبيعة الإنسانية، وهذا ما تم تجسيده عبر إبداعات الفنانين في العصور القديمة والحديثة، وهو الإطار الذي بني فيه الفنان (الأشوري) في حضارة وادي الرافدين – العراق الحالي – تراثه وفنه، ليتم تسليط الضوء عن طبيعة المجتمعات (الأشورية) آنذاك؛ التي هي من أوائل المجتمعات في تاريخ حضارة العراق والعالم؛ والتي استطاعت إن تبني حضارتها عبر انجازات رائعة شملت كل جوانب الحياة المعرفية والعلمية والفنية؛ وقد استخدم الفنان (الأشوري) النحت الحجري البارز؛ فرسم ونقش منحوتات على الجدران (الآجرية) والتي كانت تقام وتجسم فوق أساسات حجرية حول ساحات مدنه أو داخل القاعات، عبر فيها عن طبيعة أنشطة الحياة التي كانت سائدة آنذاك، وقد اعتبرت الفترة ما بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد العصر الذهبي لـ(الفن الأشوري)، بما امتاز بالبراعة والابتكار والتأليف والتعبير؛ ليوضح الفنان عن مدى ما بلغت الإمبراطورية (الأشورية) في وادي الرافدين من قوة ورفعة ملوكها سواء في (نينوى) أو (نمرود) أو (بابل)؛ وقد كان الفنان (الأشوري) حريصا على التعبير الصادق لكل أنشطة الحياة وإظهارها بشكل الذي كان يلبي طموحات ملوكهم في بناء حضارة شامخة ليتم عبر إعمال الفنانين تسليط الضوء على انجازاتهم كمؤرخين لإحداث تلك العصور، فعملوا النحاتين على تطريز قصور الملوك بالمجسمات مذهلة لتعبير عن عظمتهم، وكان من بين تلك المجسمات والتي وجد منها أعداد كثيرة وبإحجام مختلفة في مختلف بقاع (الإمبراطورية الأشورية) هو تمثال (الثور المجنح) الذي يعتبر والى يومنا هذا من ابرز منحوتات الحضارة (الأشورية)، والتي يعتبر رمزا لتلك الحضارة لحجمه الكبير ولكثرة عدد ما تم نحته و ما تم اكتشافه من قبل بعثات الآثار، و تمثال (الثور المجنح) يتكون من رأس إنسان وأجنحة عملاقه وجسم ضخم لثور نحت بشكل تعبيري منسق في غاية الدقة والروعة والجمال؛ ومن صفاته المميزة أن له خمس قوائم تظهر أربع منها إذا شوهد من الإمام وتظهر الخامسة إذا شوهد من الجانب، لنستشف بان الفن (الآشوري) أبدعه الفنان في ذلك العصر بمظاهره المختلفة معبرا عن قوة المملكة ورفعة ملوكها، حيث لم يسبق في تاريخ أية إمبراطورية في العالم إن يحكم الدولة 116 ملكا إلا في عصر (الإمبراطورية الأشورية)، وهناك مجسمات لهذا (الثور) من أربعة أرجل أيضا، ليجمع هذا التمثال بين (ألقوة) و(الحكمة) و(السلطة)، فتم تجسيد ذلك في هذا المخلوق الذي نسميه بـ(الثور المجنح) كرمز للعنفوان والقوة والشراسة، والذي كان يعبر عن (قوة) المملكة (الأشورية) المتمثلة بملوكها؛ وقد استخدم الفنان (الأشوري) تعبيرات متعددة في هذا التمثال ليجسد فيه معاني متعددة التعبيرات لمفاهيم أراد تسليط الضوء عليها في هذا المنحوت الذي يعتبر اللبنة الأساسية لمدرسة (الفن التعبيري)، فعبر الفنان في هذا التمثال عن مفهوم (الحكمة) التي كان يتحلى بها ملوك (أشور) بتجسيد رأس (الثور) برأس إنسان الذي يمثل شكله بهيئة (الملك) بلحيته وهيبته ورؤيته ووقاره؛ إما تعبير الفنان عن (السلطة) – فقد عرفت (الإمبراطورية الأشورية) بتوسع إدارة سلطاتها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؛ حيث توسعت بشكل مذهل لدرجة التي سموا ملوك (أشور) ملوك الجهات الأربع – فتم تجسيد ذلك بإظهار (الثور المجنح) بخمسة قوائم لدلالة عن إن القوائم الأربع هي قوائم التي تحكم المملكة (الأشورية) على الجهات الأربع؛ ويكون ارتكازها في قلب (نينوى) عاصمة (الإمبراطورية الأشورية) بتمثيل ثبات الحكم فيها بالقائم الخامس (لثور المجنح)، بينما تم نحت (الثور) بوجود أجنحة كبيرة له تعبيرا بان (الملك الأشوري) قادر على الوصول كالطير العملاق لأي بقعة من أراضي الإمبراطورية بسرعة هائلة، وتم تجسيد ذلك بجعل التمثال ضخما وكبيرا – دلالة عن العظمة – ليصل طوله إلى نحو أربعة أمتار ونصف المتر ووزنه يصل إلى 30 طنا، وقد اكتشف هذا المنحوت الضخم من قبل عالم الآثار البريطاني (اوستن هنري لايارد 1871 – 1894) الذي قام بنقل أعداد كثيرة من هذه الآثار لثيران المجنحة إلى (لندن) من (نينوى) وغيرها من المدن (الآشورية)، حيث توجد اليوم في المتحف (البريطاني) إضافة إلى أنواع لا تعد وتحصى من الآثار (الأشورية) والرقم الطينية؛ والتي في مطلع هذا العام 2019 قام المتحف البريطاني في (لندن) عرض قسم من الآثار (الأشورية) التي لم تعرض سابقا ومن ضمنها محتويات من المكتبة الملكية للملك (الأشوري) العظيم (أشور بنيبال)، كما إن وجود الآثار (الأشورية) لحضارة (العراق) لا يقتصر وجودها في (بريطانيا) فحسب بل يشمل وجودها في متاحف عديدة من مدن العالم ومن أشهرها (باريس) و(برلين) و(نيويورك) و(شيكاغو).

ومن هنا نستطيع القول بان الفن (الأشوري) في حضارة وادي الرافدين تميز بمظاهر متعددة كان أبرزها النحت البارز والمجسم، واعتبر تمثال (الثور المجنح) من أهم مميزات هذه الحضارة بما يتضمن من رموز (القوة) و(السلطة) و(الحكمة) – كما قلنا – وهذا ما يفسر بكثرة أعداد المكتشفة من هذا التمثال في بلاد الرافدين وسوريا؛ ليصبح رمزا لهوية الحضارة (الأشورية)، ورمزا لهوية العراق الحضارية.

ولا شك فان أثار (العراق) التي هي جلها وأغلبيتها من اثأر الحضارة (الأشورية) وهو دليل لحجم التطور الثقافي والمعرفي والعلمي والعسكري التي وصلت إليه هذه الحضارة ليتم عبر (الفن) تدوين تاريخ ذلك العصر الخالد ليبقى في ذاكرة الوطن (العراق) رمزا من رموز عزها ومجدها لا يمكن تجاوزه وتجاهله بأي شكل من الإشكال؛ كما يفعل اليوم بعض من أصحاب الفكر ألظلامي ومن الإرهابيين المتطفلين على الفكر الحضاري والإنساني وعن مجد حضارة (العراق) الذي هو (حضارة الأشوريين) في وادي الرافدين بصورة عامة. وما استهداف (الثور المجنح) من قبل فصائل ما يسمى بالدولة الإسلامية الإجرامية (لدواعش)، كما حدث اثر احتلالهم لمدينة (موصل) في عام 2014 وقيامهم بتجريف مواقع الآثار (الأشورية) في المدينة وتدمير المتاحف وقيامهم وبشكل متعمد بتخريب أكثر من تمثال لـ(الثور المجنح)، وما هذه الممارسات الإجرامية إلا كونها تأتي ضمن هذا المسلسل لاستهداف التراث الإنساني والفكري والحضاري وإلغاء الأخر ومصادرة حق التعبير والحرية والفكر التنويري.

ولهذا فان لاستهداف تمثال (الثور المجنح) له أكثر من هدف ومغزى، ولهذا يتم استهداف هذا الرمز بكونه إحدى رموز للهوية الحضارة (الأشورية) في وادي الرافدين ورمزا للعراق الحر، ولهذا يتم استهدافه ليس من قبل أصحاب الفكر المتطرف من الإرهابيين؛ بل يتم تجاهل أهميته وقيمته كرمز للهوية العراقية ولقيمته التراثية والفكرية والفنية من قبل سلطات (الدولة العراقية) منذ تأسيسها في ثلاثينيات القرن الماضي والى يومنا هذا، وهذا يعزي لأسباب عديدة أهمها هو غياب الوعي الفكري والثقافي بقيمة التراث والآثار في نهضة الشعوب، لهذا تعرضت اثأر (حضارة العراق – حضارة الأشورية) إلى إهمال وعدم الاكتراث بقيمتها وأهميتها، ولهذا تم وبأسلوب ممنهج سرقتها ونقلها إلى شتى دول العالم، واليوم أكثر الآثار (العراقية – الأشورية) أهمية وذو قيمة وتقنية فنية عالية موجودة في أشهر متاحف العالم في بريطانيا.. وفرنسا.. وألمانيا.. وأمريكا، وهناك تعطى لها من اهتمام ما لا يتصوره العقل؛ حيث تقام عنها دراسات وبحوث ما لا يتم المقارنة بين ما تم بحثه داخل جامعات الوطن (العراق) وما تم بحثه في الجامعات الغربية، بل إن الأمر يتعدى حدود ذلك، إذ إن كل الحكومات المتعاقبة على إدارة الدولة (العراقية) لم تطالب بأحقيتها بهذه الآثار وإرجاعها إلى الوطن، بل إن الدولة لم توسع نطاق البحوث والاكتشافات عن مواقع الآثار وصيانتها، ولا الأكاديميات (العراقية) ركزت في بحوثها عن الآثار إلا ما ندر؛ بقدر ما يتم بين حين وأخر تقدم بحثا أو رسالة دكتوراه عن الآثار (العراق) وعن الرقم الطينية التي تزخر بمعلومات علمية ومعرفية، بينما نجد الأكاديميات وجامعات العالم وعلماء الغرب ما زالوا لحد هذه اللحظة يواصلون البحث والدراسة عن كنوز المعرفية التي تم تدوينها في الرقم الطينية المكتشفة في مكتبة الملك (أشور بنيبال) وتحليل رموز التماثيل والآثار، ولهذا فان كثير من تلك المعلومات التي تخص الحضارة (الأشورية )، حضارة (العراق) تم سرقتها من أطرف عديدة وتم تحويرها ونقلها ونسب أفكارها وأحداثها إليهم وكل وفق هواه دون وجود رقيب ومتابع من قبل الدولة (العراقية)، وهذا الإهمال والتجاهل هو ذاته كان حاضرا حين تم بيع جداريه من الآثار (الأشورية) في مزادات مدينة (نيويورك) إحدى مدن (الأمريكية) في مطلع هذا العام 2019، في حين وقفت وزارة الخارجية (العراقية) وحكومتها تتفرج وتسمع أخبار المزاد بدم بارد، وعلى نحوهم لم تكترث وزارة الثقافة (العراقية) التي لم تشارك في المزاد لشرائها رغم أن ثمنها لم يكن يساوي إلا جزءا قليلا من الأموال التي يتم نهبها يوميا من خزينة الدولة…!

ومن هذه الحقائق وغيرها الكثير.. الكثير، ولا نستطع القول هنا سوى كون أمر هذه المشاهد مؤسفة حقا؛ بان سياسيي الدولة (العراقية) ليسوا مهتمين بإرث وحضارة وتاريخ بلدهم لا من قريب ولا من بعيد، وكل ما يحدث يعزي لكثير من الأسباب؛ منها فنية ومنها ما هو متعمد ولأسباب إيديولوجية وسياسية، ولهذا أصاب هذا الجانب ما أصابه من إهمال وتهميش إلا ما يتم بين فترة وأخرى ولإغراض إعلامية – ليس إلا – اتخاذ بعض الإجراءات الايجابية باتجاه التراث وآثار (الحضارة الأشورية – حضارة العراق)، حيث يتم اتخاذ بعض من رمز الآثار صورة للعملة الوطنية، أو إقامة تمثال أو نصب تذكيري كما تم مؤخرا بتجسيد أحدى أساطير الخلق الأشورية (كلكامش) في نصب تمثالي أقيم في مدينة (بغداد)، أو اتخاذ شعار لمؤتمر، أو ندوة تقام هنا أو هناك، ولكن في المجمل لم يتخذ أي رمز من رموز الآثار (الأشورية) كرمز لهوية الدولة أو شعارا رسميا لدولة (العراقية)؛ إلا في عهد الزعيم (عبد الكريم قاسم) رئيس جمهورية العراق (1914- 1963) حين اتخذ – رسميا – صورة شعار الجمهورية (العراقية) آنذاك من احد رموز المتواجدة في الآثار (الأشورية) ولكن بعد اغتياله تم إزالة ذلك الشعار؛ بل تعد الأمر إلى إن حتى على مستوى أمانه العاصمة في (بغداد) أو في بقية مدن (العراق) – وفي كل العهود – لم يشرعوا بإقامة نصب لتماثيل يجسد عظمة الحضارة (الأشورية)، بينا نجد لها اهتمام في المدن الغربية؛ حيث أقيم تمثال ضخم من النحت المجسم للملك (أشور بنيبال) إمام المكتبة الوطنية في مدينة (سان فرانسيسكو) في (أمريكا)؛ باعتبار إن الملك (الأشوري) العظيم (أشور بنيبال) هو أول مؤسس أسس مكتبة في العالم قبل سبعة ألاف سنه في (بلاد أشور) بلاد (العراق) الحالي، حيث تعتبر مكتبة (أشور بنيبال) أقدم مكتبة أسست في تاريخ العالم والتي احتوت على ما يزيد عن ثلاثة ألاف لوح ورقم طيني وحجري آنذاك، بل إن في العاصمة البريطانية (لندن) تم وضع تمثال لـ(الثور المجنح) في أشهر ساحات (لندن) في ميدان (الطرف الأغر)، بينما لم نجد إي نصب يقام لتمثال ( الثور المجنح) في (العراق)؛ هذا الرمز لهوية (العراق) والمميز بأسلوبه وبقيمته الفنية وبالتقنية التعبيرية وما له من رموز لجبروت ملوك وانجازات حضارة (الأشوريين) – حضارة (العراق)، التي تعتبر من أعظم حضارات في التاريخ لحجم الاكتشافات والانجازات التي اكتشفوها (الأشوريين) في بناء حضارتهم العريقة في وادي الرافدين.

وهذا الإهمال بالتراث والحضارة، هو الذي جعل الإرهابيون (الدواعش) يعبثون بآثار (العراق) ويقومون بتهريب وبيع أكثر من 7000 قطعة أثرية من حضارة (الأشورية) في (نينوى)، جرى نهبها عام 2004 ، عدا ما تم لهم من تخريب وتجريب مواقع الآثار، ناهيك على ما تم سرقته من مخطوطات واثأر اثر احتلال العراق من قبل الأمريكان في عام 2003، وهذه الأفعال والجرائم بحق التراث وحضارة وادي الرافدين أتت نتيجة غياب الوعي وتدهور حالة الثقافة في الوطن؛ لدرجة التي وان أقيم نصب لتخليد هذه الحضارة فانه يكون معرض للإهمال والتلف بسبب عدم رعاية الدولة ورجال السلطة بـ(الفن) والتراث والحضارة وعدم المبادرة بإصدار تشريعات تدعم هذه الأنشطة في الدولة لتبادر الجهات ذات العلاقة باهتمام بمظاهر الفنية لتجميل ساحات الوطن بمعالم الحضارة (الأشورية) حضارة (العراق).

وما حدث في (مطار بغداد الدولي) في مطلع شهر (نيسان) الماضي 2019 اثر قيام الجهة المسئولة عن (المطار) برفع تماثيل لـ(الثور المجنح) التي كانت تزين إحدى مداخل المطار؛ و(الثور المجنح) – كما قلنا – يمثل احد أهم الرموز التاريخية لحضارة (الأشورية) حضارة وادي الرافدين (العراق) الحالي، اعرق وأعظم حضارة عرفتها البشرية، حضارة تمتد جذورها إلى أكثر من سبعة ألاف سنة؛ والذي يُذكر جميع الزائرين والمسافرين بعراقة هذا الوطن (العراق) وحضارته، ومن ثم نظرا لاعتراض وتنديد الناشطين في مؤسسات المجتمع المدني والفنانين العراقيين وتقديم شكاوى إلى مجلس (النواب العراقي) بما قامت بفعله الجهات المسئولة عن (مطار بغداد) برفع تماثيل لـ(الثور المجنح) باعتباره رمز لهوية العراق، مما اضطرت هذه الجهات بإعادة التماثيل إلى مواقعها وفي قرار نفسها هي (غير مقتنعة) بوجود تمثالين لـ(الثور المجنح) عند إحدى مداخل المطار، لأنه إذ كانت مقتنعة بقيمة ورمزية هذا التمثال لما أقدمت على رفعة، ولكن نتيجة الضغوطات التي مورست عليهم جعلتهم يعيدون التماثيل لـ(الثور المجنح) إلى مواقعها؛ فان الأمر – لا محال – سيتكرر متى ما يجدوا هؤلاء المسئولين عن (المطار) فرصتهم في غياب رقاب الدولة؛ ليتم رفع وإزالة هذه التماثيل لـ(الثور المجنح) الذي يمثل هوية العراقية …..!

لأنهم يجهلون قيمته التراثية والحضارية ورمزه الوطني وبما يمثل من قيمة عالية في العلم والمعرفة والفن في تاريخ (العراق) وحضارته الإنسانية، لأن رفع التماثيل لـ(الثور المجنح) ومن ثم إعادتها – مرغمين – أنما يؤكد تصرفهم بعدم اكتراثهم بإرث وحضارة بلدهم بقدر تسابقهم في البحث عن مصادر العبث والفساد، لأنهم لو كانوا حريصين – وهم واجهة سياحية في الدولة لعراقية – لتسليط ضوء مشرق للوطن (العراق) لما كانوا فعلوا ذلك، لان (السياحة) اليوم أصبحت (فن الصناعة)، وإحدى مظاهر تنشيط هذه الصناعة هو إظهار معالم الحضارية لدولة (العراق) لسائح؛ ليتم تعريفه بهوية الوطن، وهوية الوطن تعرف بفنونها وكما قلنا في بدا حديثنا، ” إذا أردت أن تعرف حضارة ورقي أي شعب وثقافته فانظر إلى فنونه “، باعتبار (الفن) إحدى أهم مقومات السياحة؛ وحينما نكون بمستوى المسؤولية و حريصين لتنشيط (فن السياحة) في البلد لا بد لنا إن نهتم بإبراز المعالم الحضارية لدولة (العراق)؛ ولابد لقائمين بهذا المجال وضح إستراتيجية واضحة المعالم لتنمية أنشطة السياحة في البلد لا إلى إزالة مجسمات تؤشر إلى حضارة وادي الرافدين والى أثاره وفنونه ومعرفته التي هي مدار فخر كل شعوب الأرض بما أبدعة العراقيون القدامى (الأشوريين) من خلال فنونهم وانجازاتهم المعرفية والعلمية التي أغنت المعرفة الإنسانية، وعلية لابد إن تعي الدولة مخاطر العبث وعدم الشعور بالمسؤولية بمثل هكذا تصرفات بعيدا عن وجود أية جهة رقابية ومحاسبه العابثين بالمعالم الحضارية للدولة – فلا محال – فان المعالم التاريخية والحضارية من العاصمة (بغداد) وبقية المحافظات ستكون هدفا لقوى الجهل والظلام لطمس هوية (العراق) وإنجازاته الحضارية والتاريخية والتي أغنت المعرفة الإنسانية، فعدم الاكتراث بأهمية الإرث الحضاري والمعالم الحضارية لدولة – لا محال – سيترتب عنه جملة من الأخطاء تمس واقع المعرفي والثقافي والعلمي، لان تقدم وتحضر الشعوب ونهضتهم لا يتم إلا من خلال الارتقاء بمعالم الإرث الحضاري وتنشيط محاوره في لغة الحياة اليومية من خلال الفن والعلوم والإبداع الثقافي والسياسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي لزيادة الوعي عند أبناء الشعب بارتباط جذورهم بحضارة وطنهم، لان هوية الوطن لا تعرف إلا من خلال تاريخ حضارتهم، وهي التي تساهم في تكوين الانتماء إلى الوطن وترسخ في نفوس المجتمع قيم الوطنية واعتزازهم بالوطن وهي التي تعزز وحدة الشعب وتلاحمه وتقبله للأخر؛ وهذه الروابط هي التي تساهم بالمحافظة على تاريخ الوطن ومعالم الحضارة وأثار البلاد باعتبارها الهوية التي تجمع الشعب بكل أطيافه وتنوعاته الدينية والقومية؛ والتي تساهم في تقريب انتمائهم للوطن ومتى ما أدرك الإنسان بهذا الانتماء وسعى مداركه بأهمية حفظ على آثار وتراث حضارته التي عاشت فيها وانتمى إليها .